زمن ما بعد كورونا في العالم كله ليس قطعا هو الزمن الذي سبقه، وحيث أن آثار الجائحة لا زالت مستمرة إلى اليوم في كل الدنيا، كما أن تداعياتها تضاعفت حاليا جراء الحرب الروسية الأوكرانية، وانتشار أزمات متعددة تعاني منها شعوب ودول كثيرة بمختلف القارات، فإن أوضاع العالم اليوم تعتبر غير مسبوقة، وجعلت الكثير من المحللين يخلصون إلى أن ما أبرزه زمن الجائحة من نقائص وتجليات عجز، وأيضا ما أحدثه من قطائع في النظرية والممارسة معا، كل هذا وضع المنظومة الليبرالية كلها، والدول الغربية أمام مساءلة وجودية للذات.
وعندما نشبت الحرب في أوكرانيا وتفاقمت المواجهة بين الناتو وروسيا، صار لافتا أيضا أن النظام العالمي الذي تكرس خلال العقود الثلاثة الأخيرة، منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، بات كذلك في عمق السؤال بشأن الجدوى والصلاحية والمسؤولية والمستقبل.
هذه التحولات الكونية العميقة والجدرية وضعت أمام الإنسانية اليوم سؤال الأسس النظرية والفكرية الناظمة لسياسات إدارة شؤونها وقضاياها وعلاقاتها ومصالحها.
العقل الليبرالي، بشكل عام، أصابه الارتجاج أمام توالي الأزمات والهزات، وعانق، في البداية، الشعارات اليسارية وتبناها، على غرار: الدور الاجتماعي للدولة، الحماية الاجتماعية، الصحة العمومية، المدرسة العمومية، العدالة الاجتماعية، الاقتصاد الحمائي والانتصار للمصالح الوطنية القطرية…
ولكن لحد الآن، لا يزال الخطاب الليبرالي، بشكل عام، لم يخرج عن العموميات، وعن إيجاد مخارج وحلول للأزمات الآنية، والبحث عن الانفراج في الأزمات الظرفية الضاغطة، ولم يتجرأ بعد على صياغة تفكير نظري شمولي ومختلف يهدم الأسس التقليدية التي هدمتها أصلا قطائع الجائحة وما شهده العالم بعدها من تغيرات وصدمات.
ويمكن أن نستدل على ما سلف بوقائع ميدانية عملية من ظروفنا المجتمعية نحن، هنا والآن، حتى لا نبقى فقط في دوائر التجريد والأفكار والقطائع المعرفية.
حكومتنا الحالية، التي تعاني أصلا من ضعف المضمون السياسي في ممارستها وتفكيرها، وينعدم لديها التواصل مع الرأي العام الوطني والحضور الفاعل في المشهد السياسي، تكتفي اليوم، هي أيضا، بتدبير الأزمات التي تلف واقعنا الاقتصادي والاجتماعي، وتبحث عن حلول ومخارج في التدبير، كما أنها تختبئ، خطابا وكلاما، وراء شعارات عامة لا تبالي بكونها تستوردها من مرجعيات أخرى، أي من خارج الفكر الليبرالي الذي يوحد مكوناتها الحزبية.
حكومتنا أيضا تجتر خطابات عمومية بلا أي شجاعة في الذهاب بعيدا نحو بلورة أجوبة لما يطرحه الواقع الوطني اليوم، وما تفرضه أزمات العالم وتحدياته.
الحماية الاجتماعية، وتطوير مستويات عيش الناس، الصحة والتعليم والشغل، هي كلها، بالنسبة لحكومتنا، شعارات تتطلع أن تحققها، أو أن تقنع بها الناس، ولو بلا أي أثر فعلي يلمسونه في حياتهم اليومية، أي أن تبقى شعارات للاستهلاك بدون أي فعلية ملموسة، أو على الأصح من دون أن يعني تحقيقها تغيير مرجعيات التفكير الكبرى، ومن دون أن يعني ذلك تناقض الأمر مع استمرار تفضيل مصالح اللوبيات الريعية المستفيدة، ومن ثم بلا تقوية أسس دولة القانون في المجال الاقتصادي والمالي، وبلا تغيير المرتكزات الأساسية التي من شأنها إحداث الأثر في النتائج والمنجزات.
ويلاحظ الجميع اليوم أن هذه العقلية التدبيرية الحكومية يجسدها ما نحياه من تردد واضح في الإقدام على قرارات أساسية تستحضر ما يعانيه العالم من أزمات ومخاطر، وما تواجهه بلادنا من مشكلات، وحتى المقتضيات الإيجابية التي تضمنها دستور 2011 لا تزال في حاجة إلى شجاعة قصد تفعيلها وإعمالها على الأرض، وهي تتطلب إرادة واضحة لتعزيز المنجز التنموي والديموقراطي في بلادنا، وبالتالي تمتين ثقة شعبنا وشبابنا في البلاد، وفي المستقبل، وفي الفكرة الديموقراطية.
من جهة أخرى، وفي مقابل كل ما سبق، لم تعد الأوضاع في العالم برمته، وبالنسبة لواقعنا الوطني أساسا، تتحمل فقط مواصلة نقد الأوضاع أو فضح التجاوزات والأزمات، وكشف النقائص والتناقضات، ولكن يتطلب الأمر إعمال التفكير والاجتهاد لصياغة البدائل التي تستثمر ما برز من قطائع، وتسعى لبلورة حلول ومداخل لتحقيق العدالة ورفاهية الإنسان.
هذا التحدي مطروح اليوم على الفكر اليساري بقوة، وبالفعل هناك اجتهادات في عدد من الجغرافيات السياسية عبر العالم، وهو ما يفرض أيضا تفعيل هذا الحوار السياسي والفكري في بلادنا.
هي مسؤولية القوى السياسية التقدمية أولا، ولكن أيضا هي مسؤولية المفكرين والفلاسفة والمثقفين والباحثين لإثارة النقاش، وعرض الأفكار، والجدل بشأنها، للوصول إلى صناعة رؤية فكرية وبرنامجية متكاملة من أجل المستقبل.
أوضاع العالم كله دقيقة اليوم، وتلفها مخاطر وتحديات، وبلادنا معنية بمختلف الأسئلة والرهانات، ولهذا لم تعد العموميات مجدية، وصارت الحاجة ماسة إلى الفكر والرؤية، وإلى… السياسة.
<محتات الرقاص