في القنيطرة .. كانت سماء الصمت للشعر وكان جرحه لي

اليوم تطأ روحي أرض القنيطرة وفي غرفها يتسابق غيم لحظات حبلى بأسرار حياة، أسرار كانت ترشق عمرا كانْ بشغف شباب وإصرار وحركة أقدام، وتيه فتي في عوالم السؤال ورسم وجهات هذا السؤال على جدران وأسوار منابر التعلم والحلم، رسم به تنقش الذات شموس إقدام على أديم الخطى والوثبات .. اليوم تطأ روحي أرضا كلما صافحتها تتناسل في رأسي وقفات مراحل عديدة، ما يزال صدى وجودها يؤثث علبة مخيلتي البعيدة القريبة، تلك العلبة التي يحتفظ بها كل منا في باطنه بكل ما تحمله من قطع أحداث وطرائف وفرح ومرارة، هي قطع حيوات ثمينة من وإلى الروح، يرافقنا دفئها وجرحها مهما تقدمت بنا رياح السنين وغيرتنا رجاتها. لن أجعل من الذكرى مجرد حنين لعمر كان، ولن أجعلها كيمياء موت يتسرب لضلوع حاضر يغشى الجمود جسد لحظاته، وفي نفس الآن لن أدعي بطولة الخلاص الكلي من ما يعلق من جراحات باطنية، وما يعانيه هذا الكل المسلوب من استقلالية تامة تؤهله لحياة أريح وأنسب، لا توبيخي للحياة التي ترفضني، سيمدني بطاقة خلاقة لمواجهة نفسي بكثير من ما يعلق بنفسي، ولا النحيب والبكاء سيخلصاني من ابتلاع موتات عسيرة كلما اشتدت وضاقت الروح قبل الجسد.. أقول لن أجعل من عبور كان مجرد طلل تبكيه الذاكرة ويشحذ عنفوانه هذا الآني المرتجف، كيف أفعل إذا كنت أرى أن الأمس ما هو إلا همس قريب في أذن حاضر يدرك أن ميلاداتنا هي نقطة نهاية لتعسف زماني، فكل نهاية هي بداية حروب صغيرة “جميلة” تخوضها الذات للظفر بانتصار كبير، الظفر بآن جواني سليم، الظفر بجوهر مشيد بضياءات لا تموت، ضياءات الإصرار، وكل ما تعنيه كلمة صمود، فالهزائم هي مجاديف لمركب يقل ضعفنا إلى مرافئ كل تحد ممكن، يقلنا إلى ضفاف الطاقات وسبل القوة، يقول راينر ماريا ريلكه: “الهدف من الحياة أن تنتقل من هزيمة إلى هزيمة على يد أشياء أعظم”. قنيطرة الأمس كانت من بين مراحل الضوء التي وهبتني مساحات القبض على جمر الاكتشاف واختبار الوعي وتحمل مسؤولية هذا الاختبار، علمتني خلق حوارات باطنية كفيلة بصنع الرأي قبل التفكير في خلق حرية لهذا الرأي، على أبواب معاهدها حملتني أقدامي المدسوسة في حذاء رياضي، الذي غالبا ما كان ثمنه يسحب من ميزانية منحة دراسية منهكة، ونشيد الثورة يلف عنقي المائل دون سبب جهة الظلال، أخطو وأعدو وقتها وألوح بوشاح الفرح للحياة إن استطاعت أن ترمق ظلي ولو من بعيد، لحظتئذ تعلمت أن لا شقاء يعيق مواصلة الركض خلف الحلم مادام كل شقاء محتمل أو موجود هو خطوة لتشييد لبنة العزم وكل العزم، وأدركت أن الضجيج الذي يصدره العالم حولي يلزمه صمت جبار يستفز جوعي الكبير لمواجهة ضجيج هذا العالم، أو “ضجيج المعنى” كما كان يراه عقلي الصغير، هكذا كان صمتي لا يخفق بقوة إلا وأنا أتوكأ الحب لمشاركة الشعر سقف كل أمكنتي وزمانها، فكانت القنيطرة من أثرى المحطات التي كنت أقتات فيها دوخات الشعر، فيولد بداخلي تمسك حي لحب الكلمة، هناك.. ، هنا كانت سماء الصمت للشعر وكان جرحه لي، لكن كنت دائمة التحليق في صخب قوة صوت هذا الصمت، أمام صوت محمد الطوبي وعبد الله راجع وأحمد المجاطي وأحمد بركات والسياب وغارسيا لوركا وآخرون، كنت أتحول إلى طائر بصمته يقضم سماء الفكرة فتسيح من فم عليائه دهشة الحرية، يتفاقم حب هذه الدهشة، وتكبر قوة الرغبة في محاولة الحفر والنبش في الطريق المؤدية إلى جلال جنة الشعر.. ها هي هذه المدينة اليوم أتت لتخبرني بأن كل تلك الظلال التي كان عنقي يميل اتجاهها تتحول هذا المساء بفضل أناس يزرعون النهارات في أعين كل من عبر عبْر أرواحهم، أناس بصمت المجيدين وبعمل المجدين يؤثثون أسرار عمق الإنسانية ويعتلون قلعات الجمال، بفضلهم تحولت هذه الظلال إلى شموس تُحول من يمسكها ينعم بأجنحة من نور وحياة.. فبيت المبدع بكل مشيديه الأساتذة الشعراء: عبد الرحمان الغوات، سي محمد لعوينة ، التهامي شويكة ، خدوج العزواني الساكت وبهيجة كرنو ، وكل من ساهم في ترتيب هذا اللقاء، كل هذه اليد الكريمة المتحدة تصر على ملامسة لب القيم، تغمس القلوب في ماء الوئام والوداد فيغتسل الحب ويصحو الإنسان .. القنيطرة اليوم بفضل بيت المبدع تؤكد أن أمسي كان فقط يهيئني لتعلم الزحف على حقول أرواح تروض الذات على تقفي بياضاتها، وتَجاوز بؤر التعثر الباطني الذي يحول دون انطلاقها وعطاءاتها.. حين يحتفي هذا البيت بالإبداع وبالمبدعين وحين تشدو كل لقاءاته بقداسة المعنى الكبير للشعر وبجوهر رسالته، واليوم حين يتزامن هذا اللقاء بالأسبوع الذي يحتفى به باليوم العالمي للغة العربية، حينها تتلاشى كل أزمنة الضمور والخفوت وتسطع فقط لغة واحدة، توحد وتتوحد في جوهر الإنسان.. لغة فوق كل لغط وفوق كل ترتيب وتقييم واختناق.. هي لغة الحرية .. بيت المبدع يحتفي اليوم بحرية الإبداع فمتى كان العقل رحبا وكانت النفس حرة وكانت المحبة بوصلة الروح، نضمن حياة هذا الإبداع ونكون في منأى عن كل موت وفناء للجمال ولحرية هذا الجمال. ممتنة لتشريفي بهذا التزامن: الاحتفاء بديوان “بريد الفراشات” و فترة الاحتفاء باللغة العربية، هذه اللغة الغنية عن كل تذكير بضرورة الاعتناء والاحتفاظ بقيمتها أو التذكير بكل ما تحمله من ثقل في رمزيات حضورها، لا على مستوى بعدها الديني وعلى كل ما يميز حمولتها الكونية والفنية والجمالية، ولو أن هذا التذكير يصبح في أحايين كثيرة ضرورة، خاصة حين يزداد القصد في اللامبالاة والتقصير والتعسف في قيمة وذاكرة وهوية ووجدان هذه اللغة .. في يومها العالمي، ندرك تماهينا في المساهمة في ضياع هذه اللغة، ندرك جسارة العاقبة كلما تمادينا في التسهيل لكل مساس بعظمة حضورها، اللغة العربية هي فن حياة قبل أن تكون ضرورة تواصل في هذه الحياة، لهذا يجب تفعيل الاهتمام بها وليس حصر كل التفاتة تجاهها في خانة يوم عالمي محدد أو اعتبارها مجرد ذكرى يحتفى فقط بها. اللغة العربية اليوم وفي كل حين تحثنا على النضال لأجل صيانتها وصيانة جوهرها المجيد، تضع على عاتقنا ثقل هذه الأمانة ومتانة هذه الأمانة وتحملنا في سمو حضورها بضرورة احترام وازع الرابط الذي يجمعنا، تحثنا أكثر من أي وقت مضى على عدم انصياعنا وانهزامنا أمام كل استلاب وتطبيع قاتلين.
نجتمع اليوم لنخْلد جميعا إلى سماوات الصدق، نلامس هذه السماوات بيد الحب ورعشة الشعر ونجعل جميعا ملكات سمعنا تبصر خطى فرحنا، ونجعل بصيرتنا ترتوي وتستمع لخطى سمو الإنسان، مع آل القنيطرة وآل بيت المبدع وكل الحاضرين وكل من يصاحبني في هذا التحليق الإنساني القيمي الروحاني الجمالي من نقاد رصينين أعتز بعمقهم الناقد الأدبي محمد رمصيص والناقد الأدبي محمد معتصم، والمسير المقدم ،عالي الروح، الشاعر الذي أثق بصدق الإنسان قبل المبدع الذي يسكنه الشاعر حسن اعبيدو، وأساتذة أحترمهم وشعراء وشواعر ألمس رحابة محبتهم وأصدقاء وصديقات أصفياء وكل أهل النبل، كل من تنقل من بعيد وقريب لتحمل لي أصابع قلبه الوفاء، كل من أتى لنوقد معا شموع فرح نادر، يقول ابن الفارص: “وإذا صفا لك من زمانك واحد فهو المراد وعش بذلك الواحد”، فكيف أكون أنا بينكم وأنتم لستم واحدا، كيف لا ترتجف روحي وهي تستقبل كل هذا الحب الذي يسيح من عيونكم وأرواحكم ، أنتم كثر وقلبي يسع ويزيد..

فشكرا بلا حدود لبيت المبدع ..
دمتم على قيد الشعر والحب ..
ولكل من قدم لي حسنة المحبة أقول:
تحيا المحبة وتحيا كل محبة ترتع
في أعماقها آثام الجمال .

هامش:

(ألقيت هذه الشهادة على هامش احتفاء بيت المبدع بالقنيطرة بديوان “بريد الفراشات” لحسنة أولهاشمي تزامنا بالاحتفاء
باللغة العربية في يومها العالمي )

> بقلم: حسنة أولهاشمي

Related posts

Top