اعتبرت الكاتبة والجامعية لطيفة لبصير، أن الأدب هو أكبر تأمل يمكن أن يحدث في زمن الوباء ، لأنه لا يمتلك اليقين حتما، بل حتى العلم نفسه، لا يمتلك الحقيقة الحاسمة بشأن الجائحة. وقالت في حديث لوكالة المغرب العربي للأنباء، إن الأدب يلتقط الحالة، بل إن كل ما يحدث يضعه في عالم التخييل والارتباك، ولهذه الأسباب جاءت العديد من القصص منفعلة بما تستشعره في لحظات عصيبة يدفعها إلى أن تعيد بناء تاريخها الشخصي بشكل آخر.
وتساءلت في هذا السياق: هل نحن في حاجة إلى مسافة أم لا مما يحدث ؟ وهو سؤال يطرح على الأدب عموما، فهل يعيد الأدب الواقع بتفاصيله كما هو؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما جدوى الأدب؟.
ولتوضيح أكثر ما ذهبت إليه ، استشهدت لبصير بمقاطع من مجموعتها القصصية ” كوفيد الصغير “، موضحة ، على سبيل المثال ، أن شخصية ” مي” في قصة إيماءة، ضمن المجموعة ، هي الفتاة التي تعاني من إعاقة جسدية ونفسية، تستيقظ مثل العنقاء كي تصبح هي المعيلة للأسرة التي تتغير أوضاعها النفسية، وكأن ضعف الآخرين منحها طاقة للحياة ، وهذا يدفع إلى التأمل، ذلك أننا عشنا الكثير من المتناقضات في الحياة اليومية في الوباء.
فالموت ، كما قالت الكاتبة، أصبح مجرد رقم يتم إحصاؤه في كل يوم، لكن الأدب يبني كتابة أخرى ويتأمل في التفاصيل المنسية أيضا والمهملة من الواقع ، بل إنه يمكن أن يأخذ ما أهمله الواقع ليكون محورا أساسيا للتأمل.
واستحضرت في هذا الصدد، البطل في قصة لمن تضحك النوارس؟ موضحة أنه في هذه القصة يحس البطل حين داهم الوباء العالم أنه عاش حياة رتيبة عادية ، كل ذكرياته فيها أنه يتذكر النوارس التي كان يراها تضحك في طفولته، وأنه عدا هذه الطفولة لم يحدث أي شيء في حياته الخاصة ، فيأخذ قرارا بالحصول على تقاعد من العمل ، لأنه لم يحدث أي تغيير في عمله الروتيني ، حياة بأكملها ويبدأ في حياة أخرى أغرب من الأولى.
وبشأن القيمة المضافة لمجموعتها القصصية “كوفيد الصغير”، قالت إن هذه المجموعة تلتقط الكثير من الأجواء التي مرت فيها الجائحة بتوثيق أدبي ، ولذلك كانت تنصت لأنفاس الشخصيات وهي تعيش تجربة الحصار النفسي .. فالكثير من الأحداث التاريخية كان لها الأثر، وهذا الأثر يلتقطه الأدب ويستلهمه ، لذا “أرى أن كوفيد الصغير يدعو إلى التأمل في جدوى الأدب والفلسفة والعلم والانسان بشكل عام، كما أنه يقف عند المرأة العاملة في الحقول ويغوص في أعماقها النفسية التي لا يراها الكثيرون، فشخصياته ليست بخير، لكنها تريد أن تحدث طفرة ما في الحياة وفي العالم”.
وعن تسمية كوفيد بالصغير، والآفاق الإبداعية التي يفتحها هذا العمل في ضوء تحولات الجائحة، أبرزت لطيفة لبصير أن ” كوفيد الصغير” ليس صغيرا كما يتضمنه هذا الاسم، ف “أنا منذ اللحظة الأولى التي كتبت فيها هذه القصة، كنت أشعر بأنه كبير جدا وتداعياته لحد الآن مجهولة الأفق، فلا أتصوره صغيرا أبدا”.
فالأمر يتعلق، تضيف لبصير، بتسمية يراد بها الضد؛ موضحة على سبيل التوضيح ، أنه في أحد القصص، نجد الأبناء رفضوا أن يذهبوا لدفن أمهم التي أصابها الوباء، فعانوا من الذنب الذي بدأ يتجسد في أشكال أخرى من الأصوات التي يسمعونها، في حين انتهت الروابط الأخوية بعد دفن الأم. وفي قصة أخرى تحمل عنوان “كل أشباح العالم”، تشعر البطلة أن العالم أصبح كله تحت ثقل الوباء وثقل الأنترنيت بحيث انتهت كل الروابط الإنسانية وأصبحت المشاعر رقمية، حتى بينها وبين ابنها الذي يعيش عالما رقميا كأنه كائن مسحت بصماته، فلا أثر للحياة الإنسانية.
ومن خلال من هذه الأمثلة وغيرها، تخلص الكاتبة، إلى أن كوفيد الصغير ليس صغيرا أبدا، فهو ربما يجعلنا نعيد النظر في الكثير من الأشياء النائمة بداخلنا والتي ستقتلنا أكثر من الوباء نفسه.
تجدر الإشارة إلى أن لطيفة لبصير، القادمة من شعاب المعرفة الأكاديمية الجامعية، ومن تفاصيل الحياة اليومية للعاصمة الاقتصادية، راكمت ما يكفي من التجربة التي جعلتها كاتبة بكل المقاييس، وهو ما أهلها كي تتعاطى مع مجال الكتابة برؤية متفردة قوامها، البحث عن آفاق مغايرة في التعاطي مع الكلمات والأشياء.
هذه الآفاق المغايرة في الإبداع والبحث العلمي، هي التي أهلت صاحبة كتاب “الجنس الملتبس/ السيرة الذاتية النسائية” الصادر عام 2018، كي يتم اختيارها مؤخرا ضمن برنامج “قصة نجاح”
امرأة قيادية، في إطار توأمة، تجمع بين جامعة الحسن الثاني، كلية الآداب بنمسيك الدار البيضاء وجامعة كينساو الامريكية. وصدر لهذه الكاتبة، التي تجاوز صدى هواجسها الإبداعية وتجربتها البحثية، حدود الوطن، عدة مجموعات قصصية منها ” رغبة فقط ” الصادرة سنة 2003، و” أخاف من..” سنة 2010 ، و”وردة زرقاء ” عام 2018.
كما صدر لها سنة 2021 عن جائزة الملك فيصل ومعهد العالم العربي والمركز الثقافي للكتاب، مؤلف بعنوان “لودفيغ دويتش” الذي يدخل ضمن مشروع “مائة كتاب وكتاب”.
< إعداد: عبد اللطيف الجعفري (و.م.ع)