” بيان اليوم ” تحاور الدكتور مصطفى أحمد علي الأستاذ الجامعي والخبير التربوي السوداني

رغم التفاؤل الحذر، بعودة الهدوء إلى العاصمة السودانية الخرطوم، بعد “إعلان جدة” الذي وقع عليه طرفا النزاع تحت إشراف سعودي أمريكي، إلا أن الأخبار التي تناقلتها وسائل إعلام دولية، تفيد استمرار الاشتباكات والاقتتال بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع سواء داخل العاصمة الخرطوم، أو في وسط ولاية دارفور.
استمرار هذه الأحداث الدامية، يزيد من تدفق السودانيين نحو دول الجوار والمناطق الآمنة، خوفا من تعرضهم للخطر وسط انتشار الفوضى التي انتشرت معها أعمال السلب والنهب، حيث تشير المعطيات التي عممتها الأمم المتحدة، إلى نزوح أكثر من مليون سوداني داخل البلد، فيما لجأ ما لا يقل عن 300 ألف آخرين إلى دول الجوار التي تشهد بدورها أزمات.
الدكتور مصطفى أحمد علي الأستاذ الجامعي والخبير التربوي، الذي اعتاد قضاء فصل الشتاء بالخرطوم، وفصل الصيف في بلده الثاني المغرب، صادف وجوده هناك في السودان اندلاع الأحداث في 15 أبريل الماضي، بين قوات محمد حمدان دقلو، المعروف على نطاق واسع باسم “حميدتي” وقوات الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان.

               الدكتور مصطفى أحمد علي

عاش الدكتور أحمد علي هو وزوجته لحظات عصيبة، قبل أن يتمكن هو وأفراد من أسرته من النزوح إلى منطقة آمنة بشمال السودان والتي عبر منها إلى مصر ثم إلى المغرب.
في هذا الحوار الذي أجرته معه جريدتا “بيان اليوم”ّ و “البيان”، يكشف الدكتور مصطفى أحمد عن الكيفية التي استطاع بها الخروج من الخرطوم، وعن وجهة نظره بشأن هذه الأحداث التي قال إنها كانت متوقعة.

صادف وجودك أنت وزوجتك، بالسودان، اندلاع الأحداث بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، كيف تمكنت من مغادرة الخرطوم؟
< كنت قد رتبت تاريخ عودتي إلى المغرب وكان محددا في يوم 20 أبريل المنصرم، وكان الحجز عن طريق القاهرة، فأنا عادة ما أقضي فصل الشتاء في السودان، وفصل الصيف في المغرب.
ويوم 15 أبريل الماضي، أي خمسة أيام قبل موعد سفري أنا وزوجتي إلى المغرب، عبر مطار القاهرة، حدثت هذه الكارثة المتمثلة في اندلاع مواجهة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع (قوة شبه عسكرية)، هذه المواجهة كان الجميع يتوقعها، لكن لم يكن أحد يتوقع متى ستندلع الشرارة الأولى، فوجود جيشين بدولة واحدة هو أمر شاذ وغير مقبول، وكان حتما سيؤدي إلى نشوب صراع بين الطرفين.

على إثر تلك الأحداث، قررت تأجيل موعد السفر إلى حين تهدأ الأوضاع، ويحدث انفراج، لكن لما تعقدت الأمور، قررت أن أتدبر أمري وكان أول ما فعلت هو أني وضعت سيارتي في دار أخرى غير داري المعرضة للاقتحام في أية لحظة، كسائر دور الخرطوم، لأنه خلال هذه الفترة، بدأ الناس ينزحون من الخرطوم، بسبب الاقتتال العشوائي، وبدأ الناس يتعرضون للسلب والنهب، وبالتالي أصبحت هناك فوضى، فقد بلغ عدد النازحين من السودان إلى حدود تلك اللحظة، ما يقارب ربع مليون نازح إلى دول الجوار، إثيوبيا ومصر على وجه التحديد.
وبعد مرور أسبوع قررت أنا وزوجتي السفر إلى مسقط رأسي بشمال السودان ومنه أعبر إلى مصر، وقمت بالاتصال بعض أفراد العائلة من الإخوان والأخوات وأبناء العمومة، وطرحت عليهم فكرة النزوح، وسألتهم من له الرغبة في ذلك، دون أن أطلب منهم ترك منازلهم والنزوح معي إلى الشمال، لأن القرار يعود لهم، ولا أريد أن أشارك فيه، وأحمل تبعاته.
تدبرت أمري وحجزت 15 مقعدا على متن حافلة تربط بين الخرطوم والشمال، ولما كنا نتواجد في شرق الخرطوم وكنا نريد الذهاب إلى غرب أم درمان اتجاه الشمال غرب النيل، التقيت على الساعة السابعة والنصف صباحا مع كل أفراد الأسرة الذين عبروا عن رغبتهم في الذهاب، وركبنا الحافلة على الساعة الحادية عشرة من نفس اليوم، وحتى لا نخرج من الخرطوم كان علينا أن نغير الطريق، ونلتف حول طريق طويل حتى نتفادى نقاط التفتيش التي كانت تسيطر عليها قوات الدعم السريع، واستغرقت الرحلة حوالي ساعتين، عوض نصف ساعة بالمرور مع الطريق العادي والمعتاد.
ولما وصلنا إلى شمال السودان أستقر أفراد العائلة هناك، وواصلت الطريق أنا وزوجتي بعد تغيير الحافلة، لأننا كنا ننوي المجيء إلى المغرب، ووصلنا معبر”ارقين” الحدودي. واتضح أن سائق الحافلة لم يكن لديه تصريح، واضطررنا لقضاء ليلتين في الحدود وبعدها دخلنا إلى مدينة أسوان المصرية وقضينا بها ليلة واحدة، ومنها آخذنا القطار إلى القاهرة التي مكثنا بها أسبوعا كاملا، من أجل استكمال إجراءات الحجز والسفر من مطار القاهرة إلى مطار محمد الخامس بالدار البيضاء.

> بعد مغادرتك السودان، كيف هي الأوضاع الآن، وفق الأخبار التي تصل من هناك؟
< هناك إلى حدود هذه اللحظة، أخبار متضاربة، بعضها يقول إن الجيش هو المسيطر، والبعض الآخر يقول إن قوات الدعم السريع تسيطر على الخرطوم، هذه الأخيرة يقولون إن لديها قوة تتكون من 100 ألف مقاتل، وهي مركزة في الخرطوم، والجيش السوداني لديه 200 ألف مقاتل لكنهم منتشرون على امتداد التراب الوطني.
فعلى الرغم من أن الجيش متفوق على قوات الدعم السريع من حيث نوعية الأسلحة كالطائرات والدبابات والمدفعية، إلا أن قوات الدعم السريع لها قدرة على الحركة ويتواجدون بمناطق آهلة بالسكان المدنيين، ويتقنون حرب العصابات، وبالتالي الجيش مقيد الحركة، وهم يسيطرون على القيادة لأنهم أخذوا ضباط من الجيش رهائن وأسرى، حتى يمنعوا الجيش من استهدافهم خوفا من إصابة الضباط أو التضحية بهم.

في نظركم، كيف أصبح يمتلك حميدتي كل هذه القوة، وفي ظرف قياسي؟
< إذا تتبعنا تاريخ إنشاء قوة الدعم السريع، فإن ظروف وأسباب النشأة معروفة لدى الجميع، فهي مرتبطة، أساسا، بالتمرد الذي حدث في دارفور، ومرتبطة أيضا بالتناقضات العرقية الموجودة بهذه المنطقة التي تتشكل أساسا من رعاة الأبقار والإبل والمزارعين الذين يعيشون على الفلاحة.
ففي كثير من الأحيان، يضطر هؤلاء الرعاة، خلال مواسم الجفاف إلى الترحال نحو الجنوب حيث يوجد الكلأ والماء، وكانت قطعان الإبل والأبقار ترتمي على حقول ومزارع الفلاحين الذين يعتبرون ذلك تعديا على ملك لهم، وكان ذلك يتسبب في نشوب صراعات قبلية، تتدخل على إثرها الإدارة الأهلية التي كانت متمكنة وعارفة بطبيعة هذه المشاكل والقضايا التي لم تكن تدركها الحكومات المتعاقبة في الخرطوم.

حميدتي

انتم تعرفون أن هناك اختلافا وتنوعا عرقيا، واختلافا في المزاج والوجدان، بين أهل غرب السودان وأهل النيل، فالنخب السودانية المتواجدة بالنيل، وهي النخب التي تمثل السودان تاريخيا، وهي مرتبطة بمصر وبالعالم الخارجي، ولهم شخصية هادئة ومسالمة، عكس منطقة غرب السودان وتحديدا منطقة دارفور التي ألحقت بالسودان سنة 1916 والتي لها تاريخها الخاص، ومجتمعها الخاص والمتميز، والمغاير في كثير من طباعه وأسلوب حياته لمجتمع وادي النيل، مما ينبغي مقاربته في إطار إدارة التنوع الثقافي والإثني، وهو ما فشلت فيه الدولة السودانية حتى تاريخه.
وبالتالي فإن من بين أسباب اندلاع هذه الأحداث، هو الفشل في إدارة التنوع العرقي والإثني والديني والثقافي في السودان، وهو ما أسفر عنه في مرحلة أولى انفصال جنوب السودان، وفي مرحلة ثانية نتج عنه التمرد الذي حدث في دارفور، وهو التمرد الذي لم يستطع الجيش السوداني حسمه، لأنه عبارة عن حرب عصابات، عكس الجيش الذي يتحرك بشكل نظامي، مما اضطر معه حكام الخرطوم قبل “نظام الإنقاذ” إلى اللجوء للمليشيات واستغلوا التناقض العرقي والثقافي، الموجود بين العرب والأفارقة والبدو النازحين الذي نزحوا إلى السودان مع تغريبة بني هلال.
السلطات في الخرطوم استغلت هذا التناقض الإثني والقبلي، واستعانت بالقبائل العربية من أجل القضاء على التمرد الذي قامت به بعض القبائل الإفريقية في دارفور، هؤلاء العرب كانوا يسمون بالجنجويد أي “الجن الذي يركب جوادا” وكانوا يدخلون القرى ويفزعون الأهلي ويعيثون بها فسادا.
كانت رغبة جماعة الإنقاذ، على عهد عمر البشير، تنظيم “الجنجاويد” حيث حظيت بدعم الجيش السوداني الذي زودها بالأسلحة، وحتى على مستوى التأطير، وهو ما أدى إلى تطور هذه القوة التي أصبحت شبه قوة نظامية تسمى “حرس الحدود”، قبل أن تأخذ اسم قوات “الدعم السريع” وكانت في مرحلة معينة، خاضعة لجهاز الأمن والاستخبارات، وتحولت بعدها لتصبح تابعة للجيش، لكن البرلمان السوداني سنة 2013 صادق على قانون خاص، أصبحت بموجبه قوة نظامية معترفا بها، وأصبحت، على المستوى الشكلي، جزءا من القوات المسلحة، لكنها كانت في واقع الأمر قوات مستقلة، ولها طابع خاص يجعلها بعيدة كل البعد عن أن تصبح قوة وطنية أو قومية تمثل كل السودانيين لأنها تمثل أسرة واحدة وهي أسرة “دقلو” المنتمية إلى الماهرية وهم بطن من بطون قبيلة الرزيقات، قبل أن تنفتح على قبائل أخرى، حيث كان التجنيد بها يتم على أساس قبلي، وبالتالي أصبحت قوات قبلية عابرة للحدود بما أن تلك العشائر والقبائل هي مشتركة وممتدة في الحدود بين تشاد والسودان وحتى النيجر كقبائل المحاميد والماهرية.
وبالتالي عندما يستنفر حميدتي قبيلته، فإنها تأتي من النيجر وتشاد وغيرها، ولذلك فهي ميلشيا قبيلة عابرة للحدود، وهذا شيء خطير جدا، وهو سرطان ممكن أن يؤثر في جسم الدولة السودانية، ويمكن أن يشكل خطرا حتى الدول المجاورة.
فعندما تطلع الآن على مواقع التواصل الاجتماعي تجد أن هناك العديد من الفيديوهات التي تطالب مناصرة حميدتي لأنه ابنهم، وبالتالي فمن الممكن القول بأن الانتماء القبلي في هذه المجتمعات يتفوق على الانتماء للوطن.

في نظركم، ما هي أسباب اندلاع هذه الخلافات بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع؟ وهل هذه الخلافات التي يبدو أنها لم تكن معلنة، كانت تخفي من ورائها محاولة السيطرة على السلطة وعلى إدارة الدولة؟

< أهم نقطة خلاف بين الرجلين حميدتي والبرهان هي تلك المتعلقة بدمج جميع القوات في جيش وطني واحد، وهي النقطة التي يتفق حولها الجميع من حيث المبدأ، كما تتفق عليها الحركات المسلحة في دارفور. لكن من الناحية الفنية، نجد قوات الدعم السريع تلح على ضرورة إصلاح قوات الجيش، لأنه في نظرهم، وفي وضعه الحالي هو جيش “مؤدلج” وبؤرة للإسلاميين وللمؤتمر الوطني، وهذا ما يقوله حميدتي رغم أنه هو شخصيا “غرس” غرسه الإسلاميون. في المقابل قادة الجيش لا يقبلون هذا الكلام، ويقولون إن الجيش السوداني هو مؤسسة عسكرية عريقة لها أكثر من مائة سنة ولها مكانتها على المستوى الإفريقي والعربي والعالمي، وبالتالي فإن عملية الدمج في نظرهم، أي جنرالات الجيش، يتعين أن تتم وفق القواعد والضوابط النظامية التي يقوم عليها الجيش السوداني.
بالإضافة إلى أن الجيش يقول بأن عملية الدمج لا يمكن أن تستغرق أكثر من ستة أشهر، في المقابل حميدتي يقول بأن هذه العملية تحتاج على الأقل عشر سنوات، والجميع في السودان يعرف أن هذا الأخير يريد أن يقوي نفوذه أكثر خلال هذه العشر سنوات بدعم من حلفائه إقليميا ودوليا.

 البرهان

جانب آخر، أساسي هو أن الجميع، على المستوى الدولي يعرف بأن السودان غني جدا بالذهب، لأن السودان هي الدولة الثالثة إفريقيا على مستوى إنتاج هذا المعدن النفيس، حيث يصل إنتاجها في السنة إلى حوالي 100 طن من الذهب، 30 في المائة منه فقط، هي التي تدخل خزينة السودان، الباقي كله منهوب ويهرب بطريقة غير شرعية إلى دول أجنبية معروفة، خاصة روسيا التي تضع عينا على هذه المنطقة، لكنها تجابه بمعارضة أمريكا التي ترغب بدورها في أن يكون لها دور أساسي ومحوري في المنطقة، وهذا ما يتضح من خلال الوساطة السعودية الأمريكية حيث أن هذه الأخيرة تحاول أن تمسك بكل خيوط هذه اللعبة.

> إذن كان هناك فشل دمج قوات الدعم السريع ضمن قوات الجيش السوداني ؟
< لم يكن هناك فشل، لكن الذي حدث هو أنه في عهد عمر البشير كان إلى حد ما متحكما في هذه القوات، وكانت بأعداد قليلة، وكان تسليحها متواضعا جدا، ووجودها كان مقتصرا على مناطق الاضطرابات في جنوب كردفان وغربها، وفي إقليم “دارفور” وغيرها، وبعد ذلك جيء بجزء منها إلى الخرطوم، لأنه بدأ يتوجس خيفة من الجيش، وهذه مسألة في غاية الأهمية، لأن عمر البشير لما جاء بهذه القوات إلى الخرطوم، فقد كان يسمي حميدتي بـ”حمايتي” يعني أنه كان لحمايته من الجيش.
لكن لما اندلعت الثورة في دجنبر من سنة 2018، ورغم المستوى التعليمي المتواضع جدا لحميدتي إلا أنه كان ذكيا، واختار حينها وبشكل مباشر الوقوف مع الثورة ضد عمر البشير، وأصبح بذلك هو الرجل الثاني في الدولة، أي نائبا لرئيس المجلس العسكري ثم مجلس السيادة، بعد ما اتفق مع القوات المسلحة.. والآن وبعد اندلاع هذه الأحداث تواصلت الاعترافات من كلا الجانبين بتواطئهما وتورطهما في ارتكاب المجزرة التي حدثت للثوار أمام القيادة العامة للقوات المسلحة.
وهكذا فخلال سنة 2013 أخذت قوة الدعم السريع، الطابع الرسمي وتم الاعتراف بها من طرف البرلمان، وفي سنة 2015 أصبحت لها أهمية أكبر لأنها شاركت في حرب اليمن. وفي هذه المرحلة كان يتم التجنيد على أسس قبلية. وفي سنة 2017 تم تقنين وجودها ضمن جهاز الأمن والاستخبارات، وفي شهر دجنبر 2018 اندلعت الثورة، وتحالف حميدتي مع البرهان وأصبح طرفا في الإطاحة بعمر البشير، مما سمح له بالمشاركة في السلطة.
وخلال هذه الفترة التي كان فيها حميدتي هو الرجل الثاني في السلطة، تفاقم عدد قوات الدعم السريع في الخرطوم، وأصبحت جزءا من قوات حراسة المنشآت الحساسة، كمقر القيادة العامة للقوات المسلحة، والمطار والقصر الجمهوري ودار الإذاعة والتلفزيون، أي أن هذه القوات كانت متواجدة في كل المؤسسات الاستراتيجية للدولة السودانية، وكان تواجدها مهما جدا لأن البرهان كان يخشى من انقلاب الجيش عليه، وبالتالي حتى الأسلحة التي كانت تتوفر عليها قوات الدعم السريع، كانت غريبة ومتطورة حيث أصبحوا يتزودون بمضادات للطائرات وغيرها، وكنت أقول حينها أن هذه الأسلحة ليست موجهة للدفاع عن حدود السودان وإنما للدفاع عن السلطة المتواجدة بالخرطوم، وهي موجهة للجيش السوداني أكثر من أن توجه ضد أي جيش آخر.
حميدتي كان يعرف أين يريد أن يصل، وكان له مخطط واضح جدا، وبدأ يشكل تحالفات خارجية، مما يوحي أنه كون دائرة من المحاطين به من الاستراتيجيين، وأصبح يقدم خدمات مهمة ولا تقدر بثمن للمجموعة الأوروبية، خاصة في الحد من المهاجرين غير الشرعيين الذين كانوا يعبرون إلى أوربا عبر الحدود الليبية.
هناك مسألة مهمة جدا، فقد أصبحت لحميدتي شركات خاصة، لأن عمر البشير مكنه من مناجم الذهب التي وضع عليها أفرادا من أسرته وقبيلته للاشتغال بها، خاصة جبل عامر وهو عبارة عن موقع تعدين غني بمعدن الذهب في شمال دارفور، وأصبح حكرا له، وكان يستخرج منه كميات كبيرة من الذهب، ودخل في علاقات مع دول أجنبية على المستويين الإقليمي والدولي.
وكان حميدتي طيلة هذه المدة يتعاون مع قوات “فاغنر” الروسية، بل إن الأخبار التي تناقلتها بعض وسائل الإعلام، تفيد أنه كان متعاقدا مع شركة أمنية إسرائيلية، من أجل تلميع صورته، كل ذلك مكنه من فرض ذاته على الساحة الإقليمية والدولية، إلى درجة أن مفاوضات جدة التي تجري هذه الأيام بالمملكة العربية السعودية، يتم التعامل معه فيها كطرف في النزاع وليس كجهة متمردة، وهذه ملاحظة مهمة جدا.

> في ظل هذه الوضعية المأساوية وهذا الصراع الداخلي الذي قد يتحول، لا قدر الله، إلى حرب أهلية، ما هو موقف الحراك المدني مما يحدث الآن في السودان؟
< الأكيد هو أن الثورة التي اندلعت في دجبنر 2018 كانت قد انطلقت من المنظمات المدنية والنقابية، قبل أن تأخذ بعدا شعبيا، وأصبح يقودها الشباب الذين تمكنوا من إسقاط نظام عمر البشير، لكن لم تكن لديهم أية خلفية سياسية، ولم تكن لديهم أية حاضنة سياسية، لأن نظام عمر البشير، وعلى امتداد ثلاثين سنة، قضى على غالب مؤسسات الدولة، وحتى تلك التي تركها الاستعمار، لأن فكرة حسن الترابي كانت تقوم على إزالة كل المؤسسات التي ترمز للدولة الحديثة، لأنه كان يعتبرها “تركة الاستعمار الكافر”، ومن ثمة قضى على كل المؤسسات الاقتصادية والثقافية والتعليمية والمؤسسات السياسية واتحادات الطلاب والنقابات، وحتى عبد الله حمدوك القادم من الأمم المتحدة كان يتعامل مع السياسة بنوع من السذاجة، وبالتالي لم تكن هناك حاضنة ترقى إلى مستوى الثورة التي قادها الشباب.

> في هذه الحالة، هل يمكن القول إن الحراك المدني يقف الآن، موقف المتفرج؟ وما صحة وجود طرف ثالث في هذا الصراع؟
< نعم إلى حد ما، فإن الحراك المدني، يقف موقف المتفرج، ففي البداية، وقبل نشوب هذا الصراع، كان هناك، اتفاق بين اللجنة الرباعية التي تضم (الإمارات، والسعودية، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة الأمريكية) والآلية الثلاثية التي تضم (بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم المرحلة الانتقالية في السودان “يونيتامس” والاتحاد الأفريقي والهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية “إيقاد”) أو ما يعرف بـ”الاتفاق السياسي الإطاري” بين القوى السياسية المدنية والمؤسسة العسكرية في السودان من أجل حكومة مدنية وديمقراطية وخاضعة للمساءلة وذات مصداقية، خلال مرحلة انتقالية، وفي أفق إجراء الانتخابات.
هذا الاتفاق السياسي تم التوصل إليه مباشرة، قبيل اندلاع هذه الأحداث، ومن هنا يأتي الحديث عن طرف ثالث، وهمي وغير معروف، يقال أن غايته هي إفشال الاتفاق السياسي، فعندما يتحدث حميدتي عن أشخاص ملثمين ويرتدون زي قوات الدعم السريع ويهاجمون البيوت ويحدثون الفوضى، ويقول إنهم موجهين من طرف ثالث، فهو يقصد المؤتمر الوطني أو الإسلاميين، أي بقايا جماعة عمر البشير، وهم موجودون ونشيطون، ويشكلون ما يسمى الدولة العميقة في السودان.
علي عثمان محمد طه الذي كان في وقت سابق، الرجل الثاني في الدولة، وكان رجلا قويا ومؤثرا كان يقول خلال اندلاع الثورة سنة 2018 “إن لدينا قوات الظل التي يمكن أن تحسم الأمر وتوقف هذا العبث”، وكان هناك أيضا ما يسمى الدفاع الشعبي، وهي أيضا تنظيمات شبه عسكرية، وبالتالي لما يقال إن هناك طرفا ثالثا كانت الإشارة إلى هذه التنظيمات التي كان يشرف عليها المؤتمر الوطني.

>من هو الطرف الذي أطلق الشرارة الأولى في هذا الصراع، هل قوات الدعم السريع، أم الجيش؟
< كل طرف يدعي أن الطرف الثاني هو البادئ، لكن أنا في تقديري أن الجيش لم يكن هو البادئ على أساس أن هناك عددا من كبار الضباط وأسرهم، هم رهائن لدى قوات الدعم السريع، وتم اعتقالهم داخل بيوتهم صبيحة اندلاع القتال، ووضعت عليهم حراسة من قبل هذه القوات، وبالتالي لو كان الجيش هو الذي بدأ الاقتتال، لكان قد أستعد لذلك بأخذ الاحتياطات اللازمة، ولما سمح باعتقال ضباطه، ومن ثمة فالأرجح أن حميدتي هو الذي بدأ وهو الذي كانت لديه النية في ذلك، هناك أيضا توجه يقول بأن الطرف الثالث (غير المعروف) هو الذي بدأ، وهو الذي يقوم بالتخريب وقام بفتح السجون وهو يرتدي لباس الدعم السريع.

> ما هو موقف دول الجوار الإقليمي من هذه الأحداث؟
< يجب أن أؤكد هنا، أن الدول على المستوى الإقليمي تقف مع الجيش، كمصر مثلا والتي تعتبر الجيش السوداني هو امتداد تاريخي للجيش المصري، لأنهم خاضوا حروبا بشكل مشترك، بالإضافة إلى أن الوجدان الشعبي هو أيضا مع الجيش الوطني وليس مع حميدتي الذي من المؤكد أنه سيخسر على المستوى المعنوي وأيضا على المستوى المادي، رغم الدعم الذي يتلقاه من قبل قوى إقليمية ودولية، ورغم رغبته الجامحة في الاستيلاء على السلطة. لكن لو نجح لا قدر الله، فإن جميع القبائل العربية الموجودة على الساحل في الحزام السوداني، في مالي والنيجر وتشاد وفي دارفور، كلهم على استعداد وفي حالة تأهب للزحف والثورة لأنهم يعتقدون أنهم ظلموا تاريخيا، وتم تهميشهم من قبل الاستعمار ومن قبل الدولة الحديثة، وهم الآن يعتبرون أن حميدتي أقرب إلى أن يكون”المهدي المنتظر” الذي جاء لنصرتهم وإخراجهم من الغبن التاريخي الذي حل بهم عبر القرون، رغم أن سيرة الرجل شاهدة عليه، فهو رجل أمي، وانتقل إلى التجارة في الحمير والجمال، قبل أن يعمل في المليشيات المتعددة الأسماء، ليصبح هو الرجل الثاني في السودان.

>يتضح من خلال كل هذه المعطيات التي أوردتموها في أجوبتكم، أن الصراع ليس فقط بين البرهان وحميدتي بل هو صراع إقليمي على أرض السودان؟
< أكيد هو صراع إقليمي، وهناك العديد من المؤشرات التي تدل على ذلك، لأن السودان الذي يقع على مساحة شاسعة وله إمكانيات طبيعية هائلة سواء فلاحية أو معدنية، ويتوفر على خزان مائي جوفي استراتيجي ومهم جدا، كل ذلك وبتعداد سكاني لا يتجاوز الأربعين مليون نسمة، مقابل تموقعه بجوار مصر التي يزيد عدد سكانها عن الـ120 مليون نسمة، وإثيوبيا بتعداد سكاني يصل إلى 150 مليون نسمة، وبالتالي فإن هناك أطماعا إقليمية في إمكانيات السودان الزراعية والمعدنية والمائية.

> ما هو أفق هذا الصراع الدائر في نظركم؟
< إذا نجحت الوساطة الأمريكية السعودية، وتم الالتزام بإعلان جدة، يمكن أن نصل بعد ذلك إلى مرحلة وقف الاقتتال وأن يبقى السودان كما هو ويدخل في مرحلة إعادة التعمير.
الآن اتفاق”إعلان جدة”، التي تم التوقيع عليه بوساطة أمريكية سعودية، يعتبر الاتفاق الأول بين الطرفين المتنازعين منذ اندلاع الصراع، ويقوم على إخلاء الأماكن المدنية من الوجود العسكري، والتمييز في جميع الأوقات بين المدنيين والمقاتلين، وكذا الامتناع عن أي هجوم من شأنه أن يتسبب في أضرار مدنية، بالإضافة إلى اتخاذ جميع الاحتياطات الممكنة لتجنب وتقليل الضرر الذي يلحق بالمدنيين وعدم استخدامهم دروعا بشرية، وضمان عدم استخدام نقاط التفتيش في انتهاك مبدأ حرية تنقل المدنيين والجهات الإنسانية، والالتزام بحماية الاحتياجات والضروريات التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين على قيد الحياة، وحظر النهب والسلب والإتلاف.
إعلان “جدة” لم يصل إلى مستوى اتفاق هدنة ووقف الاقتتال بين الطرفين، وإذا نجح تطبيق “إعلان جدة”، وأنا أعتقد أنه سينجح، وهذا التفاؤل نابع من طبيعة الوسطاء وهم المملكة العربية السعودية وأمريكا، وكلاهما له نفوذ على السودان ولديه آليات للضغط أو للإكراه، فهم يملكون العصا والجزرة، وهذا عامل مساعد يمكن أن يفضي إلى هدنة في مرحلة أولى قبل أن يتوسع هذا الاتفاق ليشمل الأطراف المدنية.
لكن إذا لم تنجح هذه الوساطة، ففي الغالب فإن قوات الدعم السريع لن يكون لها تواجد في شمال السودان وربما تنسحب إلى دارفور حينها يمكن أن يكون هناك إمكانية انفصال دارفور عن السودان، وهذا الاحتمال هو الأسوأ في اعتقادي.

أجرى الحوار: محمد حجيوي

Related posts

Top