جاك فيرجيس.. المحامي الفرنسي المثير للجدل – الحلقة 13-

يعتبر المحامي الفرنسي جاك فيرجيس أحد أكثر المحامين قوة، وألمعهم في العالم وأشدهم قدرة على الدفاع وإثارة للجدل. اشتهر بـ”محامي الشيطان”، بسبب دفاعه عن قضايا كبيرة ومثيرة يخشى محامون غيره الاقتراب منها، كما يلقب أيضا بـ “سفاح المرافعات” و”محامي القضايا الميؤوس منها”. دافع وترافع عن الكثير من الشخصيات المثيرة للجدل، منها الفنزويلي كارلوس والناشط اللبناني جورج إبراهيم عبدالله، إلى جانب مجرم الحرب النازي كلاوس باربي والدكتاتور اليوغوسلافي سلوبودان ميلوسيفيتش وقائد الخمير الحمر السابق كيو سامفان، والرئيس العراقي الراحل صدام حسين، والمفكر روجيه غارودي المتهم بإنكار محرقة اليهود. وكان الرجل القصير القامة صاحب الوجه الساخر والنظارات المستديرة والشعر القصير المولع بالسيكار، مقربا من شخصيات سياسية من العالم أجمع وكذلك من سائر المناضلين الذين كانوا يعملون في السر مثل الحركات التي نفذت هجمات في السبعينيات والثمانينيات .
وللوقوف عن قرب على مسار المحامي الفرنسي جاك فيرجيس، أرتأينا نشر مجموعة من الحلقات حول كل ما يتعلق بمساره الشخصي والمهني والنضالي وكيف ناصر القضية الفلسطينية، ووقف ضد بلاده من أجل نصرة القضايا العادلة وفي مقدمتها الثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي.

جاك فيرجيس ..”سفّاح المرافعات” خانه القلب في غرفة فولتير

عن سن 88 عاماً، غيّب الموت المحامي الفرنسي الأشهر جاك فيرجيس (1925 ــ 2013)، مخلفاً وراءه مساراً نضالياً وقضائياً عاصفاً ومثيراً للجدل. روحه الاستفزازية وشخصيته الإشكالية جعلته “سفّاح المرافعات”، كما لقّب نفسه في العرض الذي أدى بطولته عام 2008. لكنه لم يكتف بمسرحة مرافعاته القضائية، بل جعل حياته ملحمة حافلة بالمفاجآت والتقلبات الدرامية. ولم يشذ عن ذلك في موته.
قبل ساعات من وفاته، حلّ ضيفاً على صديقة تقيم في الشقة التي عاش ومات فيها فولتير، قبالة متحف “اللوفر”، وإذا بالموت يدهمه على حين غرّة في الغرفة التي لفظ فيها فولتير آخر أنفاسه عام 1778!
رحل فيرجيس قبل استكمال آخر معاركه المتعلقة بوضع حدّ لتعنت السلطات الفرنسية إزاء إطلاق سراح عميد السجناء السياسيين العرب في أوروبا، جورج إبراهيم عبد الله. وقد كان آخر ظهور علني لـ “سفاح المرافعات”» في مؤتمر صحافي ارتجله في مكتبه الشهير في الدائرة التاسعة في باريس خلال (أبريل) من سنة 2013، دعا إليه صحافيون متعاطفون مع قضية عبد الله لإبلاغهم بآخر الحجج التي اختلقتها السلطات لتأجيل تنفيذ الحكم الذي انتزعه فيرجيس من المحكمة منذ أكثر من عامين، والقاضي بإطلاق سراح “الملتحي اللبناني الأشهر”.
بعدها بأسابيع، تعرض فيرجيس لوعكة إثر التهاب رئوي. لكنه بدأ يتعافى منه وشرع في الخروج من عزلته الاضطرارية رغم أنّه فقد الكثير من وزنه ومن حيويته المعهودة. وإذا بذبحة قلبية تباغته ، بينما كان مستلقياً لأخذ قسط من الراحة، استعداداً لعشاء كان مزمعاً أن يتقاسمه مع شلة من الأصدقاء، بينهم عميد المحامين الباريسيين الأسبق كريستيان شاريير ـ بورنازيل. لم يُعرف ما إذا كان فيرجيس ترك مذكرات شخصية تميط اللثام عن أسرار كثيرة ظلّت مثار جدل طوال حياته، وفي مقدمتها سر اختفائه المحيّر سبعة أعوام (1970 ــ 1978).
روحه الاستفزازية جعلت وسائل الإعلام الغربية تلقبه بـ”الوغد المضيء” (عنوان أحد كتبه الاستفزازية ــ 1996) حيناً، وبـ”محامي الشيطان” حيناً آخر. ذهب بعض “المخبرين الصحافيين” ــ كما كان يحلو له أن يلقّبهم ــ إلى حد الترويج بأنه متورط في نشاطات إرهابية، مما دفع الرئيس الراحل فرنسوا ميتران ــ كما اعترف لاحقاً مسؤول خلية مكافحة الإرهاب في الإليزيه بول باريل ــ إلى إصدار أمر باغتيال فيرجيس عام 1986 بتهمة الانضواء في “شبكة كارلوس”.
لم يخف فيرجيس تعاطفه مع المقاومة الفلسطينية. رافع عن سجنائها في المحاكم الأوروبية، وخصّها بأحد أشهر كتبه: «دفاعاً عن الفدائيين ــ مع المقاومة الفلسطينية» (1969). إلا أنّه أنكر شبهة الانضواء في “منظمة الثوّار الأمميين” التي أسسها كارلوس بعد خروجه من “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين”.
غير أنّ تلك “التهمة” لم تكن مفاجئة لفيرجيس الذي كان أول محام جاهر بمخالفة الأعراف القضائية، خارقاً المسافة النقدية بينه وبين موكّليه. لم يكن يكتفي بالمرافعة عنهم، بل تحوّل غالباً إلى “رفيق نضال” يقاسمهم النشاط السري والعمل الثوري أو “النشاط الإرهابي” أحياناً. بدأ ذلك حين رافع دفاعاً عن بطلة الثورة الجزائرية جميلة بوحيرد عام 1958. وحين لم يُفلح في إنقاذها من حكم الإعدام، تزوّجها وقاده حبّه لها إلى الانخراط في “جبهة التحرير” الجزائرية كمقاتل سري تحت الاسم الحركي منصور!
الشيء ذاته تكرر لاحقاً مع المقاومة الفلسطينية.
ارتبط فيرجيس بصلات وثيقة مع العديد من قيادات الجبهة الشعبية، وفي مقدمة هؤلاء مسؤول ذراعها العسكرية الشهيد وديع حداد. عن طريق “شعبة العمليات الخارجية” التي أسسها حدّاد، تعرف فيرجيس إلى كارلوس في لندن أواخر الستينيات. عرّفهما إلى بعض المناضل الجزائري الكبير محمد بوديا، رفيق درب فيرجيس السابق في “جبهة التحرير” الجزائرية، وقد أصبح مسؤولاً عن كارلوس ورفاقه في الفرع الأوروبي لشعبة العمليات الخارجية، قبل أن يغتاله الموساد في باريس عام 1975 ضمن العمليات الانتقامية التي أتبعت عملية “أيلول الأسود” في ميونيخ.
تجددت الصلات لاحقاً مع كارلوس بعد انفصاله عن الجبهة الشعبية وتأسيسه “منظمة الثوار الأمميّين”، فتم توكيل فيرجيس للدفاع عن اثنين من فدائيي المنظمة سجنا في فرنسا، وهما زوجة كارلوس الألمانية ماجدلينا كوب، ورفيقهما السويسري برينو بريغيه. وإذا بفيرجيس يقع في غرام ماجدلينا، ليدفعه ذلك إلى إقامة صلات سرية مع منظمة كارلوس في ألمانيا الشرقية، والتخطيط مع الرجل الثاني في المنظمة الألماني يوهانيس فاينرش الذي كان يلقّب بـ”ساعد كارلوس الأيمن”، لتهريب ماجدلينا ورفيقها من السجن!

>إعداد: حسن عربي

Related posts

Top