مارتن هايدغر والهيرمينوطيقا في الفن

تناول مارتن هايدغر Martin Heidegger مسألة الفن بناء على تصور معاكس للاتجاه الشكلاني الذي كان ينظر للفن على أنه مجرد صورة معبرة فقط، تكمن في إبراز القيم الفنية والتشكيلية للعمل الفني، هذا أدى إلى حالة من اغترابية للفن حيث أصبح منعزلا عن وجودنا وعالمنا الإنساني ومفتقرا إلى أي دلالة أنطولوجية.

أسس مارتن هايدغر تصورا جديدا للإبداع الفني كتعبير عن حقيقة الوجود، حيث يعرف الفن على أنه ملاحظة إقامة الحقيقة نفسها في الشكل، فهو يرى في “الفن حدثا للحقيقة وانكشافا للوجود وتحررا من اليومي ولبدء آخر يتحقق فيه الحدوث، تظهر في الحقيقة انكشافا واختفاء في الآن ذاته.” (مارتن هايدغر.(1958). التقنية –الحقيقة – الوجود، تر: محمد سبيلا، المركز الثقافي الغربي، دط، بيروت، لبنان، ص8)

الأصل في العمل الفني

كل حديث عن أصل العمل الفني يفترض بالضرورة سؤالا عن: “من أين وبماذا يكون هذا الشيء وما هو وكيف هو هذا الذي يكون عليه الشيء وكيف هو، نسميه جوهره؟”. (مارتن هايدغر.(2003). أصل العمل الفني، تر: ابو العيد دودو، منشورات الجمل، الطبعة الاولى، ألمانيا، ص58) إن الشيء يؤكد على جوهرية الفن الحسية والواقعية؛ إذ “لا تستطيع التجربة الجمالية غض الطرف عن الطابع الشيئي للعمل الفني. فالحجر موجود في العمل الفني المعماري، والخشب موجود في العمل الفني المحفور، واللون موجود في اللوحة المرسومة، والصوت موجود في العمل الفني اللغوي، واللحن موجود في العمل الفني الموسيقي” )هايدغر، 2003، ص62) وبالتالي، فالشيء هو كل ما ليس عدما، على حد قول هايدغر.

من هذا التعين الحسي يمكن تحديد ملامح الإبداع، التي هي في حد ذاتها إضافات الفكر الإنساني على مادة موجودة، ومن هنا يتحقق المفهوم الواقعي للفن؛ حيث يقول هايدغر: “الفن مجرد كلمة لم يعد يطابقها شيء حقيقي. من الممكن أن تعتبر تصورا جامعا، لا نضع فيه إلا ما ينتسب إلى الفن حقيقة؛ أعني الأعمال الفنية والفنانين.”) هايدغر، 2003، صص58-59).

يعرض هايدغر للمفهوم المتداول للحقيقة قائلا:” هذه الكلمة النبيلة، لكن المنهكة من كثرة الاستعمال لدرجة أنها أصبحت فارغة من المعنى، تعني ما يجعل الحقيقي حقيقيا” (هايدغر، 1985، ص11). إن الحقيقة من منظور هايدغر هي كل ما يكشف عن ذاته من تلقاء ذاته.

حاول هايدغر تفسير ماهية الحقيقة بالرجوع إلى فجر الفلسفة، والنظر في أن المعنى الأصلي الذي كان يقصده فلاسفة اليونان المبكرون، كانت تأخذ معنى الأليثيا بمعنى اللا – تحجب الشيء وظهوره. وهي الكشف عن كل ما هو متخفي. “إنه ضروري أن نفكر بالأليثيا اللا – تحجب بوصفها الإضاءة التي تؤمن حضور الوجود والفكر في بعضهما البعض لأجل بعضهما البعض. القلب الهادئ للإضاءة. (مارتن هادغر. 2019. نهاية الفلسفة ومهمة التفكير، تر: وعد علي الرحية، دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر، الطبعة الاولى، سوريا، ص73).

يعتبر مارتن هايدغر أن الأليثيا هي “إظهار الموجودات من تحجبها إلى حالة اللاتحجب، ولا تشير أبداً إلى فعل الصنع. والفنان يسمى [تقنتيس] لا لأنه يكون حِرفيا أو صانعا، ولكن لأنه يكشف ويظهر في وقت واحد أعمالا فنية وأداة”. (هايدغر، 2019، ص87) وكون العمل الفني قد أصبح عملاً فنيا، فذلك “أسلوب تحل فيه الحقيقة وتحدث، وكل هذا يتأسس على طبيعة الحقيقة.” (هايدغر،2019، ص87) حيث يحدث الانفتاح الأساسي للإنارة. “الانفتاح والحجب متجاوران أشد التجاور. وقد يبدو هذا للوهلة الأولى أمرا مستغربا، إن التكشف يحب التحجب.” (مارتن هايدغر. 1977. نداء الحقيقة، ترجمة: عبد الغفار مكاوي، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة، صص389-390).

الهيرمينوطيقا في الفن

تكمن أهمية مارتن هايدغر في الكشف عن ثورة هيرمينوطيقية في تفسيره وفهمه لماهية الفن والأثر الفني وما تبعها من تخليق للغة عبر تحويل المفردات القديمة وشحنها بمضامين جديدة، وهذا يدفعنا لطرح جملة من المشكلات نذكر من بينها: ما معنى هيرمينوطيقا الشيء والأثر الفني عند هايدغر؟ ما مقاصد هيرمينوطيقا الصراع بين العالم والأرض في الوقت الذي يحافظ فيه الأثر الفني على وحدته وعلى حدوث الحقيقة؟ ما علاقة الفن بالحقيقة في ضوء تأسيس الحقيقة لذاتها في الأثر الفني بوصفه شكلا ونموذجا؟

في سياق مناقشة الفن، أثار هايدغر في مقالته “أصل العمل الفني” قضية دور الأثر الفني في الكشف عن الحقيقة، حيث يؤكد “أن الفن في الطبيعة لا يصبح فنا جليا إلا في الأثر لأنه يختبئ أصلا في الأثر”. (هايدغر،2003، ص117) “في الأثر يجري حدوث الحقيقة، وبالضبط حسب كيفية الأثر، تبعا لذلك تم تحديد ماهية الفن كوضع للحقيقة في الأثر… لكن وضع الحقيقة في الأثر يعني في الوقت نفسه جعل كون الأثر ينطلق ويحدث… صيرورة وحدوثا للحقيقة” (هايدغر،2003، ص118).

يقول غادامير في مؤلفه “الفلسفة التأويلية”: “عندما يتعلق الأمر بالفن، فلا معنى من أن نطلب من الفنان ما أراد أن يقوله، وعلى القدر ذاته لا معنى من أن نطلب من متقبل الأثر ما يقوله له هذا الأثر على وجه التحديد، إن التجربتين تتعاليان عن الوعي الذاتي لهذا ولذاك. إننا نتجاوز كل ضرب من ضروب الرأي والمعرفة عندما نقول “إنه جميل” وفي الحالتين نريد أن نقول إن “الهو” يخرج من جديد هذا الأساس ليست تجربة الأثر الفني انجلاء على خلفية المتخفي فحسب لأنها ستكون حاضرة فيه، إنها موجودة فيه وكأنها موجودة في شيء تحتمي به، فالأثر الفني هو عبارة لا علاقة لها بطبيعة الجملة الخبرية، ولكنها لا أقل من أن تكون الأكثر نطقا وإنباء” (غادامير. 1996. الفلسفة التأويلية، المنشورات الجامعية، صص213-214). يرى غادامير “أن المعنى الأساسي للفن هو وظيفته الكاشفة، فهو يكشف الوجود بإضفاء شكل على ما ندركه” (غادامير، 1996، ص289).

يصر هايدغر على أن العمل الفني ينبغي ألا يفهم بوصفه تعبيراً عن مشاعر الفنان، بل هو ما يجلب الوجود نفسه إلى ضوء الحقيقة، وهذا ما دفع بغادامير إلى التأكيد من خلال كتابه (الحقيقة والمنهج)، على إمكانية الفن على تحصيل المعرفة وقول الحقيقة التي هي من نوع خاص مختلفة كل الاختلاف عن حقيقة العلم، لكنها ليست دونها بالتأكيد. (غادامير. 2007. الحقيقة والمنهج، ترجمة: حسن ناظم وعلي حاكم صالح، دار أويا، طرابلس، ط1، ص165).

كخلاصة، لا يعبر العمل الفني عن طريق ما هو حقيقي وواقعي، بل “إن العمل الفني يفتتح وجود الموجود على طريقته. ويتم هذا الانفتاح في العمل الفني، بمعنى الكشف. بمعنى حقيقة الموجود. لقد بدأت حقيقة الموجود تضع نفسها في العمل الفني، الفن هو وضع الحقيقة –نفسها – في العمل الفني.” (هايدغر،2003، ص57) “الأرض تعلو عبر العالم، والعالم لا يقوم إلا على الأرض عندما تحدث الحقيقة بوصفها النزاع القديم بين الفجوة المضاءة وحالة الإخفاء (…) تحدث (الحقيقة) بطرق جوهرية قليلة. من هذه الطرق، التي يتم بها حدوث الحقيقة، طريقة وجود العمل الفني. العمل الفني يدخل، وهو يقيم عالما وينتج أرضا، ذلك النزاع الذي يتم فيه صراع كشف الموجود، أي الحقيقة كلية.” (هايدغر، 2003، ص76).

إن “العمل الفني رمز المجاز والرمز معا، وهما يقدمان إطار التصور الذي يتحرك في مجال رؤيته وصف العمل الفني منذ مدة (هايدغر، 2003، ص62). بين الفنان والفن علاقة تلازم مستحيلة الانتهاء، فمن خلال العمل الفني، يكتسب الفنان هويته الجديدة في هذا العالم، “ويكون كذلك عن طريق العمل الفني.” (هايدغر، 2003، ص58).

بقلم: المصطفى عبدون

Top