أشاد وزير الداخلية أول أمس بالبرلمان بما وصفه العمل السياسي والنقابي والمدني النبيل الذي قامت به الأحزاب السياسية والجماعات الترابية والنقابات المهنية وجمعيات المجتمع المدني طيلة فترة جائحة “كوفيد – 19″، مبرزا أن هذه الهيئات حرصت على ممارسة دورها الدستوري في تأطير المواطنين، بالرغم من خصوصية المرحلة وصعوبتها، ولم يخف اعتزازه بذلك، كما أعلن أن وزارته عازمة على مواكبة مجالس الجماعات والمقاطعات في مسار العودة التدريجية لمرحلة ما بعد رفع العزلة الصحية.
إن الكلام الذي صرح به وزير الداخلية يعتبر على كل حال إيجابيا، وجاء للإقرار بواقع حال اشتكى منه فاعلون عديدون، وسجله كثير مراقبين للأوضاع في بلادنا، ولكن المهم، هو أن يكون مدخلا لمقاربة أكبر وأعمق، ومختلفة عن السابق، ويبدأ تفعيلها ضمن الوعي والإدراك لدروس هذه الأزمة وتداعياتها.
إن أدوار الأحزاب ليست في القيام بأعمال إحسانية إنسانية، ولكنها أساسا هي التأطير السياسي للمواطنات والمواطنين، والتعبير عن تطلعاتهم ومطالبهم، وهي تقديم المقترحات والبدائل المرتبطة بالسياسات العمومية وتدبير الشأن العام وكل قضايا البلاد والعباد، ولهذا فالدولة عليها أن تنصت للقوى السياسية وتتفاعل مع آرائها ومواقفها وانتقاداتها، وأن تشركها في التفكير والتخطيط لبناء المستقبل، وأن تقوم، عبر ذلك، بتفعيل حوار سياسي عمومي تعددي ومنفتح لتمتين توافقات المجتمع بشأن مرحلة ما بعد الجائحة، أي الانكباب على صياغة تعاقد سياسي جديد.
ولا بأس أن تعطي المثال الآن من خلال نقاش عمومي، بما في ذلك عبر وسائل الإعلام العمومية، حول ما تقدمت به الأحزاب من مذكرات واقتراحات لما بعد مرحلة الجائحة، وحول النموذج التنموي الجديد…
ومن خلال هذا، ستكون بلادنا فعلا قد ثمنت دور الأحزاب السياسية الجادة، وأبدت الاعتبار اللازم للفعل السياسي، وأنصتت لتعبيرات المجتمع ونبضه.
تنبني محورية المطالبة بتعاقد سياسي جديد في هذه المرحلة، على كونه هو أساس باقي التعاقدات، وخصوصا الميثاق الاجتماعي، الذي من شأنه تأمين الاستقرار والسلم الاجتماعيين والسعي لتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لشعبنا، كما أن تثمين دور الأحزاب والمؤسسات المنتخبة والتمثيلية ينجم عنه إضفاء المصداقية على ممارسة السياسة، وتمتين ثقة شعبنا وشبابنا في بلدهم وفِي المستقبل، وتقوية مقتضيات دولة المؤسسات، وينطلق ذلك، أيضا، من كون الإصلاحات السياسية وتقوية دور المؤسسات واحترام أحكام الدستور والالتزامات الديمقراطية للبلاد، تمثل المدخل الجوهري لإنجاح باقي الأوراش الإصلاحية في الاقتصاد والمجتمع والثقافة وغيرها.
إن تطوير حقلنا السياسي والمؤسساتي، وتأهيل كامل منظومتنا التدبيرية والعمومية، لا يكون فقط بالكلام الجميل وحسن النوايا، وإنما من خلال الفعل الملموس، أي عبر الشروع في التأسيس لمرحلة جديدة من الآن، واعتبار أزمة “كوفيد – 19” بداية التعاطي بأسلوب مختلف يقوم على الوعي بحاجتنا إلى مراجعات أساسية وإصلاحات كبرى في كل المجالات، وأساسا إلى اتفاقات جديدة تبنى على الجدية والمصداقية وبعد النظر، وأيضا على التفكير في مستقبل البلاد وتحولات محيطها ومصلحة شعبنا.
ولكل هذا، يبقى المطلوب أكبر من تصريحات إيجابية لوزير الداخلية أمام البرلمان، ويجب أن يتحول ذلك الكلام إلى بداية إعمال مقاربة أخرى مختلفة، تعيد الاعتبار للفعل السياسي الجاد وتبنى على المصداقية وعلى بلورة تعاقد سياسي جديد يكون أساس ميثاق اجتماعي وانطلاقة اقتصادية وتنموية لمصلحة وطننا.
< محتات الرقاص