ما الغوغائية؟

اعتبر جون كين في دراسته (الغوغائية هدم للديمقراطية: دليلك العالمي خطوة خطوة، المركز العربي للأبحاث والدراسات السياسية) أن خيبات الأمل المتكررة للشعوب في مستقبلٍ أفضل، وما يتبعها من مرارة ممزوجة بالحنق، تشكل التربة الخصبة التي يترعرع فيها الديماغوجيون. وتأتي خطاباتهم الشعبوية النارية كـ “السم في الدسم”؛ فهم العدو الأول للديمقراطية بسعيهم الدائم لتحطيم الضوابط التي وضعها الدستور منعا لإساءة استخدام السلطة. ويعد عدم التصدي لهذه الظاهرة إيذانا بعودة الاستبداد في أثوابٍ أخرى؛ ففي الظاهر هناك ديمقراطية، ولكنها وهم وسراب، إذ يكون للمواطن حق في التصويت أو الانتخاب، ولكن لا تغيير يلوح في الأفق، والأغنياء يزدادون ثراء وسطوة، في حين يرزح السواد الأعظم من الشعب تحت نير الفاقة والعجز، وتبقى أيديهم مكبلة تجاه القرارات الكبرى التي تصوغ مجرى حياتهم.

في عالمنا المليء بالاضطرابات، وعند سؤال أي مواطن عن حال الديمقراطية في بلاده، يضيف “جون كين” على أن الملايين يتفقون، على اختلاف مشاربهم، على الإجابة عينها: إنهم يلعنون السياسيين، ويتذمرون من سوء الأداء الحكومي، ويعربون عن مخاوفهم من أن ديمقراطياتهم تهوي بهم إلى مكان سحيق. ويعرِب أولئك من مشارق الأرض ومغاربها عن قلقهم الشديد من عدة قضايا، مثل انعدام المساواة والتباين الاجتماعي والخلل السياسي وصعود الزعماء المتطرفين، ولا تنفك ذاكرتهم تستحضر هول أحداثٍ كتلك اللحظة التي حبس فيها العالم أنفاسه، في يناير2021 في الولايات المتحدة الأميركية، عندما اقتحم متظاهرون مسلحون وغاضبون، بتحريضٍ من رئيس ديماغوجي وزمرته، مبنى الكابيتول (الكونغرس)، في محاولة منهم لإلغاء نتيجة الانتخابات.

1-  ما الفرق بين للديمقراطية والغوغائية؟

يعتبر مفهوم الديمقراطية أحد أبرز المفاهيم المتداولة على الساحة السياسية الدولية والداخلية طيلة الفترة الماضية.. وعلى الرغم من كثرة الاستخدام والتسويق لمصطلح الديمقراطية في الوقت الحالي، إلا أنَ هذا المصطلح ليس بجديد، فقد أجمعت العديد من الدراسات على أنَ أصل مفهوم الديمقراطية يعود بجذوره إلى اللغة اليونانية القديمة، تحديداَ من كلمتين، الأولى وهي ديموس  Demos وتعني الشعب، والثانية قراطس Kratos تعني السلطة أو الحكم؛ وبذلك يكون تعبير الديمقراطية بمعنى الحكم من قبل الشعب Demoskratos أو بحسب التفسير الأنغلوساكسوني هي الحكم الذاتي Self government. بحيث نجد أن التعريف الكلاسيكي للديمقراطية هو أنها “حكم الشعب”، أو “حكم الشعب نفسه بنفسه لنفسه”.

يعود مفهوم الغوغائية إلى العصور القديمة. في أثينا القديمة، كان هناك من يعرفون بـ “الديماغوجيين”، وهم زعماء سياسيون استخدموا الأساليب الخطابية المثيرة للتأثير على المواطنين وتحقيق أهدافهم الشخصية. هذه الظاهرة استمرت عبر التاريخ، حيث استغل القادة السياسيون في مختلف الحضارات مشاعر الجماهير لتحقيق مآربهم. إذا كانت الديمقراطية تعني إعطاء السلطة للشعب فإن الغوغائية تعني قيادة شعب. وبما أن الديمقراطية تستند إلى إعطاء القوة للشعب فالغوغائية بدورها تستغل ذلك كنقطة ضعف، فعندما تكون القوة بيد شعب لا شيء يمنع ذلك الشعب من اختيار شخص ليكون زعيماً له!.

الغوغائية هي طريقة في التفكير ﻻ تقوم على أسس أو معايير محددة. هي تفكير عشوائي انفعالي متذبذب يتخذ فيه الغوغائي من نفسه وحسب مستوى معرفته، والذي غالباً ما يتسم بالسطحية، معياراً لتحليل المواضيع والحوادث والظواهر والحكم عليها من دون أية معايير موضوعية. والملاحظ أن هذه الطريقة من التفكير يتخذها معظم أهل الفاشية (دينية كانت أو عنصرية) أي سواء أدعياء التدين أصحاب اليقين القطعي أو غيرهم ممن يسلم بصحة آرائه بطريقة لا تقبل الجدل والتحليل، وهي استراتيجية لإقناع الآخرين استنادا إلى مخاوفهم وأفكارهم المسبقة.(غوغاء.. وغوغائية!؟، صالح الحارتي، بوابة الشرق الأوسط).

2- ما هو المعنى الحديث للغوغائية؟

اعتبر محمد كمال في مقاله (الغوغائية والثقافة في ميزان التاريخ، الأيام، العدد 12353 الخميس 2 فبراير 2023 الموافق 11 رجب 1444)، أن «الغوغائية» كلمة عربية مشتقة من «غوغاء» وتعني الجراد حين يخف للطيران، الصوت والجلبة، السفلة والرِعاع من الناس لكثرة لغَطهم وصياحهم، والمعنى العملي التطبيقي هو السياسي الذي يتملَق الجماهير لكسب ودهم. والغوغائية بطبيعتها الفوضوية تعد عدوا للديمقراطيّة. والغوغاة أي صوت القوم. ورغم بعض التباين في التعريف اللغوي، إلا أن المعني العملي على أرض الواقع واحد. بالمختصر المفيد، فإن الغوغائية نتاج اجتماعي سيكولوجي ينغرس في ذهنية الجماهير بفعل فاعل سياسي من أجل إخضاع وتوجيه قاعدة اجتماعية واسعة لتحقيق أهداف تخدم الفاعل الذي يريد تحقيق أهداف سياسية في المقام الأول..

رأى المؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون أن الجماهير تحتاج إلى من يقودها ويقدم لها الحماية، كونها “قطيع لا يستطيع الاستغناء عن راعٍ يقوده”، ومن يمتلك المقدرة على تسويق الوهم لها عن قدراته، يُصبح قائدا لها كون الجمهور “غالبًا ما يكون من دون ذاكرة” وينسى ما قدم له من وعود. يتخذ الغوغائيون موقع الزعامة يدافعون عن أفكارهم، وهم مقتنعون بأنهم يمتلكون الحقيقة، ويتحركون خارج سياق القوانين كي يفرضوا آراءهم ومعتقداتهم، بطريقة استبدادية. يظن الغوغائي أنه قادر على إبداء الرأي في كل شيء، ويثق بأن معرفته شاملة، ويستطيع فهم وتحليل الأحداث وتوضيحها، بناء على معرفته التي غالبا ما تكون سطحية وغير موضوعية، بل يجزم الرأي والقرار، بشكل قطعي ونهائي وحاسم، ولا يفسح المجال لأي نقاش أو جدل بذلك.

يرى عبد العزيز آل إسحاق في مقاله الغوغائية السياسية (جريدة الشرق،20 غشت 2024) أن الغوغائية السياسية ظاهرة تتسم بالاستغلال السياسي للعواطف الجماهيرية دون الاعتماد على أساس منطقي أو أدلة واقعية. تستخدم فيها لغة بسيطة وعاطفية تستهدف الحشود بهدف تحريضها أو توجيهها نحو تحقيق مصالح شخصية أو أجندات سياسية معينة.  تعتبر هذه الظاهرة واحدة من أخطر التحديات التي تواجه الأنظمة الديمقراطية، حيث يمكن أن تحول الرأي العام إلى أداة بيد السياسيين الشعبويين.

وفي الختام يمكن القول إن الغوغائية، وكما حددها المؤرخ راينهارد لوثين – Reinhard Luthin الديماجوجية (الغوغائية) على النحو التالي: «ما هو، أو من هو الديماغوجي؟ إنه سياسي ماهر في الخطابة، والتملق، مراوغ في مناقشة القضايا الحيوية، وإعادة كل شيء للجميع، مناشدة للعواطف بدلا من إعطاء أسباب منطقية للجمهور، وإثارة التحيزات العنصرية والدينية والطبقية، رجل يقود شهوته للسلطة دون اللجوء إلى المنطق ساعياً ليصبح سيدا للجماهير. وقد مارس مهنته منذ قرون كرجل الشعب، الديماغوجية هي تقليد سياسي قديم قدم الحضارة الغربية نفسها.

بقلم: المصطفى عبدون

Top