لطالما تمحورت الحملات والانتخابات حول البيانات؛ حيث تتوارى صناعة قائمة على القياسات تحت ستار الوعود التي تدغدغ العواطف ولكن في ظل التقدم التكنولوجي تغيرت قواعد تشكيل الرأي العام وباتت البيانات واستثمار الذكاء الاصطناعي أدوات فاعلة في تحديد المستقبل السياسي عبر تأثيرها الكبير في اختيار المرشحين.
من المنتظر أن تنتظم الانتخابات الأميركية في الثالث من نوفمبر المقبل بين الرئيس الجمهوري الحالي دونالد ترامب ومنافسه الديمقراطي جو بايدن وهو ما يجعلنا نسلط الضوء على أهمية التكنولوجيا في تشكيل الرأي العام الأميركي بعيدا عن استطلاعات الرأي التي بدأت تفقد فاعليتها وتأثيرها في خضم المتغيرات الجديدة في عالمنا المعاصر.
وتطورت التقنيات المستخدمة للفوز بأصوات الناخبين -كالاستهداف الدقيق وجمع البيانات وغيرها- بشكل كبير عن الأساليب المتبعة في عام 2016.
وإذا كانت إحدى الحملات موفَّقة بما يكفي، فإنها ستشق طريقها إلى النجاح في خضمّ العوامل المعقدة المؤثرة في عملية الاقتراع، مثل صفات الناخبين، والتركيبة السكانية، ومستوى الإقبال، والانطباعات، ومناورات تقسيم الدوائر الانتخابية، وشراء الإعلانات للتواصل مع الناخبين بطريقة تؤثر عليهم أو حتى تلهمهم.
وقد اتبعت جميع الحملات الانتخابية بعضا من أساليب هذه الخلطة الخاصة من أوباما إلى ترامب في حملته “لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى”، وحتى أليكساندريا أوكازيو كورتيز. ومع ذلك، فإن الفوز من نصيب الحملات التي تجمع وتستخدم الأرقام على النحو الأفضل.
لا شك أن هذا المنطق كان صالحا لبعض الوقت؛ ففي عام 2017، عبّرت هيلاري كلينتون عن استيائها لأن اللجنة الوطنية للحزب الديمقراطي قد زوّدت فريقها ببيانات قديمة. وألقت باللوم على ذلك في خسارتها أمام دونالد ترامب، الذي تربَّعت حملته الانتخابية على رأس آلة “جمهورية” مذهلة لتجميع ومعالجة البيانات.
واعترضت اللجنة الوطنية للحزب الديمقراطي بحِدَّة حينها على كلام كلينتون قائلة إن المشكلة لم تكن في البيانات التي قدَّمتها وإنما في طريقة استخدامها التي لم تكن مناسبة.
أما في عام 2020، فقد أضافت الحملات الانتخابية تعديلات جديدة إلى تكتيكاتها لجمع البيانات ومعالجتها. فحاليا، يتراجع الاعتماد على استطلاعات الرأي التقليدية لصالح استخدام النمذجة التنبئية القائمة على الذكاء الاصطناعي؛ حيث إن المجموعات الضخمة لتبادل البيانات -التي كانت في السابق تثير الشكوك حول قانونيتها- تسمح للحملات ولجان العمل السياسي والمجموعات الأخرى بتنسيق جهودها.
وفي هذا السياق، لا يمكننا أن نغفل الاستهداف الدقيق؛ إذ تسعى كلّ من الحملتين الانتخابيتين إلى تسليح نفسهما بمعلومات شاملة حول كل ناخب محتمل، وتستخدم الخوارزميات لتقسيم الناخبين إلى شرائح واستهدافهم بشكل أكثر تحديدا وبصورة مدروسة أكثر من الناحية الإستراتيجية. نقدِّم إليكم دليلنا للأساليب الجديدة والمحسَّنة وتأثيراتها على الناس بصفتهم ناخبين.
وفرة في بيانات الناخبين
على مدى السنوات القليلة الماضية، واظبت الحملات الانتخابية على إضافة المزيد إلى الكم الهائل من المعلومات الشخصية التي تحتفظ بها حول الناخبين.
ويحدث ذلك جزئيا كنتيجة لممارسة تسمى إعلانات الاكتساب؛ وفيها تقوم الحملات بإطلاق إعلانات استجابة مباشرة تسعى إما إلى الحصول على معلومات الاتصال لشخص ما وإما على آرائه بشكل مباشر. وفي شهر مايو، كانت كلّ من الحملتين الرئاسيتين تنفق ما يزيد عن 80 في المئة من ميزانيتها الإعلانية على إعلانات الاستجابة المباشرة.
رغم أن مسؤولي الحملات لا يحبِّذون الحديث عن الحجم الدقيق للبيانات التي يحتفظون بها، ولكن يُرجَّح أن معظم ملفات الناخبين تحتوي على ما يتراوح بين 500 و2.500 نقطة بيانات لكل شخص. (ملف الناخب هو مجموعة بيانات متكاملة تدمج معلومات تسجيل الناخبين على مستوى الولاية).
ويؤدي كل إعلان ومكالمة هاتفية وبريد إلكتروني ونقرة إلى زيادة هذا الرقم. ومنذ أن تم إطلاق المجموعة الديمقراطية لتبادل البيانات المسماة اختصارا دي.دي.إكس في يونيو، جمعت أكثر من مليار نقطة بيانات، معظمها عبارة عن معلومات اتصال وفقا للمجموعة.
على عكس ما قد يعتقده المرء، فإن العديد من هذه التفاصيل الشخصية تأتي من أشخاص اتخذوا قراراتهم بالفعل بشأن المرشحين. وعلى سبيل المثال، يتيح تطبيق حملة ترامب الاقتران التلقائي عبر البلوتوث، الذي يمكن أن يساعد في تحديد موقع المستخدم، وهو أمر أثار الدعوات للتحقيق فيه (في الماضي، تم العثور على أجهزة تتبع بلوتوث في لافتات حملة ترامب).
ورغم أن هذا النوع من المراقبة لا يمثل القاعدة العامة، لكن يمكن تفهم الغاية منه؛ إذ من المرجح أن يكون الأشخاص الذين يحمِّلون تطبيق المرشَّح يدعمون بالفعل هذا المرشح، كما أن الناخبين المتحمسين لصالح أحد المرشحين هم الأكثر احتمالا للتبرع.
وتسمح مجموعات تبادل البيانات للحملات ولجان العمل السياسي بمشاركة البيانات، ما يزيد من فعالية وشمولية التواصل مع الناخبين وإرسال الرسائل إليهم. لقد استخدم الجمهوريون داتا ترست منذ عام 2013، وهو متجر متكامل يتضمن بيانات الناخبين وخدمات تبادلها واستضافتها. شعر الديمقراطيون في البداية أن ذلك يمثل انتهاكا لقواعد لجنة الانتخابات الفيدرالية التي تمنع التعاون بين أنواع مختلفة من المنظمات السياسية، مثل لجان العمل السياسي والمنظمات غير الربحية والحملات نفسها؛ لذا رفع الصندوق القانوني للديمقراطية الأميركية، وهو مجموعة تابعة للحزب الديمقراطي، دعوى قضائية ضد داتا ترست وخسرها.. لذلك من الطبيعي أن يلجأ الديمقراطيون بعد ذلك إلى بناء نسختهم الخاصة لمجموعة تبادل البيانات. وكانت هذه النسخة هي المجموعة الديمقراطية لتبادل البيانات التي تم إطلاقها في يونيو.
تتيح مجموعات تبادل البيانات لجميع المنظمات المتوافقة إمكانية مشاركة البيانات. ووفقا لعرض توضيحي تم تقديمه لصحيفة نيويورك تايمز، تستطيع المجموعة الديمقراطية لتبادل البيانات إنتاج لوحة تحكم تعرض مدى ارتياح كل ناخب للتصويت عن طريق البريد، ويتم مشاركة هذه المعلومة بين جميع المجموعات الليبرالية في مجموعة التبادل. في السنوات السابقة، كانت المجموعات المحلية لفحص الأصوات، والجهات الحكومية، ولجان العمل السياسي المهتمة بقضايا معينة تنفق جميعها الأموال بالتوازي لجمع هذا النوع من المعلومات.
أما في الحزب الجمهوري، فقد أثبتت داتا ترست جدارتها عدة مرات. وعلى سبيل المثال، جمعت داتا ترست معلومات عن الناخبين الذين أدلوا بأصواتهم في وقت مبكر خلال انتخابات التجديد النصفي لعام 2018. ثم توقفت الحملات عن التواصل مع هؤلاء الأشخاص، ما سمح بتوفير 100 مليون دولار.
الاستهداف الدقيق ذو المستوى المتقدم
في روما القديمة، تم تدريب العبيد على حفظ أسماء الناخبين الذين قد يكونون مقتنعين بالتصويت لسيدهم، حتى يتمكن السيد من العثور عليهم وتحيتهم شخصيا. أما في يومنا هذا، فإن الإستراتيجية الكامنة وراء الاستهداف الشخصي تعتمد على النماذج الحاسوبية التي يمكنها تقسيم الناخبين إلى مجموعات محددة للغاية؛ فقد تم صقل المراسلة باستخدام الاختبارات المكثفة لتجريب الخيارات المتاحة.
تختلف المنصات الاجتماعية في نوع الاستهداف الدقيق الذي تسمح به؛ حيث تتيح فيسبوك للحملات استهداف مجموعات صغيرة وأفراد. ويمكن للحملات -من خلال ميزة “الجمهور المخصص”، رفع جدول بيانات بالملفات الشخصية للمستخدمين ونشر رسالتها بدقة فائقة. يمكنهم أيضا الاستفادة من أداة تسمى “الشبيه”، تستخدم الأداة تلك القوائم المخصصة للعثور على الملفات الشخصية للناخبين الذين يُحتمل أن يستجيبوا بطرق مماثلة.
كانت كلّ من الحملتين الرئاسيتين تقوم بذلك، ويقوم مشروع من جامعة نيويورك بتتبع هذه الأنواع من الإعلانات. وعلى سبيل المثال، يُظهر المشروع أنه في الفترة من 30 يوليو إلى 4 أغسطس، ظهر إعلان يغصّ برسالة “تعافينا سيكون صناعة أميركية” في شريط المنشورات لحوالي 2.500 مستخدم على فيسبوك من سكان ويسكونسن. لقد تم اختيار هؤلاء المستخدمين على وجه التحديد من خلال اسم الملف الشخصي من قائمة رفعتها حملة بايدن على الإنترنت. يكاد يكون من المستحيل تتبع مصدر هذه القائمة الصغيرة من الأسماء، على الرغم من أنه تم شراؤها على الأرجح من جهة خارجية.
في حين تمتلك المنصات الأخرى سياسات أكثر تقييدا بهذا الشأن؛ إذ حظرت غوغل الاستهداف السياسي الدقيق في وقت مبكر من هذا العام، بينما حظرت تويتر الإعلانات السياسية للحملات على الرغم من أنها تسمح بالإعلانات الصادرة عن مجموعات المناصرة السياسية.
الذكاء الاصطناعي يشكل الرأي العام
ربما سمعت العبارة التالية: استطلاعات الرأي لم تعد ناجحة كما كانت في السابق. لقد أثارت الانتخابات الرئاسية لعام 2016 أزمة في صناعة الانتخابات تمحورت حول ظهور “تحيز عدم الاستجابة”، وهي طريقة منمَّقة للقول إن مستخدمي الهواتف المحمولة يميلون إلى عدم الرد على مكالمات من أرقام لا يعرفونها (مثل منظمي استطلاعات الرأي)، وأن الناس قد تزايد تظاهرهم بالخجل عند سؤالهم عن آرائهم السياسية.
استجابة لذلك، تتجه الحملات إلى الاعتماد على التعلم الآلي والذكاء الاصطناعي للتنبؤ بسلوك الناخبين. وبدلا من الاعتماد على القياس المتقطع لتوجهات الجماهير، يتم الآن تشغيل النماذج باستخدام مجموعات بيانات يتم تحديثها بشكل دائم. ويُطلق على الأسلوب الأكثر شيوعا الذي تستخدمه الحملات اسم تسجيل النقاط؛ حيث يتم تخصيص رقم من 1 إلى 100 لمجموعة من الناخبين بناء على مدى احتمالية قيامهم بشيء ما أو اعتناقهم لرأي معين. وتستخدم الحملات هذه الاحتمالات لتوجيه إستراتيجياتها، إما عن طريق محاولة إقناع الناخبين الذين لم يحسموا أمرهم بعد وإما من خلال الاستفادة من أصحاب الآراء الراسخة من أجل جمع المال أو حشد الجماهير.
بيد أن النماذج ليست مثالية؛ ففي عام 2016، توقعت النماذج فوز كلينتون بهامش خطأ مشابه لما تم افتراضه في استطلاعات الرأي. لكن النماذج تواجه صعوبة أقل في التغلب على بعض مشاكل استطلاع الرأي. وكلما زادت البيانات التي تغذِّي النماذج، كانت أكثر دقة.
مع تلاشي أهمية الرسائل الجماعية، يصبح من الصعب مراقبة الكم الهائل من الرسائل المخصَّصة التي تبثها الجماعات السياسية وتضعها أمام الناخبين. ويؤدي الاعتماد على الرسائل ذات الطابع الشخصي إلى تباين وجهة نظر كل شخص حول الحملة؛ لأن كلا منهم يتلقى تدفقا مختلفا من المعلومات. أصبح تنميق الخطاب وتشويه الحقائق والكذب الصريح أسهل بكثير، ولاسيما بالنسبة للشخصيات العامة التي غالبا ما تحظى منشوراتها على المنصات الاجتماعية بمعاملة خاصة. وتؤدي التقنيات التي يتم توظيفها بحماس في الوقت الحالي إلى بناء واقع يمكن للحملات أن تصنع فيه انشقاقات بين الجمهور، ما يقود إلى تغيير جذري في كيفية تشكيلنا لآرائنا وبالتالي، تغيير الجهة التي قد نصوِّت لصالحها.
لم نخسر بعد في مواجهة هذا الأمر؛ فعلى الرغم من أن الدورة الانتخابية لعام 2020 قد بلغت مراحلها النهائية، إلا أن هناك تصاعدا في الضغط الشعبي لإعادة توجيه هذه التقنيات. وفي دراسة نُشرت حديثا، أظهر مركز بيو للأبحاث أن 54 في المئة من الجمهور الأميركي لا يعتقدون أنه ينبغي على منصات التواصل الاجتماعي أن تسمح بأي إعلانات سياسية، بينما يعتقد 77 في المئة من الأميركيين أنه لا ينبغي استخدام البيانات التي تم جمعها على المنصات الاجتماعية لأغراض الاستهداف السياسي.
وهناك العديد من مشاريع القوانين في الكونغرس تعكس هذا الشعور، مثل مشروع القانون المدعوم من الحزبين المسمى قانون تصميم ضمانات المساءلة للمساعدة في توسيع نطاق الرقابة والتنظيم على البيانات ومشروع قانون حظر الإعلانات السياسية ذات الاستهداف الدقيق. ومن المقرر مناقشة مشاريع القوانين هذه في عام 2021، ويعتقد الخبراء أنه من المرجح الوصول إلى شكل من أشكال التنظيم، بغض النظر عمن سيفوز بالبيت الأبيض.