تتفاوت الأبحاث العلمية حسب المقاربات المنهجية والخلاصات المتوصل إليها. وتتجلى أهمية الدراسة العلمية المنجزة حول النظم البيئية في مدى عمق تناول الإشكالية. والتمكن من تفكيك تشعباتها، من خلال تحليل تفاعلاتها المعقدة بسبل منهجية دقيقة، مما يمكن من بسط وفهم الروابط بين اشكالية المياه، كموضوع للبحث مثلا، واستقرار النظم البيئية بشكل أفضل، وذلك أمام التحديات الكبيرة، بما في ذلك التغيرات البيئية الناجمة عن النشاط البشري، والتلوث وتغير المناخ.
يتطلب سبر أغوار إشكالية تدبير ونضوب المياه، اتباع نهج صارم لدراسته بشكل أشمل وأدق. توفر النمذجة الرياضية تحليلا مفاهيميا ومعرفيا بمقاربة منهجية، تتطلب من الباحثين الربط بين العلم والواقع. ويتطور تحليل المفهوم للنموذج من مقارنة مزدوجة، مقارنة النموذج بالنظرية التي تظهر منها اختلافات كبيرة فيما يتعلق بالعلاقات مع الواقع، وكذا مقارنة النموذج والنمذجة بالأشياء التقنية والممارسات التكنولوجية وذلك لتطوير مقترحات علمية أكثر واقعية.
وتعتبر منهجية “النمذجة الديناميكية” إطارا سانحا لفهم التفاعلات المعقدة بين العناصر الحيوية وغير الحيوية ومختلف التشعبات. هي مقاربة علمية شائعة الاستخدام في الدراسات العلمية. بالإضافة إلى بعض النماذج النموذجية لمحاكاة هذه التفاعلات.
من هنا سنسوق نموذج بحث علمي يقوم به الباحث أيوب الكمورية طالب باحث في المعهد الدولي لأبحاث المياه التابع لجامعة محمد السادس متعددة التخصصات التقنية (UM6P) بن جرير، حائز على شهادة مهندس دولة في الهيدروجيولوجيا من المدرسة المحمدية للمهندسين، وحاصل على شواهد عليا في الاقتصاد والقانون.
في إطار أطروحته المنجزة بإشراف من كل من البروفيسور عبد الغني الشهبوني والبروفيسور الحسين بوشعو، قام أيوب بتطوير نموذج ديناميكي لإدارة الموارد المائية في حوض سوس ماسة، وهو النموذج الأول من نوعه في المغرب.
استخدم الباحث أيوب الكمورية نمذجة الأنظمة الديناميكية (System Dynamic Modeling) كطريقة تسعى إلى فهم وتحليل التفاعلات والردود الفعلية بين الأنظمة الفرعية التي تؤثر على نظام إدارة موارد المياه.
وقد اعتمد الباحث أيوب الكمورية في دراسته على نمذجة الأنظمة الديناميكية كأداة لتحليل التفاعلات وردود الفعل بين الأنظمة الفرعية المختلفة التي تؤثر في إدارة الموارد المائية.
ويأتي هذا البحث في سياق مواجهة التحديات المائية التي يواجهها المغرب، مثل ندرة المياه الناتجة عن التغيرات المناخية والنمو السكاني المتسارع بالنسبة للموارد المائية في جهة سوس ماسة. وتعتبر المنطقة من ضمن المناطق أكثر تأثرا بتغيرات المناخ في المغرب، مما يجعل تدبير الموارد المائية تحديا حاسما. ويتعرض الحوض المائي لسوس ماسة لضغوط متعددة، أولها الطلب المرتفع على المياه بسبب النمو السكاني، والتوسع في الأنشطة الزراعية المكثفة، خاصة زراعة الفواكه والخضروات للتصدير، مما يؤدي إلى استنزاف مخزون المياه الجوفية. ثم التغيرات المناخية التي أدت إلى انخفاض كميات الأمطار وازدياد فترات الجفاف، فضلا عن التغيرات اجتماعية واقتصادية من قبيل التحول من الأنشطة الزراعية التقليدية إلى الزراعات الكثيفة والاقتصاد السياحي. ثم تزايد الضغوط البيئية بما في ذلك الاستخدام غير المستدام للموارد المائية وتأثير الأنشطة البشرية.
ويواجه الحوض المائي سوس ماسة ضغوطات مستمرة نتيجة لعدة عوامل أبرزها النمو الديموغرافي، والتحولات السوسيواقتصادية، والاستزراع المكثف وتأثير التغيرات المناخية. مما يؤدي إلى آثار سلبية هامة على المدى القصير والطويل.
ويتناسب النموذج البحثي “الأنظمة الديناميكية” مع مختلف المواضيع المعقدة من قبيل إشكالية المياه، ذلك أن “الأنظمة الديناميكية” هي طريقة تم إنشاؤها في منتصف الخمسينيات من قبل البروفيسور “جاي فوريستر” من معهد “ماساتشوستس” للتكنولوجيا (MIT)، وقد تم استخدامها لتقييم تأثير التغييرات السياسية على نظام ما، مما يسهل فهما شاملا للأنظمة المعقدة لموارد المياه واتخاذ قرارات استراتيجية من خلال توفير نماذج نوعية وكمية.
ويؤكد الباحث أيوب الكمورية أن هذه النماذج الديناميكية تهدف إلى تسهيل نمذجة الاتجاهات السلوكية، والتي تعتبر أساسية لإدارة مستدامة للمياه، مشيرا إلى أن هذه الطريقة، “نمذجة الأنظمة الديناميكية”، التي تم توظيفها لتقييم تأثير السياسات المختلفة على الأنظمة المعقدة، تتيح فهما أعمق للأنظمة المائية، وتسهم في اتخاذ قرارات استراتيجية مبنية على نماذج نوعية وكمية تدعم استدامة الموارد.
وخلص الباحث نفسه أن أبرز نتائج نهج “نمذجة الأنظمة الديناميكية” في الإدارة المستدامة لموارد المياه في الحوض المائي لسوس ماسة تتجلى في كون المنهجية أثبتت فعاليتها في التعامل مع التعقيدات التي تواجهها الموارد المائية في سوس ماسة. فهي تمكن الباحثين من تحليل السيناريوهات المختلفة وتوقع النتائج على المدى الطويل، مما يسهل تبني سياسات مستدامة، كما أن النتائج المتوصل إليها تشير إلى أن تبني هذا النهج الشامل يمكن أن يقلل من التأثيرات السلبية لاستنزاف الموارد المائية، ويساهم في اتخاذ قرارات أفضل بشأن توزيع المياه واستخدامها. ويمكن أن تسهم النتائج، من حيث الأثر على السياسات العمومية، في وضع سياسات تعتمد على التنبؤات طويلة المدى بدل الحلول السريعة قصيرة الأجل. كما يمكن أن تسهم في تعميم هذا النموذج على الأحواض المائية الأخرى في المغرب التي تواجه تحديات مشابهة.
وتروم مجريات البحث التي يقوم بها الباحث أيوب الكمورية إلى تغيير الطريقة التي يتم بها التفكير في إدارة الموارد المائية، من خلال اعتماد نموذج ديناميكي أكثر شمولية، قادر على التكيف مع التحولات المناخية والاجتماعية والاقتصادية المستمرة. وتظل الأساليب التقليدية لإدارة الموارد المائية في حوض سوس ماسة، وفي المغرب بوجه عام، تقنية وتظهر حدودها بوضوح. فصانعو القرار يعتمدون على نماذج ذهنية خطية للمشكلات، التي تفترض وجود علاقات سببية بسيطة بين مكونات النظام، وتركز على حدود نموذجية ضيقة لتفكيك المكونات. مثل هذا التفكيك يعرض التحليل لمخاطر عدم التعرف الكافي على الأسباب الجذرية للمشكلات أو دمج جميع العوامل ذات الصلة، مما قد يؤدي إلى توصيات منحازة بشأن تنفيذ الاستراتيجيات أو السياسات.
إن اختيار السياسات المناسبة لإدارة الموارد المائية يتعقد بسبب الخصائص المناخية، مثل عدم انتظام كمية وتوزيع الأمطار، والترابط بين المياه السطحية والجوفية، والتخزين في الخزانات الطبيعية والصناعية، والنمو السكاني وارتفاع الطلب.
ويقول الباحث أيوب الكمورية إن الأساليب التقليدية لا توفر فهما واضحا لكيفية ترابط الأنظمة المختلفة التي تؤثر على إدارة الموارد المائية، ولا تأخذ في الاعتبار عملية التغذية الراجعة والسلوك الديناميكي غير الخطي للنظام. بالإضافة إلى ذلك، تعتمد بدرجة كبيرة على نهج تقليلي وميكانيكي، وتعتبر غير ملائمة لمواجهة التعقيد المتأصل في العديد من الأنظمة المعنية بإدارة الموارد المائية.
إن التحديات تأتي أساسا من دمج المنظورات الاجتماعية والاقتصادية مع العناصر التقنية، مما يجعل الأنظمة صعبة التبسيط.
من بين نتائج البحث المؤكدة هو إبراز تطبيقات نمذجة الأنظمة الديناميكية في الإدارة المستدامة لموارد المياه في الحوض المائي لسوس ماسة، ذلك أن التحليل التقليدي لأنظمة إدارة موارد المياه قد يؤدي أحيان إلى استراتيجيات غير مستدامة واستنزاف الفرشة المائية.
ومن بين أهم النتائج التي توصل إليها الباحث أيوب الكمورية، هو إبراز قدرة نمذجة الأنظمة الديناميكية على تحقيق إدارة مستدامة للموارد المائية في حوض سوس ماسة، مستنتجا أن النهج التقليدي لإدارة موارد المياه، غالبا، ما يركز على زيادة العرض وتقليل الطلب، دون مراعاة التفاعلات المعقدة التي تحكم سلوك الموارد المائية. ومن ثم يترتب عن ذلك حلول سريعة تؤدي في كثير من الأحيان إلى نتائج غير متوقعة، وربما كارثية على المدى الطويل. ويضيف أن الأنظمة الديناميكية تعتبر حلا يأخذ في اعتباره العمليات الفيزيائية والسلوكية للنظام، من خلال اعتماد رؤية شاملة لتحليل الترابط (Nexus) المعقد للموارد المياه. وتمكن الإدارة المستدامة لموارد المياه، من خلال نمذجة الأنظمة الديناميكية، من وضع استراتيجيات تعزز التحكم المتكامل في موارد المياه. كما تسمح هذه النمذجة من تسهيل توجيه النتائج لصناع القرار. و قد تكون هذه مناسبة للاستفادة من تجربة الحوض المائي لسوس ماسة و تعميمها على باقي الأحواض المائية المغربية لحل مشكلة تدبير الموارد المائية. وغالبا ما تفتقر التحليلات التقليدية في هذا المجال إلى القدرة على استيعاب التفاعلات المعقدة بين مكونات النظام، مما قد يؤدي إلى استراتيجيات غير مستدامة واستنزاف المياه الجوفية، يؤكد الباحث أيوب الكمورية.
وتؤدي هذه المقاربات، غالبا، إلى حلول سريعة قد تكون نتائجها غير متوقعة وربما كارثية على المدى البعيد. في المقابل، تعتمد الأنظمة الديناميكية على منظور شامل يأخذ بعين الاعتبار التفاعلات الفيزيائية والسلوكية للنظام، ويتيح تحليلا أعمق لعلاقة (NEXUS) المعقدة بين المياه والطاقة والغذاء.
وأفاد الباحث أن الإدارة المستدامة للموارد المائية باستخدام نمذجة الأنظمة الديناميكية تسهم في وضع استراتيجيات متكاملة تأخذ بعين الاعتبار التأثيرات البيئية والاجتماعية والاقتصادية على المدى الطويل. كما أن هذا النهج يوفر أدوات فعالة لصانعي القرار لتوجيه السياسات المائية بما يتناسب مع متطلبات التنمية المستدامة، مما يشكل فرصة للاستفادة من تجربة حوض سوس ماسة وتعميمها على باقي الأحواض المائية المغربية لمعالجة قضايا تدبير الموارد المائية.
يتميز نموذج التطور الديناميكي بخصوصية القدرة على التعامل مع التعقيدات المتعددة والمتداخلة للنظام المائي، حيث تركز النماذج التقليدية عادة على جانبين رئيسيين، زيادة العرض أو تقليل الطلب، دون الأخذ بعين الاعتبار للعلاقات المتشابكة بين العناصر المختلفة التي تؤثر على الموارد المائية. كما في هذا البحث، تعتمد على فهم التفاعلات بين الأنظمة الفرعية، بما في ذلك الأنظمة البيئية والاجتماعية والاقتصادية. هذا يجعلها أداة فعالة لتحليل ردود الفعل التي تؤدي إلى تحسين فهم السلوك المستقبلي للموارد المائية.
ويعكس هذا النموذج المتفرد نظاما شاملا، يأخذ بعين الاعتبار العلاقات الزمنية والتفاعلات المعقدة، ويتيح لصناع القرار فهم التأثيرات طويلة المدى للسياسات المائية المختلفة. وتتوافق النتائج مع التأثير على السياسات العمومية، إذ أن أحد الأهداف الرئيسية لبحث الباحث أيوب الكمورية هو توجيه السياسات العمومية نحو إدارة مستدامة لموارد المياه.
وتشير النتائج المستخلصة من تطبيق هذا النموذج إلى أن “النهج الديناميكي” يقدم رؤى جديدة حول تأثير السياسات التقليدية التي قد تؤدي في النهاية إلى تفاقم الأزمات المائية بدلا من حلها. و يوفر النموذج أداة لصناع القرار لاختبار سيناريوهات مختلفة (What-if scenarios) ، وبالتالي يمكنهم رؤية كيف تؤثر كل سياسة على النظام ككل. وقد يظهر النموذج، على سبيل المثال، أن زيادة ضخ المياه الجوفية للتوسع الزراعي قد تؤدي إلى آثار كارثية على المدى الطويل. هذا يوضح الحاجة إلى مراجعة السياسات والتوجه نحو إدارة الطلب بدلا من زيادة العرض.
*محمد التفراوتي