صورة بانورامية عن تاريخ القنيطرة.. في كتاب “القنيطرة رحلة تاريخية”

يعد ارتباط الإنسان بالمكان، وشعوره بالانتماء لمجال جغرافي معين، أحد الدوافع الذاتية نحواستنطاق الذاكرة المحلية كعنصر أساس في تكوين الهوية والاهتمام بقراءة تاريخ البلد والعناية من خلاله بذاكرة المدن، ولهذا فإن مدينة القنيطرة التي تعد عاصمة منطقة الغرب، لها تاريخ محلي غني يكتسي أهمية اكتسبها مما شهدته المنطقة من أحداث سياسية وعسكرية وثقافية واجتماعية، مما يدل على أن العناية بتاريخها يعد وعيا حضاريا، لأنه إغناء للتاريخ الوطني.

ويقدم لنا كتاب «القنيطرة رحلة تاريخية»1 للدكتور سعيد البوزيدي، صورة تاريخية عن مدينة القنيطرة، بدافع ذاتي يفرضه انتماء الكاتب لها وتعلقه الوجداني بها، وبدافع علمي معرفي يروم الكاتب مصاحبة القارئ في رحلة زمنية تغطي أهم مراحل تطور المدينة، بداية من التأسيس وتوافد التجار المغاربة والفرنسيين والأوروبيين والأمريكيين، بما ساهموا فيه من تطور ونمو للقنيطرة، وما عرفته من توسع وارتقاء؛ صاحبنا الكاتب في رحلة ابتدأت من مصب واد سبو إلى فترة إحداث ميناء ليوطي، ثم المدينة بأحيائها الأوروبية والأهلية واليهودية والهامشية، مستعرضا تطور ساكنتها من المعمرين والتجار، ثم الموظفين، متوقفا عند معالم المدينة التاريخية وما تتميز به من خصوصيات عمرانية ومعمارية. وبناء على تتتبع هذه الرحلة التاريخية، يمكننا أن نطل على جوانب من تاريخ القنيطرة منطلقين من الصورة البانورامية التي قدمها الباحث عن هذه المدينة وتاريخها في كتابه «القنيطرة رحلة تاريخية»، مبرزين في هذه المراجعة خصوصية اسم المدينة بما له من إحالة تاريخية وجغرافية، وما يميزها (المدينة) كموقع حضري واستراتيجي، منذ الاستيطان الروماني، وكبوابة نحو المغرب النافع خلال المرحلة الكولونيالية.

  1. منطلق الاسم ودلالته

إن لموقع مدينة القنيطرة دورا في التواصل والربط بين مختلف جهات المغرب، كما يعتبر بوابة على العالم الخارجي من خلال مصب واد سبو في المحيط الأطلسي، ولهذا يحيل اسمها الدال على دورها التاريخي في منح العبور للتواصل والانفتاح، ويؤكد الباحث سعيد البوزيدي أن تسمية القنيطرة مرتبطة بقنطرة كانت تؤمن العبور بين ضفتي واد الفوارات والمجال الترابي لبني احسن، وبرزت هذه التسمية، حسب المصادر التاريخية، في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي، إذ ترتبط بالقائد “علي أوعدي” الذي أنشأ قنطرة من خشب على أحد روافد واد سبو (واد الفوارات) لربط الاتصال بين سكان الضفتين، وجاء اسم القنيطرة كتصغير لكلمة قنطرة، خاصة وأن قاضي مدينة القنيطرة، «في عهد الحماية، محمد السجلماسي بن عبد الرحمان، عثر سنة 1934م، على رسالة بعثها الشيخ العربي بن محمد بن جعفر بن أبي جمعة الركراكي، دفين القنيطرة أواخر القرن 17م، جاء فيها أن الشيخ اقترح على سكان عامر ومهدية إطلاق اسم “قنيطرة علي أوعدي” على موقع تجمع الساكنة»2، أي ما يدل على أن الاسم كان متداولا قبل الحضور الفرنسي بالمنطقة. وتحيل الصيغة الحالية لتداول وكتابة اسم المدينة على مخاض تاريخي متحرك في مدة زمنية قصيرة، إذ انتقل الاسم من الدلالة على مكان إلى الدلالة على حاضرة تتوسط المغرب وتربط بين جنوبه وشماله، وشرقه وغربه “القُنَيْطِرة” بضم حرف القاف. وقد كان لتغيير الاسم في مرحلة الحماية دوافع وغايات تروم تخليد الاستعمار الفرنسي، حيث تم تعويض قنيطرة بـ “بور ليوطي” إلى أن تمت استعادة الاسم المحلي للمدينة مع استقلال المغرب، ليشكل ذلك إشارة مهمة في مسار التطور الحضاري الذي أصبحت عليه المدينة، إذ انتقل الاسم ليحيل على الخصوصيات الجغرافية والإرث التاريخي الذي مكنها أن تكون مركزا حضريا يتوسط المغرب ويطل على المحيط الأطلسي عبر مصب واد سبو.

ولا شك أن إطلالة القنيطرة على المحيط الأطلسي عبر واد سبو، منحها عبر التاريخ (منذ الوجود الروماني) خصوصية طبيعية ساهمت في تنميتها.

  1. استغلال الخصوصية الطبيعة لواد سبو

لقد طبع واد سبو سهل الغرب بمجاريه الملتوية، حيث يسقي الأرض ويروي الساكنة والبهيمة والطير، وهو ينبع من الأطلس المتوسط، ويصب في المحيط الأطلسي بالقرب من المهدية، وقد أثر وجوده تاريخيا في المخيال الأسطوري الغرباوي.. وتجلى ذلك في حضوره الدلالي في العادات والتقاليد (مولين الواد)، والروايات الأسطورية التي تتضمن الاعتقاد بجوده وقوته وشساعة نفوذه.

ولأهمية هذا الواد نجد في تاريخ الحضور الروماني بالمغرب مستوطنتين رومانيتين بمنطقة الغرب هما: مستوطنة بابا يوليا كمبسترس (موقع سيدي سعيد قرب سيدي قاسم)، ومستوطنة بناصا يوليا فالنتنا على الضفة اليسرى لنهر سبو (قريبا من مشرع بلقصيري)، كما أقامت روما على مقربة من المصب معسكر تاموسيدا، وهو أكبر القلاع العسكرية الرومانية بموريطانيا الطنجية. وظهرت في فترة حكم الموحدين “مرسى المعمورة” كقاعدة بحرية لبناء السفن، قبل أن تتحول إلى مرسى المهدية وتحتضن قصبة السلطان المولى إسماعيل.

وسط المدينة

لقد أسعف واد سبو الإنسانَ، عبر التاريخ، في إقامة المراسي النهرية الداخلية، ومنحته خصوصية إنسيابه نحو البحر مسربا للدخول نحو “المغرب النافع”، وذلك ما دفع فرنسا إلى التخطيط لمشروع إحداث ميناء نهري معتمدة على دراسات ميدانية أنجزتها في مرحلة قبل الحماية (1901 – 1906م)، متطلعة من خلالها إلى اقتراح مشاريع استثمارية بالمنطقة لها أبعاد استراتيجية واقتصادية وحضرية. وسعت إلى نقل تجربة استغلال المجاري النهرية للربط بين المناطق والمدن، حيث اعتمدتها كمسارات مائية للنقل والتنقل، كما شكل إحداث مرسى القنيطرة أولى أهم المشاريع الاقتصادية التي قدمت عليها فرنسا بالمغرب مباشرة بعد توقيع الحماية، فانتعشت الحركة الملاحية عبر واد سبو إلى ميناء القنيطرة، إذ تم تغيير دور مرسى “لوغاريو” من المهام العسكرية إلى النشاط التجاري، وبذلك تم ترسيم تسمية الميناء بـ “مرسى القنيطرة”.

وشكلت سنة 1914م، بداية مرحلة جديدة من تطور ميناء القنيطرة، فاتسمت بتأمين الدخول عبر مصب واد سبو وتأمين الملاحة إلى الميناء، ثم تجهيز المرسى بالمعدات وآليات الشحن والتفريغ والنقل والتخزين، وظل بذلك ميناء القنيطرة طيلة فترة الحماية الفرنسية في طليعة الموانئ الرئيسة بالمغرب، وساهم بشكل كبير في تطوير مدينة القنيطرة وتنمية منطقة الغرب وربط المناطق الداخلية من المغرب بالمحيط الأطلسي.

ومن بين أهم الأحداث العسكرية التي شهدها أيضا مصب واد سبو، الإنزال الأمريكي بالمهدية (8 نونبر 1942)، والذي عرف بعملية “طورش”، وذلك خلال الحرب العالمية الثانية. فتحت هذه الحملة العسكرية الباب أمام الحضور الأمريكي بالمنطقة، فشكل بذرة لنمط حياة مغايرة تختلف عما سعت فرنسا إلى غرسه بحاضرة “بور ليوطي”، وتجلى ذلك على مستوى التوسع العمراني والهندسة المعمارية ونمط العيش وطبيعة الخدمات، وكان هذا الحضور الأمريكي نقطة تحول في تطور المدينة.

ويعود اختيار مصب سبو لاحتضان عملية “طروش” الأمريكية للخصوصيات الطبيعية للموقع، إلى جانب ما يتميز به مرسى القنيطرة باعتباره “القاعدة العسكرية النهرية للقوات الجوية الفرنسية الخفيفة والطائرات المائية”.

لقد اقتضى استغلال مجرى نهر سبو نحو المحيط الأطلسي إحداث ميناء القنيطرة في المرحلة الكولونيالية، واستفادت منه القنيطرة التي سعت إدارة الحماية الفرنسية ربطها بالميناء، غير أن جذورها كانت ترتوي، منذ الفترة القديمة، من واد سبو الذي أوجد لها خصوصية طبيعة تأثر بها الإنسان الغرباوي قديما وحديثا وتفاعل مع مجالها الخصب.

  1. خط السكة الحديدية ودوره في تطوير القنيطرة

لقد لعب الميناء دورا في تطوير القنيطرة، وبنفس القدر مكنت السكة الحديدية من ربط المدينة بباقي المدن المغربية ونقل البضائع نحوها، حيث شكل إحداث خط السكة الحديدية بالقنيطرة دعامة أساسية في تطوير التجارة للميناء، وكان أحد المشاريع الاستثمارية الكبرى، التي احتدم حولها تنافس الدول الأوروبية، واستغلت فرنسا الأحداث العسكرية التي وقعت بفاس يوم 17 أبريل 1912، وأحداث التخريب التي مست مصالح المحميين والأعيان الفاسيين، لتنفرد بإنشاء خط حديدي يربط الدار البيضاء بفاس، لكون هذا المشروع أحد أكبر المشاريع التي راهنت عليها فرنسا بالمغرب، إلى درجة أن جعلت منه إحدى “واجهاتها الكولونيالية”، وذلك لما سيحدثه المشروع من تغييرات على المناطق التي ستحط بها القاطرة أو ستمر منها السكة الحديدية، كما أنه مشروع يروم إقامة شبكة من المواصلات الحديثة، للاستفادة من خيرات ما كانت تعتبره فرنسا بـ “المغرب النافع”، ولذلك قاومت الساكنة المحلية مشروع فرنسا الكولونيالي، إذ تعرض القطار في 20 ديسمبر 1912م لحادثة هجوم، تعبيرا عن رفضها للتغلغل الفرنسي بالمنطقة.

أقامت إدارة الحماية الفرنسية أول محطة للقطار بالقنيطرة بالقرب من الميناء حيث يوجد القصر البلدي الحالي، وساعد موقع المدينة، في وسط المغرب، على جعل محطة القنيطرة منصة نقل للمسافرين والبضائع في كل الاتجاهات، فأقدمت سلطات الحماية الفرنسية على الاستمرار في مد خطوط السكة الحديدية وربط الحواضر الكبرى والمنشآت الاقتصادية. وقد تم تأسيس شركة السكة الحديدية المغربية في 29 يونيو 1920م، تحت إشراف المقيم العام الجنرال ليوطي، فوقع اختيار موقع المحطة الجديدة فوق ربوة تطل على المدينة والميناء ونهر سبو بشارع الجيش الملكي الحالي. وكان من أولى مهام الشركة وضع خريطة لشبكة السكة الحديدية وإنجاز الخطوط والمحطات التي تربط بين سيدي قاسم والقنيطرة، ثم مواصلة أشغال تهيئة خط القنيطرة – الدار البيضاء بعد ذلك. كما شرعت في ترصيف الخط الرابط بين القنيطرة وسوق الأربعاء الغرب، والخط الرابط بين سيدي قاسم ومشرع بلقصيري في اتجاه طنجة.

وفي مرحلة الاستقلال صارت القنيطرة نقطة وصل السكك الحديدية بالمغرب، قبل أن يشرع “المكتب الوطني للسكة الحديدية” في عملية تثنية خط السكة الحديدية بالمغرب، حيث تم إطلاق القطار المكوكي السريع (عويطة) سنة 1984، ثم كان مع سنة 2018م قرار اتخاذ القنيطرة كأول محطة القطار الفائق السرعة “البراق”، الذي انطلق من طنجة في اتجاه الدار البيضاء، إن هذا المشروع هو اعتراف بالدور الذي لعبته هذه المدينة في تطوير الخط الحديدي بالمغرب، وساعد هذا الانتقال في استقرار العديد من الموظفين بالقنيطرة وتنقلهم على طول خط الرباط – الدار البيضاء، وبهذا تكون السكة الحديدية قدمت نفسا جديدا لمدينة القنيطرة بعدما تراجع الميناء، إذ أنها وفرت للشركات والمصانع والمعامل والإدارة والساكنة جسر التواصل مع باقي المدن والجهات سواء في اتجاه الشمال أو الجنوب، مما جعل منها مدينة تعرف انفتاحا، ولها قابلية التأقلم والتطور وفق الظروف الاقتصادية التي تعيشها البلاد.

  1. مؤسسة النظام البلدي في عهد الحماية

اعتمدت الحماية الفرنسية “مؤسسة البلدية” لتغيير معالم المدن المغربية، وطرق تسييرها وتنظيمها، وشكلت مدينة القنيطرة منذ سنة 1913 مختبر تجربة مؤسسة النظام البلدي، قبل تعميمه على المدن المغربية الأخرى، وقد كان هذا النظام وسيلة للتحكم في توسيع المجال الترابي للمدينة ومجالها الحضري وتنظيم وتوزيع ساكنة المدينة، وأداة لإحداث وإقامة مشاريع استثمارية تهم البنية التحتية للمدينة، وتنظيم أحياء سكنية وحرفية وصناعية وفضاءات رياضية وترفيهية ومصالح إدارية وصحية ومرافق عمومية، مع تنوع استقرار المؤسسات العسكرية والإدارية والخدماتية والاقتصادية والاستثمارية.

وقد شكلت “مؤسسة البلدية” وسيلة لإدماج المواطن في مجاله الترابي عبر إحداث نظام التمثيلية في اتخاذ القرارات العمومية، أي نظام إشراك الأعيان (الأوروبيين والمغاربة) في اقتراح وتنفيذ المشاريع تحت سلطة الحماية الفرنسية، التي احتفظت لنفسها بحق الموافقة والمراقبة، وتتبع إنجاز المشاريع داخل المجال الحضري، وفق التصاميم الحضرية التي يقترحها المجلس البلدي وتوافق عليها السلطة المركزية، وكانت هذه السياسة طريقا إلى إضعاف البنية التقليدية المحلية سواء منها المخزنية أو القبلية.

  1. التجمعات السكانية المكونة للمدينة

إن التجمعات القبلية الكبرى ساهمت في تطور الاستقرار البشري في منطقة الغرب، منها قبائل (بني هلال بما فيهم: رياح والخلط وسفيان وبني مالك وطليق، ثم بني معقل، بما فيهم أولاد مطاع وبني احْسن والشراردة)3، وإن لهذه القبائل وجودا تاريخيا في المنطقة قبل فترة توافد المهاجرين واللاجئين الذين استقروا بمنطقة الغرب، كما كان للحضور المخزني أثر بارز تَجَسد في البنايات العسكرية (النزالة والمحلة والقصبة)، والمجال الجغرافي لبني احْسن كان مقسما ومؤمنا، مما يؤكد أن المنطقة كانت ضمن بلاد المخزن ولم تكن أبدا تدخل ضمن “بلاد السيبا”.

وتتميز القنيطرة باحتضانها لمزيج من السكان، يختزل التنوع البشري لكل جهات ومناطق المغرب. وقد عرفت تحولا ديموغرافيا منذ نشأتها، لما لها من خصوصية الموقع الجغرافي على الشريط الأطلسي، ولتوفرها على ميناء تجاري ساهم في استقرار مجموعة من الشركات والمؤسسات الخدماتية وإحداث مرافق إدارية عمومية. وكان لقرار الجنرال ليوطي في إحداث تجمع حضري نموذجي بالقرب من الميناء وعلى خط السكة الحديدية الرابط بين فاس والدار البيضاء، أثر في جعل القنيطرة تستقطب أفواجا من الوافدين من المغاربة والأجانب، حيث استقبلت المدينة مجموعة من الوافدين من قبائل بني احسن والغرب، و«ظلت القنيطرة الغرباوية المغربية والإنسانية، المدينة الأساس لكل المدن والقرى والبوادي والقبائل المنضوية تحتها والقريبة منها.. باعتبارها المصدر الأساس الذي يحدد تاريخ بدايات الدخول إلى هذه المنطقة الغرباوية، بما في ذلك البشر والحضارات والثقافات والتراثات.. عن طريق الغزو أو الاكتشاف أو الرحلة أو الاستعمار..»4، وهذا ما جعل بعض أحيائها تحمل أسماء تحيل على أصول ساكنتها مثل البوشتيين، الساكنية، أولاد وجيه، أولاد عرفة… وشكل هذا التوافد مزيجا في ساكنتها بين الريفي والجبلي والأطلسي والسوسي والصحراوي والأمازيغي والغرباوي والعربي والأوروبي، كما أن حضور العنصر اليهودي والمسيحي والمسلم جعل منها مدينة التعايش والتلاقح، تنتعش بحمولة وافديها الذين ساهموا، كل حسب زمانه وحمولته، في تطوير وتجاوز الصعاب التي مرت منها المدينة.

إن انطلاقة القنيطرة من نواة الساكنة المحلية والوافدة من التجار والمعمرين خلال الفترة التي كانت تحمل اسم بور ليوطي، إلى أن احتضنت العمال والموظفين خلال الفترة الحالية يعطينا صورة أن المدينة تطورت ساكنتها بفضل ما تعرفه من الحيوية باعتبارها قطبا اقتصاديا، تتنوع ساكنتها ويتوسع مجالها الحضري من المركز نحو الضواحي، كما أنها تحقق حياة التعايش والتسامح بفضل انفتاحها وتقبلها للآخر

  1. الأولياء والتجمعات السكانية

إن التجمعات السكانية يرتبط تكوينها كذلك بالرباطات والزوايا والشرفاء، حيث كان للطريقة التجانية والدرقاوية والبوعزاوية وطائفة حمادشة أتباع ومريدون يقدسون الأولياء والصالحين والمرابطين الذين كانوا قدوة لغيرهم في الصلاح والجهاد ونشر العلم وإصلاح ذات البين، ولهذا شكلت أراضي بني احسن والمناطق المحاذية لزمور والأطلس المتوسط، محطة تجاذب واستقرار الأولياء والصلحاء، حيث تكشف دراسة الأولياء والصلحاء بمنطقة الغرب أن أحواز القنيطرة، كانت موطن استقرار مجموعة منهم، مما يفند أطروحة “الأرض الخالية” من الساكنة، إذ تحيل أسماؤهم على مواطنهم الأصلية من سوس وعبدة والشياظمة والحوز والأطلس المتوسط وشمال المغرب، مما يعكس حرص الطرق الدينية على الاستقرار بهذه المنطقة5. ولا تزال مزارات وأضرحة الأولياء والصلحاء تؤثث مختلف المناطق المحيطة بالقنيطرة، كما أن إحياء مواسمهم السنوية يشهد على انتشار الطرق الصوفية، ما بين الشرفاء البوشتيين والركراكيين والشرقاويين والبوعزاويين، مما يؤكد على استقرار الساكنة وتأطيرها الديني وتنظيمها الاجتماعي، ومن هذه الأضرحة: ضريح “سيدي علي بن بوشتى” الموجود بالقرب من نزالة علي أعدي بين الساكنية وعامر السفلية، وضريح “سيدي العربي بن محمد بن جعفر بن أبي جمعة” (المعروف بسيدي العربي بوجمعة)، دفين القنيطرة، وهو من الشرفاء الركراكيين الذين تفرقوا في المغرب (ويقام له موسم مشهور)، وهناك “سيدي البخاري” و”سيدي محمد الشبل”، كما يقع ضريح الولي “سيدي محمد الغازي المهداوي” في القسم السفلي من قلعة المهدية. وفي المنطقة الفاصلة بين المهدية وسيدي الطيبي يوجد ضريح “سيدي محمد بن بوغابة الشرقاوي” (المعروف بسيدي بوغابة).. إن المجال الجغرافي كان عامرا، ليس فقط بالأولياء، ولكن أيضا بالساكنة التي تنتظم في إحياء مواسمها السنوية، حيث تشكل الأعراف والمواسم التي تنظمها، أهم المؤشرات الدالة على التنظيم الاجتماعي لدى ساكنة المنطقة على اختلاف مشاربها وتعدد روافدها، وقد شكلت الساكنية والحدادة وقبائل بني احسن إلى جانب البوشتيين أهم المجموعات القبلية التي كانت تحيي موسم سيدي علي البوشتي.

  1. التوسع الحضري للقنيطرة

قامت سلطات الحماية الفرنسية منذ منتصف 1914م، بتقسيم مدينة القنيطرة، بين الحي الأوروبي والحي الأهلي، وعرف القسم الأوروبي تطورا وتقدما في اتجاه الجنوب الشرقي، من الفيلاج نحو المدينة العليا (لفيلوت)، أما القسم الأهلي فتوسع في اتجاه الشمال الغربي للمدينة بالقرب من الميناء، من لمدينة إلى ما بعد الساكنية، ليكون بمقام مستقر لأنشطة التجار المغاربة القادمين بالخصوص من فاس ومكناس. ثم توسعت بعد ذلك المدينة الأهلية والضواحي بشكل أخطبوطي على حساب الأراضي السلالية وأراضي الجموع، وقد عرفت مراحل في توسعها بدءا من حي الملاح إلى الخبازات في اتجاه باب فاس، إلى أن شكلت مرحلة إعادة هيكلة تصميم المدينة ومشروع القضاء على دور الصفيح، أهم فترات التوسع، حيث تم إحداث تجزئات سكنية بكل من حي أوريدة والساكنية وأولاد عرفة والسبت.

إن خاصية الازدواجية التي تنفرد بها مدينة القنيطرة والمتمثلة في المدينة الأوروبية والمدينة الأهلية، هو ما حدا بالباحث إلى تتبع تطور أحياء القسم الأهلي وخصوصية توسعه لإعطاء صورة شاملة عن كل الأحياء التي أحدثت على فترات زمنية، بداية من الفترة التي عمدت فيها سلطات الحماية إلى إحداث التفريق في المدينة، حتى أن المجلس البلدي حينها أصدر مرسوم منع الساكنة المغربية من الأهالي، من التنقل أو السكن بالحي الأوروبي إلا بترخيص من سلطات الحماية الفرنسية، إلى غاية إعادة هيكلة تصميم المدينة والقضاء على دور الصفيح في مرحلة ما بعد الاستقلال.

  1. الخصوصيات العمرانية والمعمارية

إن البنايات التاريخية بمدينة القنيطرة تعكس ما وظفته سلطات الحماية الفرنسية من تجربتها في تخطيط المدن، وقد سعت إلى أن تجعل من القنيطرة نموذج المدينة العصرية إلى جانب المدن العتيقة بالمغرب، لهذا تنوع تخطيطها للبنايات بين الإدارية والدينية والخاصة، كما أنها تعمدت الازدواجية على مستوى شكل البنايات بين العمارات والفيلات في الحي الأوروبي، وبين الدور السكينة المغربية والبرارك في الحي الأهلي.

ساهمت الحماية الفرنسية في تنفيذ التعمير الكولونيالي معتمدة على أمهر المهندسين الذين أبدعوا في بناء المؤسسات العمومية والبنايات الخاصة بالقنيطرة، كالثكنة العسكرية بجوار الميناء. ومع مطلع 1913م كانت القنيطرة تتوفر على مجموعة من مؤسسات الخدمات المدنية والإدارية والصحية مثل بناية قيادة المراقبة المدنية للغرب وبني احسن، ودار القضاء، ومكتب البريد الشريف، إلى جانب مكتب البريد الألماني؛ وبقرب منه مكتب التلغراف والهاتف قبل أن يتم تعزيز هذه المنشآت بـ “بناية البريد” سنة 1920م. ومع تطور المدينة تم تشييد قصر البلدية بالساحة الإدارية (1921م)، وبالقرب منه، غرفة التجارة والصناعة لتنظيم الحركة التجارية والصناعية بالقنيطرة. كما أقدمت الحماية الفرنسية سنة 1913م على إحداث مستشفى خاص بالعسكريين والمدنيين الأوروبيين، والمصحة الأهلية الخاصة بالمغاربة سنة 1914م، وتم تدشين مستشفى الأهالي (1924م) شرق المنطقة العسكرية على مشارف غابة المعمورة، حيث ما زال يعرف لدى الساكنة بـ “سبيطار الغابة”.

سعت المؤسسات الدينية على اختلاف مللها ونحلها إلى الحصول على حق إحداث مؤسسات تابعة لها، حيث تم افتتاح أولى المدارس العمومية بالحي الأوروبي بالقنيطرة سنة 1913، ومدرسة الميناء بالقرب من قصبة القنيطرة، ومدرسة المحطة (مدرسة شوقي فيما بعد)، والمدرسة الحرة، ومدرسة ميناء ليوطي التي صارت بعد الاستقلال تحمل اسم عبد المالك السعدي، ومدرسة القديسة بساحة المغرب العربي، ومدرسة التقدم التي تعد من أعرق المدارس الخصوصية بالقنيطرة وتتميز بمعمارها وبنايتها العتيقة التي صممت على طراز المدارس العتيقة، كالمدرسة المرينية والبوعنانية في فاس، وإلى جانب ذلك كانت هناك مؤسسات تربوية واجتماعية وخيرية.

ميناء القنيطرة

ويعد مسجد القصبة العزيزية أقدم بناية دينية إسلامية أوردتها المصادر التاريخية، ثم في فترة لاحقة شيد المسجد العتيق بالاعتماد على تصميم هندسي على الطراز المغربي للمساجد العتيقة، وكان أول مسجد أقيمت فيه صلاة الجمعة بالقنيطرة. إضافة إلى ذلك تعرف مدينة القنيطرة تمركزا للبنايات المسيحية، خصوصا في الحي الأوروبي الذي ظل خاليا من المساجد إلى غاية سنة 1966م، حيث أقدم أحد المحسنين على بناء مسجد الإمام علي بحي المدينة العليا. وتأسست أول أبرشية بالقنيطرة سنة 1914م.

إن البنايات التاريخية للإدارة والخدمات العمومية والمؤسسات التعليمية والتربوية العمومية والخاصة وأماكن إقامة شعائر الديانات السماوية بالقنيطرة لهي دلائل مادية عن تطور المدينة سواء الحي الأوروبي أو الحي الأهلي، وإن بعض هذه البنايات مازالت تشهد على الحياة الاقتصادية والاجتماعية والدينية، التي عايشتها المدينة في علاقتها مع الميناء وخط السكة الحديدية من جهة، ومن جهة أخرى مع تطور استقرار الساكنة وتغير تركيبتها الاجتماعية ما بين الحماية وفترة ما بعد الاستقلال.

ورغم الزحف العمراني الذي تعرفه مدينة القنيطرة والذي أتى على غالبية المباني التاريخية، لا تزال تحتفظ ببعض المعالم التي تختزل موروثا كولونياليا، يشهد على أن المدينة كانت مختبرا للمهندسين المعماريين الذين وجدوا في أرضيتها فضاء لتطبيق أشكال الإبداعات الهندسية الأوروبية العصرية.

وإن نمط وأشكال الفيلات الكولونيالية بالقنيطرة، وما تحتفظ به بعض المباني من آثار هندسية معمارية يثير مسألة العناية بالتخطيط والهندسة لهذه البنايات، التي تعد معالم وتراثا عمرانيا يختزل العلاقات بين ضفتي حوض البحر الأبيض المتوسط واستمرارية التلاقح بين مختلف الفترات التاريخية، والتواصل والتورات بين أهم الحضارات التي تعاقبت على بلدان هذه المنطقة.

على سبيل الختم

إن الصورة التي نكونها عن القنيطرة بين الماضي والحاضر، بناء على هذه المعطيات التاريخية التي قدمها كتاب الدكتور سعيد البوزيدي «القنيطرة رحلة تاريخية»، هي بمقام أرضية خصبة لفهم أهم التحولات التي عرفتها المدينة حتى نتمكن من استيعاب واقعها الذي يتسم بالتطور والتحول والانتقال في أعز فترات الأزمة، حيث انتقلت من “بور ليوطي” إلى “عاصمة الغرب”، ثم ارتبطت في أواخر القرن العشرين بالرباط والبيضاء بخط السكة الحديدية السريع “عويطة”، ولتدخل مع إحداث محطة “البراق” الرابط بين طنجة والدار البيضاء، وافتتاح المنطقة الصناعية الحرة لشركات مغربية ودولية بأولاد بورحمة، عصرا جديدا تتطلع من خلاله بدور المدينة المحور، وقطبا اقتصاديا وجامعيا وطنيا وإفريقيا.

ويمكننا هنا أن نؤكد أن هذه الرحلة التاريخية التي قدمها الباحث تفند ما كان راسخا في الاعتقاد السائد، أن منطقة الغرب مجال غير صالح للسكن والاستقرار والأمن، وأن لا تاريخ ولا حضارة ولا ثقافة لها، إلا أن اكتشاف المآثر الإنسانية الحضارية والثقافية أثبت غير ذلك، إذ أن أهم مركز فنيقي كان عند مصب واد سبو، “تيمياتريون” وعلى أطلاله أنشئت قصبة المهدية.

وصحيح أن ليوطي أحدث الميناء النهري وبنى الكثير من المؤسسات والملاهي والحانات والمدارس والكنائس.. إلا أنه يحق لنا القول إن القنيطرة هي نتاج مكونات اجتماعية وثقافية وتفاعلات الإنسان بالمجال والطبيعة، وهي حصيلة أسباب وعوامل وظروف طبيعية وسياقات تاريخية تجلت في تراثها المادي واللامادي، أليس هذا ما شكل تاريخها وهويتها؟

الإحالات:

  1. سعيد البوزيدي، القنيطرة رحلة تاريخية، مطابع الرباط نت، الرابط، 2022.
  2. نفسه، ص:18.
  3. نفسه، ص: 115.
  4. بوسلهام الكط، مدينة القنيطرة مدينة الحرية والثقافة والحضارات..الإنسانية..؟!، المطبعة السريعة، القنيطرة، 2016، ص: 22.
  5. سعيد البوزيدي، القنيطرة رحلة تاريخية، ص: 117.

بقلم: رشيد أمديون

Top