جاك فيرجيس.. المحامي الفرنسي المثير للجدل – الحلقة 15-

يعتبر المحامي الفرنسي جاك فيرجيس أحد أكثر المحامين قوة، وألمعهم في العالم وأشدهم قدرة على الدفاع وإثارة للجدل. اشتهر بـ”محامي الشيطان”، بسبب دفاعه عن قضايا كبيرة ومثيرة يخشى محامون غيره الاقتراب منها، كما يلقب أيضا بـ “سفاح المرافعات” و”محامي القضايا الميؤوس منها”. دافع وترافع عن الكثير من الشخصيات المثيرة للجدل، منها الفنزويلي كارلوس والناشط اللبناني جورج إبراهيم عبدالله، إلى جانب مجرم الحرب النازي كلاوس باربي والدكتاتور اليوغوسلافي سلوبودان ميلوسيفيتش وقائد الخمير الحمر السابق كيو سامفان، والرئيس العراقي الراحل صدام حسين، والمفكر روجيه غارودي المتهم بإنكار محرقة اليهود. وكان الرجل القصير القامة صاحب الوجه الساخر والنظارات المستديرة والشعر القصير المولع بالسيكار، مقربا من شخصيات سياسية من العالم أجمع وكذلك من سائر المناضلين الذين كانوا يعملون في السر مثل الحركات التي نفذت هجمات في السبعينيات والثمانينيات .
وللوقوف عن قرب على مسار المحامي الفرنسي جاك فيرجيس، أرتأينا نشر مجموعة من الحلقات حول كل ما يتعلق بمساره الشخصي والمهني والنضالي وكيف ناصر القضية الفلسطينية، ووقف ضد بلاده من أجل نصرة القضايا العادلة وفي مقدمتها الثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي.

شخصيات متباينة التوجهات السياسية والفكرية تودع المحامي جاك فيرجيس إلى مثواه الأخير

لقد أثارت وفاة المحامي جاك فيرجيس يوم 15 غشت 2013 عن سن يناهز 88 سنة العديد من ردود الفعل من طرف زملائه بهيئة باريس، ومن طرف وسائل الإعلام.
فقد وصفه بعض زملائه بالشخصية “المعقدة” و”الشجاعة”. فيما آخرون فضلوا الاحتفاظ في ذاكرتهم بحيوية وقوة جاك فيرجيس وبقتاليته في شبابه من أجل استقلال الجزائر أو من أجل الدفاع عن قضايا الشعوب المضطهدة في العالم كنموذج للمحامي المناضل.
فيما صنفه آخرون كنموذج للمحامي “المتمرد” و”المستقل” الذي كان مسكونا بهاجس “الآخر” المختلف والمجسد في الأقليات العرقية وفي المظلومين، والمسحوقين. فهو نموذج المحامي الذي كان يستفز الحقيقة باستمرار ليوصلها إلى خندقها الأخير ويروض القانون بمهارة وبحس مهني راقي ليمزجه بالأجواء السياسية المصاحبة له.
لقد أدخل جاك فيرجيس إلى قاموس مهنة المحاماة مفهوم “الرؤية السياسية” كتجربة فريدة من نوعها ضمن النضالات الكبرى للقرن العشرين.
كما تأسف العديد من رجال القضاء الفرنسيين للخسارة الكبرى بوفاة أحد أعمدة هيئة المحامين بباريس، بحكم أن جاك فيرجيس سيترك فراغا كبيرا في عالم “المحامين الأذكياء” الذين يملكون موهبة الاستفزاز الذكي للحقيقة.
فهو لا شك محام لامع، يوحي بالخشية وبالكره أحيانا وبالاحترام والتقدير أحيانا أخرى، فقد بنى سمعته كرجل قانون وكمحرض عبقري حول التوظيف الذكي للسخرية وللاستفزاز في خدمة القانون.
ومثلما كانت حياته مليئة بالتناقضات، جمعت جنازته شخصيات متباينة التوجهات السياسية والفكرية، من اليمين المتطرف إلى أقصى اليسار، بل وحضر العديد من المثقفين والحقوقيين من مختلف الجنسيات، من بينهم أصدقاؤه المدينون له بفضل الدفاع عنهم أو عن ذويهم، بل إن معارضيه ومنتقديه حضروا كلهم لتوديع من كان يعرف بـ “محامي الشيطان” إلى مثواه الأخير .
‪وبين هؤلاء وزير الخارجية الأسبق الاشتراكي رولان دوما، و اليميني فريديريك شاتيون والفنان المثير للجدل ديودوني وغيرهم، يتقدمهم شقيقه التوأم ورئيس الحزب الشيوعي في جزيرة لارينيون الفرنسية بول فيرجيس، الذي رافقته فرقة موسيقية عزفت التراتيل الدينية.
وألقت رفيقته ماري كرستين دوسولاج -الملقبة بالكونتيسا- كلمة تناولت فيها ملامح إنسانية من حياتهما معا لفترة طويلة، وجوانب من مسيرته النضالية في سبيل أصعب القضايا. وكانت الغائبة الأولى عن الجنازة زوجة فيرجيس السابقة المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد، التي انفصلت عنه مطلع السبعينيات، فيما حضر ابنهما إلياس وشقيقته مريم لتلقي التعازي. وتساءل الجميع عن أسباب عزوف التي وصفها فيرجيس بـ”أنها وجه الثورة الجزائرية” عن حضور جنازته، حيث أكد البعض أن غياب أيقونة الثورة الجزائرية سببه تدهور حالتها الصحية في الفترة الأخيرة، بينما رجح البعض أن علاقتهما منقطعة تماما.
ولمع نجم فيرجيس في قضية دفاعه عن جميلة بعد إدانتها سنة1957 بالمشاركة في تفجير أحياء أوروبية في مدينة الجزائر خلال الثورة الجزائرية (1954-1962) وساهم محاميها الفرنسي من أصول تايلندية في تدويل قضيتها التي حركت الرأي العام الدولي، بعد إصداره لكتاب “من أجل جميلة” الذي تضمن نص محاكمتها وتقارير طبية تشهد على وحشية تعذيبها من طرف جنود الاستعمار الفرنسي.
وفي السنوات الأولى للاستقلال تزوج فيرجيس بجميلة، وعملا معا في مجلتي”العالم الثالث” و”الثورة الأفريقية” الصادرتين عن حزب جبهة التحرير الحاكم آنذاك، إلى غاية 1970 حيث غادر الجزائر عائدا إلى فرنسا.
وقد لفتت باقة الورد التي بعثها الناشط اللبناني جورج إبراهيم عبد الله من سجنه انتباه الحاضرين في القاعة. وأثناء خروج الجثمان هتف الجميع تحية للراحل، مرددين شعارات تثمن مواقفه إزاء قضاياهم، بينما نادى محامون وناشطون بمواصلة النضال الذي أسس له المحامي المتمرد.
ورغم حصول من يلقب بصاحب المعارك الخاسرة على الجنسية الجزائرية، وشهرته بالدفاع عن مناضلي حركة التحرير، فإن حضور الجزائريين اقتصر على وزيرة الثقافة الجزائرية خليدة تومي، ونائبة رئيس مجلس الأمة والمجاهدة زهرة ظريف، بينما تعالت الزغاريد من بعض الجزائريات مودعات بطريقتهن أحد المناضلين في سبيل استقلال بلادهم، لينطلق بعدها الموكب الجنائزي نحو مقبرة مونبارناس الشهيرة حيث دفن إلى جوار المطرب الفرنسي سارج غرانسبورغ والفنانة دليدا.
وشاء القدر أن يتوفى أكثر المحامين جدلا وشراسة في بيت المسرحي الشهير فولتير، أشهرا قليلة بعد صدور مذكراته بعنوان “من صميم اعترافاتي : ذكريات وأحلام”، التي وثق فيها نضاله في الحزب الشيوعي قبل أن يغادره، وتجربته القضائية في المحاكم مناضلا ضد القوى الأستعمارية تارة، ومدافعا عن النازيين تارة أخرى، محاميا عن القضية الفلسطينية، مدافعا عن الثائر الفنزويلي كارلوس، وصدام حسين، وحتى عن مجرمي الحرب كقائد لخمير الحمر السابق خيو سامفان. هذا التناقض هو الذي جعل من جاك فيرجيس مدرسة في المحاماة قائمة بذاتها.
لقد اخترع المحامي جاك فرجيس ما سماه ب “دفاع الانفصال” أو”défense de rupture” باعتبار أن ليس هناك شيء يمكن توقعه من تواطؤ المحامين مع القضاة الذين يمثلون النظام الاستعماري. فجعل من المحاكمة منبرا لفضح النظام الاستعماري وعدالته.
شجاعته ووقاحته الفكرية أثناء المحاكمة، باعتماده لاستراتيجية دفاعية شرسة ضد القضاة، أدت به إلى تعليق عضويته بهيئة المحامين لسنة واحدة في عام 1961، ولكن جبهة التحرير الوطني الجزائرية اعتبرته بطلا، ولقب لديهم ب “المنصور”.
أرسلته جبهة التحرير الوطني إلى المغرب، حيث أصبح مستشارا لوزير الشؤون الأفريقية، وعندما استقلت الجزائر،اعتنق الإسلام وأصبح مواطنا شرفيا بالجمهورية الجزائرية الجديدة. لكن جاك فيرجيس بدأ يبتعد عن موسكو ليقترب من بكين. فغادر الجزائر، فاستقبله ماوتسي تونك. ثم أمضى وقتا غير يسير في بيروت إلى جانب منظمة التحرير الفلسطينية… ثم اختفى لمدة ثماني سنوات. وعاد بعدها بإصدار عمل مسرحي.
طيلة ثماني سنوات من الصمت، حيكت أساطير عديدة حول شخصية المحامي المشاكس، الذي أصدر قرابة 20 كتابا، وأصبح بطل فيلم عنوانه “محامي الرهبة”.
المحامي فيرجيس دافع عن المنهزمين أمام التاريخ من المشاهير أمثال: برونو بريجيت وماجدالينا كوب، رفاق كارلوس، وكارلوس نفسه فيما بعد. كما دافع عن جورج ابراهيم عبد الله، المحكوم بالسجن مدى الحياة. وظل إلى آخر حياته معاديا للصهيونية، كما دافع في عام 1987 عن كلاوس باربي، أحد قادة laGestapo جهاز مخابرات النازية في ليون سنوات 1942-1944 – وهذا لا يخفي أنه دافع بشراسة ومهنية عالية عن المئات من الزبناء العاديين والبسطاء طيلة 50 سنة من الترافع أمام المحاكم.
ويحلو لي أن أتذكر بمناسبة توديع جاك فيرجيس ما جاء في كتابه الصادر في سنة 2006 تحت عنوان (ويل للفقراء) “أريد أن أظهر من خلال مجموعة من الأمثلة كيف أن العدالة غير عادلة: كيف تكون قاسية للغاية ومجحفة في حق الفقراء والضعفاء، وكيف هي مدللة، ومجاملة ووديعة مع الأقوياء”
كما أتذكر تفسير الأستاذ فيرجيس نفسه لاستراتيجيته الدفاعية قائلا أنه عند قراءة ملف ما، يجد نفسه كأنه يشرف على مونتاج فيلم، وهو أمام المادة الخام. إنها مهنة فنية. فالنيابة العامة تكون في نفس الوضع، لكن النائب العام يمارس أدب محطات القطارات انطلاقا من أماكن مألوفة. فيما يجد نفسه من جهته مجبرا على كتابة رواية جديدة “.
كما يحلو لي بمناسبة توديع هذا المحامي اللآمع والاستثنائي أن أتذكر أكثر من أي مرحلة من حياته الحافلة التفاتته الشجاعة ومطالبته بمراجعة الحكم الصادر ضد عمر الرداد، البستاني المغربي المتهم بقتل مشغلته الفرنسية المسنة. فكان فيرجيس يشرح الدجاجة بالمنشار الكهربائي لتبيان أنه من المرجح أن تتطاير شظايا القضية… لتلقى اهتمام الرأي العام … وانخراطه لصالحها… فكان جاك فرجيس كذلك من أكثر المحامين خبرة في توظيف الإعلام وتليينه لخدمة القضايا التي يتولى الدفاع عنها

فوداعا … جاك فرجيس… وداعا أيها المحامي اللآمع

>إعداد: حسن عربي

Related posts

Top