تخييل التاريخ في رواية “رنيم”

1 ـ إضاءة أولى:

  أضحى موضوع “الرواية وتخييل التاريخ”  من أهم الموضوعات الرائجة في الدراسات الأدبية الحديثة، الساعية إلى تعميق دوائر  النقاش من خلال تفكيك صلات الترابط بين المعطى التاريخي والخطاب الروائي، محاولة منها لتقديم صيغ نظرية ومعرفية تمكن من فهم طبيعة التعالق، وطرائق ومقاصد الاتصال بين معطيين متباينين على مستوى المرجعيات وآليات الاشتغال والمقاصد أيضا. ولا يعني هذا الانشغال، حداثة تلك العلاقة بين التاريخ والخطاب الروائي، بل هي علاقة ممتدة في الزمان وتشمل العديد من الأجناس الأخرى كالمسرح؛ والسينما؛ والشعر.. وتضم الذخيرة العربية العديد من النماذج، منها على سبيل الذكر: روايات جرجي زيدان؛ وفرح أنطون؛ ويعقوب صروف؛ وعلي الجارم؛ ونجيب محفوظ؛ الذي دشن مساره الإبداعي باستلهام التاريخ الفرعوني والمصري خاصة في الروايات التالية: “كفاح طيبة”؛ “رادوبيس”؛ و”عبث الأقدار”.. 

تدفعنا الملاحظات السابقة إلى التسليم بالحوارية الكائنة بين مدونة التاريخ والخطاب الروائي. بيد أن إعادة التفكير في شرعية تلك العلاقة، ومحاولة تحديد خصائصها ومقاصدها وأجرأة آليات اشتغالها، ضرورة أملتها التحولات الفنية والأسلوبية للخطاب الروائي، وفرضتها التصورات الفكرية والفلسفية حول العديد من المفاهيم، منها مفهوم “التاريخ” نفسه؛ ومفهوم  “الواقع”؛ و”الحقيقة”؛ و”الذات”..

في ضوء المقدمات السابقة، يمكننا إعادة طرح إشكالبة العلاقة بين “التاريخ” و”الخطاب الروائي”، من خلال المفترضات التالية:

1- التاريخ عبارة عن قصة أحداث مكتملة في الزمان والمكان، قد تتطابق أحداثه مع الواقع، أو تحمل أثره على الأقل. 

2-   استحالة التحقق من صدق الأحداث أو مطابقتها للواقع، لاعتبارات عدة منها: البون الزمني الفاصل بيننا وبين  تلك الأحداث، و نظرا لانتفاء شرط الحياد، لأن المؤرخ يعمد إلى الانتقاء والتأويل في توثيق المادة التاريخية، لهذا نعتقد جازمين تأويل التأريخ هو تضييع للحقيقة.  

  2- كيف يمكن التوليف بين المعطى التاريخي  الذي يقوم على أساس مرجعيات واقعية وكائنة، والخطاب الروائي القائم على التخييل والانتهاك والاحتمال؟

3 ـ لماذا نعتبر بعض الروايات هي تخييل للتاريخ ونقصي أخرى؟

4- هل يمكن اعتبار التاريخ الرسمي المصدر الوحيد للتخييل الروائي؟

هكذا تطرح أمامنا جملة قضايا وإشكالات تستدعي منا تعميقا نظريا، ومقاربة شمولية للعديد من النصوص الروائية، وهو الأمر الذي لا ندعيه في هذا المنجز النظري والتحليلي، الذي خصصناه لمقاربة رواية ” رنيم”  للروائية الجزائرية “ليلي بيران”(1) التي توسمنا في تحليلها الإجابة عن بعض الإشكالات السابقة. 

2 ـ قراءة في المنجزات الروائية:

تنسج رواية “رنيم” عوالمها السردية والتخييلية من خلال التنويع في المرجعيات وتوظيف نوعين من الخطابات: 

 أ – استحضار الوقائع والتواريخ والأحداث وذلك بالعودة إلى السجلات والمدونات الواردة في المصادر الرسمية.

ب –  استلهام خطاب الذاكرة واستحضار محكيات التاريخ الشفوي لأبي القاسم، قائد إحدى كتائب الثورة الشعبية الجزائرية، الذي استندت المصادر الرسمية رواياته وشهاداته، خاصة عندما كلفت الدولة “يوسف الخطيب” بتجميع تاريخ الثورة الجزائرية، تقول الساردة: “كان أبو القاسم يعيش ذكرياته التي توازي المآسي وهو يقصها لأبنائه، وفي ما بعد، للمجموعة التي كلفتها الدولة الجزائرية بكتابة التاريخ برئاسة يوسف الخطيب” (رنيم ص 103).  وأحيانا تلجأ الرواية إلى تضمين المحكيات المسترجعة على لسان الأم “عائشة” أو الجدة ” مريم” أو “ماني” كما تسمى في الجزائر.

الملاحظ إذن، أن حضور التاريخ لم يتم إلا من خلال ذات  الساردة   التي ظلت حاضرة بقوة في توجيه المسارات السردية وإدماج بنيات التاريخ، وهو ما يدفعنا إلى التمييز بين ذاكرتين: 

– ذاكرة أبو القاسم الذي عاش تجربة الاستعمار، وكانت  المقاومة خياره الوحيد دفاعا عن كرامة الوطن.

– ذاكرة الساردة التي ملأ رنيم الماضي كيانها وذاتها، فكان التوثيق خيارها لتخليد أمجاد الثورة الشعبية وتسجيل معاناة الأسر الجزائرية.

بناء على ذلك، نقول إن الساردة اعتمدت  تقنية التعليبemboitement أي وجود ذاكرة داخل الذاكرة، تشابك يفرض علينا قراءة الوقائع التاريخية المبثوثة بين المحكيات السردية، ثم استحضارها  من زاوية إبداعية، لأن خطاب الذاكرة غالبا ما يخضع لدينامية التحوير والتعديل والحذف خلال سيرورات التخزين  أو الاسترجاع، وبالتالي لا يمكن إثبات المطابقة بين صور الذكريات المسترجعة وصورتها الأولى،  تصور يمكن دعمه بالمفترضين التاليين:

1-  وجود فاصل زمني طويل بين تاريخ الثورة الجزائرية وزمن استرجاع أبي القاسم لأحداثها وتفاصيلها.

2-  وجود فواصل زمنية ومكانية بين استرجاعات أبي القاسم، واسترجاعات الساردة: “لقد سافرت إلى هناك لتكتب عن هنا، عن الجزائر، من هناك بدأ كل شيء، ومن هناك دلف كل بؤس وكل ما سيتم ذكره” (رنيم ص3).

الحاصل إذن، تقاطع مدونة التاريخ الرسمي والشفوي عند ذات الساردة التي حولت الكائن إلى ممكن،  وأنتجت تاريخا من الدرجة الثانية، لا يستمد هويته من السياق الواقعي بل  يصبح خاضعا للسياقات النصية والتخييلية داخل الكون السردي. ونحن بهذا الفهم الأولي، نختلف مع الكثير من الدراسات التي عالجت العلاقة بين التاريخ والخطاب الروائي من زاوية “التناص”. لكننا نغير زاوية النظر لنعالجها من منظور البلاغة النوعية للسرد، إذ نقارب محكيات التاريخ باعتبارها محكيات انشطارية تخضع  للهوية السردية، وتتحدد وظائفها حسب طبيعة تعالقها مع باقي محكيات النص.

   بالعودة إلى رواية “رنيم”، نجد كل محكيات التاريخ تم استرجاعها من خلال وجود محفزات تثير الذاكرة وتهيج ذخيرتها،  نقترح تسميتها “آثار التذكر”، وهي متنوعة داخل الرواية، وكانت محفزة لذاكرة الساردة على ربط الماضي بالحاضر؛ والتاريخ بالمستقبل، ومن المقاطع الدالة على الترابط الكائن بين آثار التذكر وصور الذكريات التاريخية نصوغ الأمثلة التالية: 

– زيارة صديقة الساردة لطبيب الأسنان، حفز الذاكرة على استرجاع مخزونها التاريخي من  محكيات التاريخ  التي قدمها والدها عند طبيب الأسنان، ذكريات مرتبطة بأحداث 6 ماي 1958 عندما هاجم الثوار ثكنة الولي الصالح عبد الولي (رنيم ص 60 62).

– تحول حشود الجماهير الرياضية المشجعة لفريقها الفرنسي إلى مرآة عاكسة لذكرىات جيش التحرير الذي نظم مباراة “الضاية” لفائدة فريق المولودية التابع لكتيبة “الحمدانية”، حدث دفع بالجيش إلى تأسيس فريق جديد هو فريق “اليوسفية”.(ص66 ـ ص70).

– زيارة الساردة ووالدها لمنطقة “رويسو”، جعلته يسترجع إحدى المعارك الضارية ضد الجيش الفرنسي بنفس المنطقة، وقد استغلت الساردة الفرصة لتقديم بعض الوقائع التاريخية الرسمية كتلك المرتبطة بالتقسيم السياسي للمنطقة ما بعد سنة 1974 وبالضبط عهد الرئيس الشادلي بنجديد (ص 71).

– حديث الساردة وصديقتها حول السينما، وحول فيلم “الحريق” والبطل “عمر”، حينها “طال تفكير الابنة بعمر الآخر، رنيم مختلف من الترانيم التي تتبعها” (ص75). 

يتضح جليا، أن تاريخ المقاومة ظل حاضرا بقوة على امتداد المساحة السردية للنص، لأن الساردة بين ظلال الماضي وأحداثه التاريخية، لذلك نجد امتدادا دلاليا ملحوظا للعنوان داخل العديد من المقاطع السردية. حيث لازم رنين الماضي المتمثل في صوت محكيات أبي القاسم  تتردد أصداؤها،  تردد حول أبو القاسم  إلى شخصية رمزية تختزل تاريخ الثورة الجزائرية، بل تختزل  مأساة شعب بأكمله انخرط طواعية، في المقاومة، فلا فرق بين أسرة أبي القاسم والأسرة التي كانت تدعم المقاومة والتي كانت مستعدة للتضحية بطفلتها الصغيرة  التي كلفها مجلس الثوار بتفجير المقهى الفرنسي:

“اسمعي، نحن نقوم بتحضير قنبلة لوضعها بالمقهى الموجود بوسط المدينة.. بينما يبدو على أحمد علامات الرفض، يستمر صامتا.. نحن سننام قليلا كي نغادر باكرا، يوم عودتنا نسلمك القنبلة، هل ستكونين جاهزة؟

تهز رأسها بكل ثقة وعزم:

ـ إن شاء الله سأكون مثلما عهدتموني”(ص203).

  يبدو من خلال قراءة المنجز الروائي، اجتهاد الساردة في استحضار التاريخ، وتحولت داخل النص إلى خبيرة حربية تقدم المعلومات اللازمة حول نوع الأسلحة وترسم استراتيجيات الهجوم والهروب، منتصرة بذلك الثورة الشعبية التي بعود إليها فضل الحرية والاستقلال، وإن كان التاريخ الرسمي مجحفا في حقها، لذلك استهدفت الرواية إعادة تخييل مرحلة مظلمة من تاريخ الجزائر عبر استعارة مدونة التاريخ الرسمي والشفوي، مستهدفة ترميم مجمل الثغرات والبياضات التي أغفلتها الروايات الرسمية لرد الاعتبار للمقاومة الشعبية، وإبراز إسهامها في تحقيق الاستقلال. 

   يمكن اعتبار رواية “رنيم” أيضا،  إدانة للتحولات التي عرفتها المؤسسة السياسية بعد الاستقلال، واختلال المنظومة القيمية والأخلاقية، إذ أضحى التنافس محموما حول المكاسب والمناصب، وأصبحت التصفيات والانقلابات أمرا عاديا إلى حد محاولة تصفية أبي القاسم وإحراق محطة البنزين مصدر رزقه ومحاصرة عائلته ( رنيم ص257). وهو المقاوم الذي فضّل العودة إلى أحضان أسرته على النشاط السياسي، الأمر الذي يدل على إجهاض أحلام الثورة وتحول المجتمع الجزائري إلى العيش على إيقاع استعمار جديد، وكأن الرواية تلغي الزمن وتجعل التاريخ واحدا يشبه فيه الماضي الحاضر. 

    أسلوبيا،  يسجل قارئ الرواية طغيان السرد التاريخي، وهيمنة التقريرية الضاغطة، لكن ما بنقد الرواية، في اعتقادنا،  هو الانزياحات الاستيطيقية التي وشحت معمارية السرد باعتماد التعديدية الحوارية التي جعلت الشخصيات تنخرط في الكلام مباشرة عبر صيغة ضمير المتكلم، حوارات قمينة بالكشف عن

 دواخل الشخصيات ونمط وعيها الاجتماعي والسياسي البسيط مقابل وعيها الوطني الذي تقوى تحت سلطة العنف الاستعماري. أضف إلى ذلك، تطريز السرد بالعديد من المقاطع الشعرية، التي تبدو مستقلة عن السياق الدلالي والتركيبي، لكنها تسهم في بعدها التأويلي والرمزي في التوسيع الدلالي كما هو حال المقطع الشعري الذي يؤكد الارتباط الوجداني للأم بأولادها،  وما تكنه من حب وحنان لأبنائها(ص5).

كما تنفتح الرواية على الذاكرة، مسترجعة مخزونها التاريخي الذي ظل يغذي  المسارات السردية على امتداد النص. فلا غرو إذن، أن الرواية وهي تشيد عوالمها الحكائية والتخييلية ارتهنت إلى تطويع مدونة التاريخ  وتخييل الأحداث الاجتماعية للخروج من مأزق التنافر بين الواقعي والتخييلي. 

3 ـ خلاصات ورهانات:  

ركزت تحليلاتنا السابقة للمنجز الروائي على مقاربة العلاقة الكائنة والممكنة بين الخطاب الروائي ومدونة التاريخ، الذي شكل خلفية استراتيجبة في بناء العوالم الحكائية والسردية، ويمكننا إعادة تلخيص نتائج هذه المغامرة التحليلية على الشكل التالي:

1- شكلت مدونة التاريخ مرجعية لوجيستيكية لتشييد العوالم التخييلية.

2- الرواية جنس أدبي دائم الانفتاح ومستمر التكوين، يمكنه أن يمتح عوالمه التخييلية من التاريخ والواقع والشعر أيضا. 

3-  تخضع استعارة التاريخ إلى سيرورات التحوير والتعديل وهو ما يكسب المحكي التاريخي  هوية جديدة، يحددها السياق الدلالي والسردي.

4-  تفقد أحداث التاريخ خلفيتها الكرونولوجية، ويتم استبدالها بالمسافة الاستيطيقة التي تتأسس من داخل النص لا من خارجه.

5- ضرورة مقاربة مفهوم تخييل التاريخ من زاوية البلاغة النوعية للسرد، بعيدا عن كل تناول أطروحي يهمش الجوانب الفنية والأسلوبية للخطاب الروائي.

هامش:

1 ـ ليلي بيران، رنيم، دار كوكب العلوم للنشر والتوزيع الجزائرية، الطبعة الأولى، 2016.

 بقلم: عبد الفتاح الفاقيد

Related posts

Top