تمثل جهة الدار البيضاء-سطات أحد أبرز الأقطاب الاقتصادية والاجتماعية في المغرب، إلا أن هذه الجهة لا تختزل قوتها فقط في النشاط الاقتصادي، بل تحمل في طياتها مخزونا غنيا من التراث الثقافي والطبيعي الذي يعكس عمق تاريخها وتنوع مجالاتها.
في هذا الحوار الخاص مع الباحث الأثري ورئيس مكتب إيكوموس بالمغرب أبو القاسم الشبري، نسلط الضوء على الدور الذي يلعبه التراث المادي واللامادي في تعزيز الرواج السياحي بالجهة، ونتعرف على أبرز المؤهلات الأثرية والمعمارية التي تزخر بها المنطقة، وكيفية استثمارها لتطوير القطاع السياحي.
واعتبر الباحث الشبري في هذا الحوار أن جهة الدار البيضاء-سطات ليست مجرد تجمع حضري حديث، بل هي امتداد لمجالات تاريخية عريقة تشمل الشاوية ودكالة، حيث تلتقي الطبيعة الساحلية بالأراضي الداخلية الخصبة، مما جعلها مسرحا للأحداث التاريخية ومركزا ثقافيا نابضا، مبرزا أن تاريخ هذه الجهة يمتد إلى أزيد من مليون سنة، كما يشهد على ذلك وجود مواقع أثرية هامة مثل مغارات سيدي عبد الرحمان وموقع جبل إيغود الذي يعد أقدم دليل على وجود الإنسان العاقل.
يستعرض الباحث ذاته أيضا الفسيفساء الثقافية التي تميز أقاليم الجهة، بدءا من العيطة وفن التبوريدة، وصولا إلى التراث المعماري الذي يتجلى في المدن العتيقة مثل أزمور والجديدة، والقصبات التاريخية كقصبة بولعوان، والرباطات والزوايا التي تنتشر في ربوع المنطقة، ثم الدار البيضاء، المعروفة بمعمارها الكولونيالي، التي تضم إرثا أثريا يعود إلى ما قبل القرن العشرين، مما يعزز مكانتها كوجهة ثقافية وسياحية.
ويبرز الحوار مع الباحث في الثرات الأهمية الكبرى للمؤهلات السياحية بالجهة، مشيرا إلى أن السياحة التراثية تحظى بحضور قوي عبر رحلات استكشافية ومواسم ثقافية ومهرجانات شعبية مثل موسم مولاي عبد الله أمغار، والمعرض الدولي للفرس بالجديدة، مبرزا توفر الجهة على بنية استقبال سياحي متنوعة تشمل منتجعات عالمية، فنادق، رياضات، ودور ضيافة، إضافة إلى الشواطئ الممتدة التي تجعلها قبلة للاستجمام خلال فصل الصيف.
ويشدد الشبري على أهمية استثمار التراث الثقافي والطبيعي في تنمية القطاع السياحي بالجهة، مع التأكيد على ضرورة رسم مسارات سياحية مضبوطة تشمل جميع مناطق الجهة وتقديم عروض سياحية متكاملة تجمع بين الثقافة، التاريخ، والطبيعة، مما يساهم في تعزيز جاذبية جهة الدار البيضاء-سطات على الصعيدين الوطني والدولي.
وهذا نص الحوار:
الباحث الأثري ورئيس مكتب إيكوموس بالمغرب أبو القاسم الشبري في حوار مع ” بيان اليوم” : الدار البيضاء سطات صورة مصغرة لمغرب غني بتراثه المتعددة
أي مكانة للتراث والثقافة في جهة البيضاء سطات ؟ وكيف يساهمان في الرواج السياحي بالجهة ؟
< بداية، لابد من التوضيح والتأكيد على أن “جهة الدار البيضاء – سطات” هي تسمية مختزلة لمجال شاسع تجتمع فيه عدة قبائل، أكبرها الشاوية ودكالة، ومن ثمة فإن هذه الجهة تضم أقاليم سطات وبرشيد والجديدة وسيدي بنور وبنسليمان، حول قلب المغرب النابض، ولاية الدار البيضاء بعمالاتها العديدة. والدار البيضاء نفسها جزء من الشاوية، وإن كانت أيضا مزيجا من قبائل أخرى.
هذا المجال الشاسع، والخصب، والممتد على طول الأطلسي، بامتدادات كبيرة داخل التراب الداخلي، منح المنطقة مكونات بحرية وجيولوجية وبيئية ومجالية غنية ومتنوعة، مثلما خولها مؤهلات بشرية وتاريخية وتراثية جعلتها في قلب أحداث تاريخ المغرب وبوأتها مكانة هامة داخل الخريطة التراثية والأثرية المغربية. وليس غريبا أن نسجل اليوم مثلا سيطرة هذه الجهة على الساحة الفنية المغربية من خلال الكم الهائل من الفنانين والفنانات المنتمين إلى أقاليم الجهة والذين يبدعون في مختلف مجالات الفنون، حتى صارت دارجة الشاوية ودكالة تستحوذ على أكبر مساحة من لغة برامج الإعلام المرئي والمسموع بالمغرب، من الإبداع الفني إلى الوصلات الإشهارية.
وإذا كان التراث المادي والأثري غني ومتنوع، فإن التراث اللامادي في جهة البيضاء-سطات يشكل مخزونا استثنائيا، بالنظر إلى تنوع أشكاله وضخامته كميا وثراه كيفا. وهذا ما يشكل إغناء وإثراء للخزانة الفنية الوطنية، بامتدادات إقليمية وعالمية.
فمن الأغاني التراثية والعصرية إلى المسرح والسينما والفنون التشكيلية، مرورا بالمطبخ والطرز وموسم الحصاد والتبوريدة، تتشكل فسيفساء ثقافية تمنح أقاليم الجهة خصوصياتها داخل نسيج الفسيفساء الثقافية المغربية المتميزة بالتنوع في الوحدة والوحدة في التعدد؛ ولذلك فإن إبداعات الشاوية ودكالة لا تخطئها الأذن ولا العين؛ هو طابع خاص تنفرد به المنطقة، مثلما لكل منطقة بالمغرب طابعها المعلوم.
وبغض النظر عن العيطة وأغاني الماية (أغاني النساء)، فإن موضوع التراث الفني لجهة البيضاء-سطات يحتاج ملفا خاصا للإحاطة على الأقل بأهم جوانبه.
أما على مستوى الخريطة الأثرية، فإن جهة البيضاء-سطات تحفل بمخزون هام ومتنوع، يمتد تاريخيا لأزيد من مليون سنة من عهود ما قبل التاريخ إلى معمار القرن العشرين الكولونيالي المتفرد، ويتوزع موضوعاتيا على مغارات ومدن وقلع وحصون وزوايا ورباطات وأضرحة ومنشآت تجارية وصناعية، وينتشر مجاليا بالمدن والقرى والبوادي والدواوير، مثلما يندمج فيه التراث الأثري بالتراث الطبيعي. بكل هذا الغنى التراثي والطبيعي والبشري، يمكن اعتبار جهة البيضاء – سطات صورة مصغرة للمغرب ولما يمكن لزائر أن يكتشفه بالبلد.
وأود استغلال الفرصة لتصحيح مغالطة محلية ووطنية تدفع الكثيرين إلى الاعتقاد أن مدينة الدار البيضاء فقيرة من الناحية الأثرية ولا تتوفر سوى على معمار القرن العشرين؛ والواقع أن هذا الاعتقاد خاطئ ومغلوط، بالحجة الأثرية والعمرانية والتاريخية.
فالدار البيضاء لم تنتظر الاحتلال الفرنسي لتعميرها بما أنها واحدة من المدن المغربية التي أثثت خريطة القرون الوسطى؛ ولعل هجوم البرتغاليين على أنفا عام 1469 وتدمير أجزاء منها كان بفعل ما كان للمدينة من دور هام على الساحل الأطلسي.
وإذا كانت اليوم المدينة العتيقة للبيضاء تنتصب على ساحل البحر وتقابل وسط المدينة العصري، فمواقع سيدي عبد الرحمان وطوما وأولاد احميدة 1 يعتبرون من بين أقدم الدلائل الأثرية على استيطان الإنسان بالمغرب، حيث تعود اللقى الأثرية إلى مليون وثلاثمائة ألف سنة، والبقايا العظمية لإنسان ما قبل التاريخ إلى حوالي ثمانمائة ألف سنة، علما أن أدوات مليون سنة ويزيد هي أيضا صنعها الإنسان المغربي بمحيط الدار البيضاء.
وامتد وجود الإنسان بالدار البيضاء دون توقف إلى أن يلتقي مع قرينه إنسان جبل إيغود بإقليم اليوسوفية (300000 سنة) الذي يعتبر أقدم دليل على وجود الإنسان العاقل الحديث في العالم، إلى حدود ما توصل إليه البحث الأثري اليوم. ويوجد بجهة البيضاء-سطات موقع آخر من مواقع ما قبل التاريخ، هو مغارات الخنزيرة بجماعة مولاي عبد الله بإقليم الجديدة والذي بلغ اليوم تأريخ وجود الإنسان به إلى ما يفوق مائة وثمانون ألف سنة.
من جهة أخرى، تقع الدار البيضاء وكل جهة الشاوية-دكالة في قلب إمارة برغواطة التي امتدت مجاليا من نهر أبي رقراق إلى وادي تانسيفت جنوب أسفي، وتاريخيا من القرن الثامن إلى القرن الثاني عشر الميلادي؛ ومن ثمة فإن تراث الجهة تعرض في كثير من الأحيان إلى التدمير بسبب الصراع الأيديولوجي مع المرابطين والموحدين.
وإذا كانت مدينة سطات تفخر بقصبة إسماعيلية، فإن الدار البيضاء مدينة للسلطان العلوي سيدي محمد بن عبد الله (1757-1790) الذي شيد بها كثيرا من المنشآت مازالت قائمة إلى اليوم.
وإذا كانت مدينة الدار البيضاء تتفوق على من سواها في بقايا إنسان ما قبل التاريخ وتحفل بكم هائل من بنايات فترة الحماية لا تضاهيها في ذلك سوى مدينة الرباط، فإن إقليم الجديدة يستحوذ بشكل ما على مخزون التراث المعماري والأثري للجهة، في حدود ما هو مكتشف ومعروف اليوم للعموم. وهذا التراث موزع على مدينة أزمور العتيقة وقصبة بولعوان الإسماعيلية، والقلعة البرتغالية بالجديدة ووسط الجديدة الحافل بمباني القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ومنشآت فترة الحماية، وكذا موقع رباط تيط – مولاي عبد الله ومغارات الخنزيرة ورباط المجاهدين وبناءات تازوطا المنتشرة في عدد من الدواوير، وكثير من المواقع التي لم يتم بعد جردها ولا تصنيفها، دون إغفال بحيرة سيدي موسى باعتبارها محمية طبيعية. في حين تقع قصبة الوليدية وبحيرتها الشهيرة عالميا، وموقع مدينة الغربية وقصبة خميس القصيبة ضمن الدائرة الترابية لعمالة إقليم سيدي بنور؛ وغني عن الذكر أن أقاليم بنسليمان وسطات وبرشيد في حاجة إلى دراسات علمية لجرد وتوثيق ما يحفلون به من معمار وعمران.
عموما، إن جهة البيضاء-سطات غنية بتراث معماري وأثري زاخر ومتنوع، مثلما تتوفر على غابات طبيعية وشواطئ مغرية تمتد أحيانا دون انقطاع. ولا يفوتنا هنا التذكير أيضا بالتراث الرياضي، حيث تتوفر مدن الجهة على ملاعب رياضية تعتبر إرثا وطنيا ليس فقط من زاوية معمارها ولكن أيضا باعتبارها أماكن ذاكرة بما أنجبته من أبطال وما عاشته من أحداث كروية وفنية أيضا.
ويمكن اعتبار الجهة المنطقة الأولى في المغرب التي لم يتوقف فيها وجود وعيش الإنسان المغربي من أقدم إنسان بالمغرب إلى اليوم، بحيث كل مراحل تعمير الأرض متوفرة بالجهة، من خلال شواهد أثرية وعمرانية مازالت قائمة إلى اليوم، تدب فيها الحياة. هو تشكيل بدأ مع ما قبل التاريخ، وما قبيل التاريخ، وامتد دون انقطاع مع عهود الممالك الأمازيغ إلى دخول الإسلام وما تبع ذلك من عهود الأسر الملكية التي حكمت المغرب إلى يومنا هذا وبصمت معماريا وعمرانيا على أعمالها بهذا الجزء من المغرب.ما هو نصيب جهة الدار البيضاء – سطات من قائمة المواقع المصنفة تراثا وطنيا؟
< بداية تجدر الإشارة إلى أن التوزيع المجالي لتصنيف التراث الوطني عامة يتميز بتفاوت، كبير أحيانا، بين الأقاليم والجهات؛ وجهة البيضاء – سطات إذا كانت جهويا تتوفر على عدد محترم من المواقع المصنفة تراثا وطنيا، فإن بعض أقاليمها تتذيل لائحة التصنيف، جهويا ووطنيا. وإن المتمعن لهذه الخريطة الأثرية الجهوية، يخرج بالاستنتاجات التالية :
1- تضم الجهة موقعا واحدا مصنفا تراثا عالميا من طرف منظمة اليونسكو، هو القلعة البرتغالية بالجديدة المصنفة في يونيو 2004، وكان لنا شرف تحضير ملف ترشيحها. بينما توجد مدينة الدار البيضاء بمعمارها للقرن العشرين على اللائحة التمثيلية لليونسكو، وكان قد تم إيداع ملف تصنيفها رسميا ثم تم سحبه من طرف السلطات المختصة، ولا نعرف لذلك سببا.
2- تصدر إقليم الجديدة للمواقع المصنفة تراثا وطنيا من طرف وزارة الثقافة ب17 موقعا ومدينة ورباط وحصون، موزعة على جماعات الجديدة (7)، وأزمور (4)، ومولاي عبد الله (4)، واولاد عيسى (1)، وبولعوان (1).
3- حلول إقليم سطات ثانيا بخمس مواقع مصنفة تراثا وطنيا، بين قصبة وزاوية ومسجد وضريح، بينما تحتوي الدار البيضاء فقط على موقعين مصنفين وبعض معالم القرن العشرين تم تقييدها أو ترتيبها، ونستغرب كيف أنه لم يتم بعد تصنيف موقع طوما على قائمة التراث الوطني، وهو قيد التحضير في ما يبدو. لكن البيضاء تضم حوالي مائتي موقع ومعلمة تم فقط تقييدهم دون ترتيبهم. ويضاف إلى ذلك قصبة المحمدية وقصبة المنصورية بعمالة بنسليمان وقصبة مديونة بإقليم سطات. بينما يوجد بإقليم سيدي بنور موقع واحد مصنف هو قصبة الوليدية، في حين يوجد موقع مدينة الغربية وقصبة خميس القصيبة بإقليم سيدي بنور قيد التحضير. ويبدو أن مسلسل تصنيف موقع رباط المجاهدين بجماعة الحوزية بإقليم الجديدة قد توقف. ولا نعرف لإقليم برشيد أي موقع مصنف.
4- توفر الجهة على موقعين مسجلين كمحميتين طبيعيتين وفق معاهدة “رامسار” هما بحيرة سيدي موسى بإقليم الجديدة وبحيرة الوليدية بإقليم سيدي بنور.
5- تحفل جهة البيضاء-سطات بخمس مواقع لما قبل التاريخ، ضمنها موقعين يؤرخان لأقدم استيطان بشري بالمغرب. مثلما تضم بعض المدن التي تعد من بين أقدم التجمعات الحضرية بالمغرب، نذكر منها مدينة أزمور العتيقة، والموقع الأثري “المدينة (مدينة الغربية) بإقليم سيدي بنور، وكذلك موقع تيط – ن- فطر الذي سيتحول لاحقا إلى رباط صوفي مع الأمغاريين والمعروف اليوم برباط مولاي عبد الله أمغار.
6- انفراد الجهة ببناء لا يوجد في أية منطقة أخرى بالمغرب هو بناء “تازوطا” الموجود فقط ببعض جماعات إقليم الجديدة، خاصة بجماعة الحوزية، وبشكل أقل في جماعتي أولاد حسين وأولاد عيسى. وهو بناء بديع الصنعة يعتمد فقط على الحجر الجاف ويرفع بشكل مقبب. ويوجد مثيل له في دول أخرى مثل إيطاليا وفرنسا. مثلما تنفرد بعض المناطق بوجود سراديب تحت-أرضية تعرف ب”التوفري” كانت تدخل ضمن المنظومة الدفاعية لساكنة سهول شاسعة لا تتوفر بها جبال ولا هضاب تساعد على بناء الدفاعات زمن الأزمات والحروب.
ولابد من التأكيد على أن ربوع أقاليم جهة البيضاء-سطات تضم عددا هائلا من المواقع الأثرية التي لم تصلها بعد أعين الباحثين لدراستها وتوثيقها، وهي كلها توجد منتشرة ببوادي الجهة، جلها بعيد عن التجمعات القروية والحضرية.
وتتشكل هذه المواقع من قرى ورباطات وزوايا ومقابر قديمة تعود لقرون خلت، ومن حصون وأبراج دفاعية وصهاريج، وحتى من مدن يمكن نعتها بمدن قروية توفرت لها أسوار وأبواب.
وتحفل المصادر والوثائق التاريخية بين القرن 10 والقرن 17 وكذا تقارير المستكشفين المتأخرين بكم هائل لأسماء مواقع مندرسة لم نتمكن بعد من تحديد مواقعها؛ ومن شأن الكشف عن كل هذه المواقع أن يغني ويُثري الخريطة الأثرية لأقاليم يبدو أنها اليوم كما لو أنها على عروشها خاوية أثريا، ونخص بالذكر أقاليم برشيد وبنسليمان وسيدي بنور، كما سيجعل من إقليم الجديدة واحدا من أغنى مناطق المغرب من حيث المواقع التراثية.كيف يمكن استثمار هذه المؤهلات التراثية والثقافية للرقي بالقطاع السياحي بالجهة؟
< لا يجادل سوى غافل في كون التراث، الثقافي والطبيعي، في قلب التنمية؛ التراث ركيزة أساسية في تنمية شاملة ومندمجة ومستديمة، وصديقة للبيئة. ولا حاجة هنا للتذكير بأن بعض البلدان الرائدة عالميا في مجال من مجالات الصناعة تملأ خزائنها من موارد السياحة الثقافية بعشرة أضعاف من مداخيلها من صناعتها الشهيرة. حين تدور عجلة التراث الاقتصادية، تدور معها عجلات اقتصادية كثيرة، بشكل ميكانيكي، دون عناء.
والمغرب عموما يتوفر على خزان لا ينضب ومخزون يحسد عليه في باب التراث الثقافي والطبيعي حتى يخيل للمرء وهو يتجول في كل ربوعه كما لو أنه يقوم بجولة في ربوع الكرة الأرضية؛ وجهة الشاوية-دكالة (البيضاء-سطات) نموذج لهذا التنوع الذي يعرفه المغرب.
لذلك فإن الوضع الحالي للسياحة بالجهة قد يعتبر مطمئنا بشكل ما، لكنه مازال في حاجة إلى جهود عقلانية ليكون أفضل وليشمل الاستغلال الأمثل لكل هذه المؤهلات التي تتوفر عليها الجهة.
ويبقى أهم هدف ومطلب هو توزيع متوازن للاستقطاب السياحي على كل مناطق الجهة، كي لا تظل البيضاء والجديدة تستأثران بحصة الأسد من المنسوب السياحي، الوطني والأجنبي؛ مثلما لا يجب أن تظل المسقاة البرتغالية بالحي البرتغالي بالجديدة وحدها من تُعتمد في الترويج لمدينة تزخر بمؤهلات كثيرة. وإذا كان التراث الكولونيالي في البيضاء يدخل في مسارات سياحية، فهناك مدن أخرى بالجهة لم يتم بعد إدراج تراثها هذا ضمن المزارات السياحية.
وبمعاينة سريعة يمكن تسجيل الحضور القوي للسياحة التراثية بالجهة، تشكل فيه الدار البيضاء والجديدة موقع الريادة، متبوعتين بمدينة أزمور، سواء عبر رحلات منظمة أو من خلال زيارات فردية أو في إطار مجموعات مصغرة ضمنها ما تقوم بها جمعيات مدنية لاستكشاف هاته المنطقة أو تلك من المغرب؛ وتنفرد الدار البيضاء بسياحة الأعمال باعتبارها القطب المالي والاقتصادي للمملكة.
وكثيرا ما يتغافل المتتبعون عن السياحة العلمية والتي تحضر في أقاليم جهة البيضاء – سطات عبر المدن الجامعية بحيث تشكل المؤتمرات العلمية والأكاديمية فرصة لاستكشاف تراث المنطقة عبر جولات دراسية مؤطرة يشرف عليها باحثون مختصون. مثلما تنشط السياحة القروية بالجهة، وهو نمط أضحى يستهوي كثيرا من السياح، عالميا، بحثا عن السكينة ومزايا الطبيعة والدفء البشري. وتعرف شواطئ الجهة، من دار بوعزة وسيدي رحال إلى الوليدية زخما صاخبا في سياحة الاستجمام طيلة الفصل الحار، من نهاية شهر ماي إلى أواسط شهر شتنبر، كل سنة.
إلى ذلك، يوجد بجهة البيضاء-سطات عدد لا يستهان به من مواسم تقليدية ومهرجانات شعبية ومعارض وطنية ودولية. ونذكر من ذلك المعرض الدولي للفرس بالجديدة والمعرض الدولي لكتاب الطفل والشباب بالبيضاء، وموسم مولاي عبد الله أمغار للتبوريدة وموسم سيد الغليمي، ومواسم عديدة أخرى يحج إليها الناس من أغلب مناطق المغرب، ومن الخارج أحيانا. وقد كانت البيضاء إلى أمس تستضيف المعرض الدولي للنشر والكتاب قبل أن يتم نقله إلى الرباط. وغني عن الذكر أهمية المهرجانات الكبرى التي تحتضنها مدينة الدار البيضاء وتتمتع بصيت عالمي.
وتتوفر الجهة على بنية استقبال سياحي غنية ومتنوعة، تتوزع على منتجعات سياحية بقيمة عالمية وفنادق فاخرة ومتوسطة وصغيرة، وكذا مآوي ورياضات ودور ضيافة أضحت في كل مناطق المغرب تستأثر باهتمام السياح المغاربة والأجانب. ويجد الزائر بالجهة مختلف أصناف المطاعم، بحسب القدرة الشرائية للمرتفقين. لكن هذه المنشآت السياحية لا تتوزع على كل جماعات جهة البيضاء-سطات ذات الاستقطاب السياحي.
ويبقى من باب الواجب التأكيد على أن التراث الثقافي الذي يعتبر موردا اقتصاديا هاما جدا يحتاج باستمرار إلى مشاريع ترميم ورد اعتبار وإعادة توظيف. وإن جهة البيضاء-سطات تعرف عدة مشاريع إنقاذ وترميم للمعالم التراثية، لكن هذه المشاريع لا تشمل كل جماعات الجهة، وقد تتوقف أحيانا لفترات تكون معها كثير من المعالم قد أخذت تتآكل إن قليلا أو كثيرا. وإذا كان قد تم إعادة توظيف بعض المعالم كفضاءات ثقافية أو سوسيو-ثقافية، خاصة في البيضاء والجديدة، فإن كثيرا من المعالم تحتاج إلى إعادة توظيف لتكون في نفس الوقت محجا تراثيا ومزارا ثقافيا بحسب الوظيفة الجديدة. ويبدو من المستعجل رسم مسارات سياحية مضبوطة تشمل كل مناطق الجهة، وكذا التخطيط لإحداث متاحف متخصصة ومراكز تحليل التراث في البيضاء والمحمدية وسطات وبرشيد والجديدة وأزمور وسيدي بنور، وفي جماعات أخرى في مرحلة ثانية، بحسب الإمكانيات المادية وما ستسفر عنه دراسات الجدوى. إذ لا يعقل أن لا تتوفر مدن مثل البيضاء وأزمور والجديدة وسطات على متاحف. وإننا نتفاءل خيرا بالمشاريع الضخمة التي توجد اليوم قيد التحضير. والدراسات التقنية متوفرة، خاصة تلك التي أنجزتها وتنجزها مؤسسات متخصصة بالبيضاء والوكالات الحضرية ومصالح الثقافة بالجهة.