شهدت دار الشعر بمراكش صبيحة يوم السبت 25 يناير الدورة السادسة من “محاورات”، والتي رغبت من خلالها الدارُ تجديدَ رؤيتها لورشات الكتابة الشعرية في موسمها الثامن. رؤيةٌ تهدفُ إلى أن ينفتح الشبابُ والمهتمون على رهانات كتابة الشعر، ومنهجيات قراءته، وأسئلة مقاربته. إيمانا بأن الارتقاء بالكتابة والقراءة الواعيتينِ بمضايقهما وحدودهما، كفيلٌ بترسيخ محبة الشعر، والثقة في القصيدة.
طرحت هذه الدورة من “محاورات” سؤالين مترابطين: “منهجيات التحليل والمقاربة، أنماط الكتابة الشذرية”، واستضافت لمنقاشتهما ضيفين يمثِّلان تجربتين مائزتين:
الشاعر مصطفى قلوشي: وهو صاحب تجربة شعرية راكمت مُنجزاً على امتداد ثمانية دواوين، آخرها صدوراً “عُزلةٌ ترتِّقُ مِزَقَ العالَم” (2024). وقد كان للهايكو والكتابة الشذرية حضورٌ مترسخٌ كان دافعاً لدعوة الشاعر مصطفى قلوشي، كي يتقاسم مع رواد ورشات الكتابة الشعرية رؤيتهُ الخاصة في الكتابة، ورهاناته الإبداعية من خلال هذه الأنواع الوجيزة كاختيار إبداعي.
الأكاديمي هشام فتح صاحب تجربة نقدية، قاربت القصيدة من خلال منهجيات مختلفة، لسانية، وسيميائية،… وأثمرت إصدارات عدة، منها: “منهجية العمل الجامعي: مهارة تحليل النص”. كما أنه مهتم بتحليل الخطاب، ومنه الكتابة الشذرية والهايكو.
وقد استُهلَّ اللقاء بقراءة شعرية قدم من خلالها الشاعر مصطفى قلوشي نصوصاً مختارةً من نص طويل تحت عنوان “مساميرُ في الرأس” من ديوانه المذكور أعلاهُ. يقول:
أيّها المَوتُ،
لا تُقامِر معي بِنردٍ زائف
… فأنا الخاسِرُ دوما
~ ~ ~ ~ ~
.. أنا الظلُّ المُسنَدُ إلى العراء،
أنا الظِلُّ الذي أكَلَ الطيرُ مِن رأسِه
وتركه وحيداً في حقــول القيــظ
عَرّابَ عزلة
وعلى ضوء هذه القراءة الشعرية، افتُتح النقاش حول مفهوم الكتابة الشذرية، والأنماط المنضوية تحت مظلته، والأسس البانية لهذا الاختيار الكتابي، وأثر الوسائط الالكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي في استسهال هذه الأنماط الوجيزة، وأخيراً سؤال التلقي وأزمة المتابعة النقدية. وقد اتفق المتدخلانِ معاً في أن تاريخ الكتابة الشذرية تعود إلى فجر الكتابة الإنسانية، ومنها الشعر العربي الذي بدأ على شكل نُتَفٍ قبل الـمُهَلْهِل الذي نقلنا إلى القصيدة. كما أن الكتابة الصوفية كان لها عطاءٌ ثَرٌّ في هذا الباب، انطلاقاً من قولة النِّفَّرِيِّ الذائعة: “كُلَّما اتسعتِ الرُّؤيا، ضاقتِ العبارة”. قبل الكتاب والشعراء العربُ على الوافد الغربي من خلال الفلسفة النتشوية المحتفية بالشذرة بوصفها أسلوباً مضادّاًّ للنسق، ومحتفياً بتشظي المعنى، بلهَ ضياعه، كما رسَّخت ذلك الفلسفة ما بعد الحداثية (ديريدا، بلانشو…).
وقد ركز الشاعرُ مصطفى قلوشي من واقع تجربته الشعرية، على كتابة الهايكو وما عرفته من محاولاتٍ للتأصيل في تربة الشعر العربي عموماً، والمغربي خصوصاً مع “نادي هايكو موروكو” (2019)، مشيراً إلى محاولة ربط هذا النمط الكتابي بالبيئة والثقافة المحلية.
في المُقابل، ركز الأكاديميُّ هشام فتح على سؤال التجنيس، باعتباره المدخل الأكثر ملاءمة لمقاربة أنماط الكتابة الشذرية والهايكو أيضاً. وهو ما يحتاج إلى مزيد من الدراسة الواعية بخصوصياتِ الأشكال الوافدة في سياقاتها الثقافية، ثُم في السياقات المُستقبِلة، كي نقف على مميزات الشذرة، والأفوريزم، والومضة الشعرية، والهايكو… الخ، وهو ما يطرح إشكالاً آخر اتفقَ حولَهُ الضيفان معاً، وهو ظاهرة استسهال كتابتها خاصة في وسائط التواصل الاجتماعي من جهة، وضعف المواكبة النقدية لهذه الأشكال، من جهة ثانية.
وهكذا، يُطرحُ سؤالُ التلقي أمام القارئ، خاصة وأن الكتابة الشذرية والأشكال المتضايفة معها، تتميز بالتكثيف، والمراهنة على قارئها ليملأ ما تتركُهُ – عن قصدٍ- من بياضاتٍ تحتاج إلى ثقافة واسعةٍ تُسعفُ في التأويلِ، وبناء الدلالات.
وقد اختتم هذا الحوار الغنيُّ، بقراءات شعرية قدمها الشاعر مصطفى قلوشي، ليبقى الانتصارُ إلى النص، وتبقى أسئلة القراءة والمقاربة مفتوحةً على محاوراتٍ قادمة، على أمل أن تزيد من شغفِ رواد دار الشعر، ومرتفقي ورشات الكتابة فيها، في مزيد من كتابة الشعر، ومساءلة منهجيات قراءته.
ويندرج هذا البرنامج الجديد للدار، ضمن فعاليات الموسم الثامن وضمن تبويب جديد يسعى إلى إعطاء بعد تفاعلي في التعامل مع النص الشعري وتحليله، إبداعا ونقدا. كما ينفتح هذا البرنامج، مع مرتفقي ومرتفقات الورشات، على تمثل مختلف المكتسبات التي راكموها خلال المواسم السابقة. فقرة تحتضن تجارب شعرية ونقدية، ضمن حوار خلاق يسعى إلى تمثل سمات هذه التجارب، واحتضانها في فضاء “مختبر” تحليلي يسعى إلى أن يكون أفقا للحوار والمساءلة والتأويل.