طارق الذي لم يفتح الأندلس

شكلت وفاة الكاتب المغربي مصطفى المسناوي صدمة كبيرة في صفوف أصدقائه وقرائه بالنظر إلى رحيله المبكر، على العتبات الأولى للعقد الستيني.
الأزمة القلبية عجلت برحيله بينما كان يواكب فعاليات مهرجان سينمائي دولي بالقاهرة، الفن السابع الذي عشقه كثيرا وأبدع فيه على المستوى النقدي، حيث يمكن اعتباره من بين الأسماء الأساسية والرائدة التي كان لها إسهام رئيسي في الرقي بمستوى النقد السينمائي، عن طريق توظيف أدوات نقدية تعمق التفكير في الأفق الجمالي والفكري للإنتاج السينمائي المغربي والأجنبي. وتعد القصة القصيرة من بين الفنون التي أبدع فيها بتميز لافت، كما يتجلى ذلك في مجموعته القصصية الرائدة “طارق الذي لم يفتح الأندلس” على اعتبار دورها الأساسي في تحديث هذا الفن الأدبي الصعب.
غير أن تعدد اهتماماته الثقافية جعلته يبدو مقلا في الإنتاج القصصي، حيث مارس الترجمة باقتدار، وعمل على نقل إلى اللغة العربية لأول مرة، الإنتاج الفكري لنخبة من المفكرين، من قبيل لوسيان غودلمان وغيره.
تخصصه في الدرس الفلسفي أوحى له بأن يدير مجلة ذات التخصص نفسه، بعنوان “بيت الحكمة” وكانت بدورها رائدة في مجالها. وقبل ذلك شارك في إدارة مجلة “الثقافة الجديدة” التي كان لها بدورها الريادة في تحديث الثقافة المغربية، حيث قدمت إلى القارئ نخبة من الأسماء التي انتصر إنتاجها الفكري والإبداعي لقيم الحداثة والعقلانية.
غير أن اهتمامات الفقيد لم تنحصر في المجالات المذكورة، حيث كان له إسهام في إغناء المكتبة المغربية بمقالاته الأدبية الساخرة، مع العلم أن المبدعين في هذا المجال يشكلون قلة، بالنظر إلى أنه يتطلب التوفر على ميزتين: خفة الروح وموسوعية الثقافة.
لقد تميز الراحل بإتقانه لهذا الفن الأدبي الساخر، وقد صدر له في هذا الباب ضمن سلسلة وكالة شراع، كتاب يحمل عنوان “يا أمة ضحكت..”، في إحالة منه على البيت الشعري الشهير للمتنبي: يأمة ضحكت من جهلها الأمم.
في هذا الكتاب الفريد من نوعه، يسخر الكاتب من العديد من الظواهر الاجتماعية والسياسية التي عايشها، ولعله فطن إلى أن الأشياء التي قد نعجز عن الإفصاح عنها؛ بالنظر لما تمثله من خطوط حمراء، يمكن بلوغها عن طريق السخرية. كانت السخرية لديه ليست فقط أسلوب كتابة، بل نمط عيش، يمارسها في حياته اليومية العادية
خفة روح الراحل، تجلت كذلك في تأليفه سيناريوهات العديد من المسلسلات الدرامية التي عرضتها التلفزة المغربية، ذات القالب الفكاهي، من قبيل سيتكوم “سر حتى تجي” وغيره.
هناك خصلة طيبة في الفقيد، هي تطوعه لمساعدة الكتاب الموهوبين على طبع كتبهم، أحيانا يبادر إلى جمع نصوصهم المتفرقة في الصحف والمجلات، مع ما يتطلبه ذلك من جهد وتضحية بالوقت والمال، عندما يلمس لدى أصحابها تقاعسهم وعدم اهتمامهم بإخراجها إلى النور.
لقد كان وراء صدور العديد من الكتب الإبداعية والفكرية لنخبة من الأدباء المتميزين على وجه الخصوص، وهذا ينم عن غيرته على الثقافة المغربية، وليس مفاجئا بذلك أن تضمه وزارة الثقافة إلى ديوانها في إحدى الولايات، من أجل الاستشارة والإشراف على سلسلة الكتاب الأول على وجه الخصوص.
عندما يترافق هذا الحضور الفكري والإبداعي للراحل مع سلوكه الراقي، حيث كل الذين عاشروه، لا بد أنهم لمسوا فيه تواضعه ونكرانه للذات، ليس غريبا أن يعبر كل الذين بلغ إلى علمهم نبأ رحيله المبكر، عن مرارة الفقدان.

[email protected]

*

*

Top