مسرحية “ميزان الميلودي” المحن والمكر والخديخة وعدالة الأرض‎

كان لعشاق أبي الفنون موعدا مع مسرحية  “ميزان الميلودي ” التي دارت فصولها مساء الاثنين على ركح مسرح محمد عفيفي بالجديدة أمام جمهور غفير ومن مختلف الأعمار .

وهكذا عاش الجمهور الجديدي لحظات عشق روحي لفصول مسرحية شيقة فاقت مدتها الزمنية 60 دقيقة، مع نص جميل لغة ومضمونا لصاحبه الكاتب المسرحي المسكيني الصغير، والذي أعده وأخرجه المبدع المسرحي مصطفى بوعسرية.

وتمتع من حج لمشاهدة عرض من الزمن الجميل، كتب بلغة بليغة وجميلة، تميزت بغيوانيتها، لغة المجاذيب، أرخت بظلالها على فضاء مسرح عفيفي، حيث ساد الصمت، وشدت إليها المسكونين بهوس الفن الهادف الرسالي، بديكور بسيط وموسيقى رجعت بالمتلقي إلى ستينات القرن الماضي، عبر الأثير وصوت المذياع وأغنية الصباح، و”عربة” “كروسة” رسمت حياة الميلودي، المنبوذ من الدوار والمهدد من طرف “أصحاب الوقت”.. هذه العربة التي شكلت مسكنه ومأواه ومصدر عيشه، الميلودي ينفلق من ظلام عربته، “كروسته” ليستحضر ماضيه البئيس ويحاكم أهله، وينطلق في توصيف معاناته، هو اليتيم المنبوذ الذي قهره ظلم أقاربه من متسلطي الدوار، لم يتمتع بطفولته، كل ما كان يملك عشقه لأرض سلبت منه بشهادة الزور حتى من أقرب الناس إليه، كشخصية  “قدور” الذي أرغم على المشاركة في جريمة سلبته حقه، وكم هو قاس غدر الأصدقاء، وتسلط المتجبرين.

وهكذا يبحر بنا النص في عالم موسوم بالخديعة والمكر، كل شيء فيه مزور، وخادع، بدءا من زعيم القبيلة وشيخها وانتهاء بكل الصامتين على الظلم. المظاهر بالدوار لا تخبر بحقيقة الأشياء، حتى الذين زاروا مكة ورجموا الشيطان، لم يفعلوا ذلك إلا نفاقا، بل الشيطان هو من رجمهم، عادوا من أرض المقدس والطهارة بمدنس خبيث أجهز على حقوق الٱخرين. 

صار الميلودي يكشف عن القناع، ويعري الواقع ويسخر منه، كما يفضح “تجار السياسة” البؤساء بائعي الوهم للمستضعفين الذين يصدقون ترهات بعض السياسيين المزيفين، الذين يطلقون الوعود ويرسمون المستقبل الزاهر، فلا ينتج إلا السراب والخراب، ويبقى بعدهم الواقع، والدوار على حاله، لم يتغير فيه لا الزمان ولا المكان ولا الإنسان، كل ما نجد تسلق المزيفين واغتناؤهم من سرقة المال العام. 

ونجحت شخصية الميلودي في إبراز عنف النساء اللفظي والرمزي على أزواجهم، الميلودي لا يهدأ له بال، يحرق سفنه، ويتشبث بحقه في استرجاع أرضه المغصوبة.

 وعبر سيرورة النص المسرحي يسافر الميلودي بالمتلقي في عالم عشقه وبوحه، من خلال حبه لعشيقته التي ما زال ينتظرها لتنجب له عشرات الأولاد يتقوى بهم لإزالة الظلم عنه، والانتصار على واقع جعل منه “محتقرا” في نظر أهل الدوار، هو نظام “السخرة” لأنه كان مطية كل المتجبرين يلبي حاجاتهم، وفي شقائه لذة لا توصف باطلاعه على أسرارهم وفضائحهم التي يطلبون منه كثمانها. 

وكان الميلودي شريفا في حبه، عفيفا، يحترم معشوقته، ينهمر بالبكاء عند قبر والده، ويستحضر وصاياه، لم ينس أمه وحبها له، ويتشبث بحقه في الوجود، ينكر على السلطة منعها له من امتلاك قوته اليومي بعربة مهترئة، وبضاعة مزجاة، ودريهمات قليلة لا تسد رمقه.

هذه المعاناة والمحن دفعت الميلودي لتناول سم “السبسي” لينسى همومه ومعاناته. فيبدأ الرجل في نطق حكم بليغة، ويغازل طيرا سجينا بقفص، فيرق قلبه، ويرسله حرا في سماء الكون كي يشدو ويغني لحن الحرية،  ينتفض ضد ظالميه، ويقيم لهم محاكمة رمزية من خلال “ميزان” العدالة، من أجل استرجاع الحقوق.

هي أدوار شخصها وأبدع فيها مصطفى فينش ممثلا وإنسانا، وشد إليه جمهورا من جيل الستينات، وأعاد لهم الأمل في رؤية نص كتب لأداء وظيفة المسرح الرائد. كما أن النص الذي أعده وأخرجه مصطفى بوعسرية، أتعبه، لأنه حوله من نص فرجوي إلى نص درامي بمأساة، استخدم فيه بياضات كثيرة، كانت تنطق كلمات، وتكشف أسرارا، خصوصا أن نص المسكيني الصغير يتميز باختيار خط ثالث في مجال المسرح، إنه تاريخ ممتد في الزمان والإبداع الذي أسس لتصور مبني على الحركة والفعل الدينامي.

يعد المسكيني الصغير من رواد المسرح المغربي، له إنتاجات في الشعر منها ديوان “مات خطأ”، وأدب الطفل “ست مسرحيات للطفل” 1992، والأعمال التلفزيونية منها “أرض الجموع” و”المطمورة”. لكن هذا الكاتب عرف أكثر في مجال المسرح بكتاباته بالعربية والدارجة، من بينها “سرحان” “، و”رجل اسمه الحـلاج”، و”عودة عمر الخيام إلى المدينة المنسية”، و”رحلة السيد عيشور”، و”الرمود”، و”منطق السقائين”.

 حضر المسكيني الصغير لمسرح عفيفي وإلى جانبه مدير المسرح الفنان هشام  بهلول، وبهدوء ألقى الكاتب المسرحي ابتسامته المعهودة تحت تصفيقات الجمهور، في أمسية احتفت  بإبداعه، وكتاباته المتميزة التي ترتكز على ثلاثة مرتكزات: الحدث الدرامي، والزمان، والمكان. بلغة التناص أو التفاعل النصي، لغة لها حمولة تلتزم بمعالجة قضايا الإنسان المغربي من خلال حدث درامي له علاقة بالموروث الثقافي.

 ما أثت فضاء العرض اختيار موسيقى رائعة، ودندنات للفنان جمال بودويل، وصوت لقدور من وراء الكواليس وحضور عشيقة الميلودي، وحواره مع أمه التي اخترق صوتها من العالم الخفي فضاء الركح، والملابس التي اختيرت بعناية من طرف الفنانة أمينة لمعيزي، ومحافظة الفنان اعبادة… فريق عمل متجانس جعل من العمل الفني متعة ورسم صورة ألقت بظلالها على مسرح عفيفي لتحيي بعضا من ماضيه المتألق والشامخ.

متابعة: عبد الله مرجان .

Top