عبد الرحيم العلام يحاور الكاتبة والفنانة التشكيلية المغربية فاطمة أمحزون

فاطمة أمحزون، كاتبة وباحثة وفنانة تشكيلية مغربية مختلفة، تنحدر من أصول أمازيغية، وتحديدا من مدينة “خنيفرة”، حيث عرفت هذه المنطقة، تاريخيا، بمقاومة المستعمر الفرنسي ومحاربته، وهو ما جعل جانبا من اهتمامات الكاتبة فاطمة أمحزون الثقافية والفنية، يتأثر، بشكل أو بآخر، بالبيئة التي نشأت فيها، وأيضا بمحيطها العائلي، وهو ما جعلها تولي اهتماما خاصا في كتاباتها، بجدها بطل المقاومة المغربية الشهير “موحى أوحمو الزياني”، من ناحية، بمثل اهتمامها بـ “الطبخ الأمازيغي بالأطلس المتوسط” وبـ “الطبخ العالمي”، ممارسة وكتابة، فضلا عما تبدعه هذه الفنانة المبدعة من أشعار وأعمال تشكيلية، نابعة من روحها الأمازيغية الأصيلة، ولها في هذه المجالات بعض الإصدارات والكتابات، في تنوعها وفي إضاءتها لموضوعاتها…

اهتمت الباحثة فاطمة أمحزون بتاريخ جدها، ومن خلاله بملاحم بطولية من مرحلة مهمة في تاريخ المقاومة في المغرب الحديث، بما في ذلك اهتمامها بالمرأة الزيانية، وبالكتابة الشعرية والفنون التشكيلية، في تناسق فريد من نوعه بين الإبداعين.

وما كان للجانب الإبداعي عند الكاتبة فاطمة أمحزون، أن يطفو على سطح اهتماماتها المختلفة، لولا الدور الهام الذي لعبه الشاعر والفنان التشكيلي المغربي الكبير، والوزير الأسبق، والشخصية السياسية، المحجوبي أحرضان، في مسارها الإبداعي الممتد، في اكتشافه لموهبتها، وفي توجيهه لها، وهو جانب تكشف عنه الشاعرة والفنانة فاطمة أمحزون بنفسها في هذا الحوار، الذي يرصد بعض محطاتها، على مستوى البحث والإبداع…

جئت إلى اللغة الفرنسية بحثا عن التنويع وحبا في المعرفة

* تعرفين في الأوساط الثقافية والفنية المغربية والغربية، بكونك متعددة الاهتمامات، فضلا عن كونك تكتبين باللغة الفرنسية وتبدعين بها، وإن كنت تتقنين كذلك الكتابة باللغة العربية… فكيف جئت إلى اللغة الفرنسية أو جاءت هي إليك، وما الذي تعنيه لك هذه اللغة التي يكتب بها كتاب مغاربة آخرون، ممن برروا إقبالهم على الكتابة باللغة الفرنسية، بمبررات مختلفة وبخلفيات متنوعة، نذكر من بينهم: الطاهر بنجلون، ومحمد خير الدين، وعبد الكبير الخطيبي، وليلى سليماني، وغيرهم، فيما يزاوج آخرون بين اللغة العربية واللغة الفرنسية ولغات أخرى؟

** منذ صغري، كانت اللغة الفرنسية، وأنا لم أدرسها بعد، تثير فضولي حين كنت أشاهد التلفاز. أجد رنتها سلسة في الأذن، وكانت تجلبني عباراتها المستعصية علي وقتئذ. التحقت بالمدرسة، وأنا في سن السابعة من عمري، ولم أبدأ في تعلم أبجديتها إلا في السنة الثانية. لما حصلت على الشهادة الابتدائية، أهداني أخي معجم اللغة (عربي – فرنسي) الذي كان يلازمني دائما، وكان الغوص فيه متعة كبيرة تستهويني، كما كان له الفضل في تعلم الكثير من المفردات والجمل. كان للمجلة الفرنسية “المرأة الحالية” الأسبوعية فضل علي كذلك، في تعلم هذه اللغة وحبها، فجل محتواها يثير اهتمامي، كفقرة الطبخ مثلا، والموضة، وفقرة “اليد الممدودة”، التي تروي قصص ومشاكل الناس بأسلوب لين وشيق.

 سأحضى بعد هذه الفترة بهدية أخرى، وهي معجم اللغة (فرنسي – فرنسي) الذي زاد من إعجابي بهذه اللغة، بغنى محتواه الذي كان يشبع عطشي لمعرفة كلمة ما…

سأجد نفسي بعد ذلك أكتب تلقائيا مذكراتي اليومية باللغة الفرنسية، لعله التحدي الذي يدفع بالإنسان لاكتساب المعرفة بلغة غير اللغة الأم، لكسر حاجز الضعف ربما، والخوض في مواضيع شتى بلغات مختلفة… فجوابا على سؤالكم، هذه اللغة جاءت إلي عبر الشاشة، وجئت إليها بحثا عن التنويع وحبا في المعرفة.

بالنسبة للكتاب المغاربة الذين يكتبون باللغة الفرنسية كما ذكرتم، فلكل واحد منهم أسبابه الخاصة، لكني أعتقد أن القاسم المشترك، يبقى دائما هو الاستعمار الفرنسي الذي رسخ هذه اللغة في الإدارة المغربية، وحث عليها في التعليم كذلك. فالكتابة بلغة أخرى، تعتبر فعلا جريئا، ينبعث من تربية فيها السخاء والعطاء. وتساهم الكتابة بلغات أخرى في تبادل الثقافات، ومعرفة الديانات، واكتشاف الحضارات، فلولاها لما عرفنا الكثير عن شعوب مختلفة، التي لا تتكلم لغتنا.. فتعلم اللغات، يعتبر لبنة أساسية للابتكار وازدهار الإنسان الذي يسعى دائما للمعرفة واكتشاف الآخر، سواء من باب الفضول أو من باب التثقيف، والمثل يقول: إذا كنت تريد أن يفهمك الناس فتحدث لغتهم. 

“موحى أوحمو الزياني”  دخل إلى التاريخ المغربي المعاصر من بابه الواسع

* نشرت كتابا مهما عن البطل التاريخي المغربي “موحى أوحمو الزياني أمحزون” (1857-1921)، وهو في اعتقادي من الكتب الأساسية التي ألفت عن هذا المحارب الكبير، الذي يعد من أبرز رجال المقاومة في التاريخ المغربي الحديث، فهو من كان على رأس المقاومة الزيانية ضد الاحتلال الفرنسي، وبطل معركة “الهري” الشهيرة ضد الاستعمار الفرنسي، كما وصفتِه أنت في إحدى قصائدك المهداة إليه.

فكيف اختمرت لديك فكرة الكتابة عن هذا البطل المغربي الفذ، علما بأننا نعرف أن لك علاقة قرابة وثيقة به، فأنت حفيدته، وهل يمكن أن نعتبر كتابك هذا يدخل في مجال الكتابة التاريخية عن أبطال المغرب، من المقاومين المعروفين ضد الاستعمارين الفرنسي والإسباني؟

 ** فكرة الكتاب عن شخصية “موحى أوحمو الزياني”، لم تأت بمحض المصادفة، فبحكم كوني حفيدة هذا المقاوم الراحل، كما تفضلت، كنت أسمع دائما عبارات ومقولات له، يتم تداولها بين أفراد عائلتي في كثير من المناسبات، أو عندما تحتم الظرفية حكمة سبق أن سردها أو أوصى بها. لكن مع صغر سني، لم أكن أفقه وقتئذ لماذا كان يُعطى به المثل ويُذكر كثيرا. عدت يوما من المدرسة، وأنا في سن الحادية عشرة من عمري، فالتقيت بصحفي جاء من مدينة الرباط، وكان يبحث عن “مكتب قدماء المحاربين وأعضاء جيش التحرير”، لكونه كلف بإعداد روبورطاج عن شخصية “موحى أوحمو الزياني”. أسرعت بالرد عليه بأن المبحوث عنه هو “جدي”. لم أر من قبل شخصا عاش في اللحظة نفسها إحساسين متناقضين، فقد سُر أولا حين سمع جوابي، بكونه التقى بشخص قريب جدا من الشخصية موضوع بحثه، ثم انتكس لما أسرعت إلى المنزل دون الالتفات إليه ولا تقديم أجوبة عن أسئلته، فقد استحال علي وقتئذ، بحكم تربيتي، أن أتحدث إلى رجل، فأحرى إن كان غريبا.

 

من لوحات الفنانة فاطمة أمحزون

شكل ذلك الحدث مؤشرا آخر على أن “جدي”، هو شخصية متفردة ومختلفة، لكن لم أستطع أن أكتشف أين كان يكمن ذلك الاختلاف. ستمر السنون، أكبُر ثم أتزوج برجل طيار حربي، لم تطأ قدماه المدن الجنوبية المغربية التي كان يحلق فوقها أثناء الحرب، للدفاع عن الوطن، سيُرسل في مهمة دبلوماسية خارج الوطن، وسيطلب مني أن أرافقه في زيارة إلى المدن التي حلق فوقها قبل أن يسافر. في طريقنا، سنقف للحظات بمدينة “زاكورة” المغربية، حيث توجد المكتبة الشهيرة ببلدة “تمكروت”، وبجانبها “الزاوية الناصرية” التي دفن فيها بعض أحفاد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، حسب المشرف على الزاوية، هذا الأخير الذي شرع  في تقديم شروحاته، بدءا بالحديث عن الأموات والترحم عليهم، ليرفع عينيه بعدها إلى قبة الزاوية، ويفسر لنا أن خشب الأرز المصنوعة منه القبة كان يرسل إليهم من مدينة خنيفرة التي كان يحكمها قائد عظيم ورجل شجاع قل نظيره في هذا الزمان، يدعى “موحى أوحمو الزياني”، نظر إلي زوجي، ثم نظر إلى المتحدث ولم يتكلم. لما أنهى محدثنا شروحاته، التفت إليه زوجي قائلا: أقدم لك حفيدة هذا الرجل العظيم.

خجلت حينها بردة فعل هذا الرجل، حيث قام بتقبيل رأسي بحماس لعدة مرات، ثم انحنى أمامي وهو يكبر قائلا: الله أكبر، الله أكبر…

كانت ردة فعله بمثابة استفاقة بالنسبة لي، تيقنت بعدها أنه يجب علي إزالة الستار، والبحث عن “موحى أوحمو الزياني”، ليس الجد وإنما الشخصية التاريخية.

ومن هنا، بدأت فكرة الكتاب الذي أعتبره اليوم مرجعا أساسيا وهاما لمن له اهتمام بشخصية “موحى أوحمو الزياني”؛ هذه الشخصية التي دخلت بسلاسة، وهي في سن مبكر (16 سنة) إلى التاريخ المغربي المعاصر من بابه الواسع، بذكاء وشجاعة وسياسة وحنكة، قل نظيرها في زمانه. 

ما الذي يمكن قوله عن مثل هؤلاء الرجال البواسل، أمثال “موحى أوحمو الزياني”، مِنَ الذين يشهد لهم التاريخ بالجهاد والبطولات،غير أن أقول لهم: دمتم أحياء في صفحاتي أنتم الأموات.

* تعرفين كذلك في الوسط الأدبي المغربي، بكونك شاعرة، ولك في هذا الباب بعض الكتابات الشعرية باللغة الفرنسية والعربية، من بينها ديوانك الشعري “أمل”، وهو كتاب يجمع بعض أشعارك ولوحاتك التشكيلية، كما يجمع بين الحقيقة وواقع الحياة، كما قال عنه أحمد السنوسي. فهل لك أن تقربينا قليلا من الإطار العام لتجربتك الشعرية؟

** بداية، أشير إلى أنني لا أعتبر نفسي شاعرة، وإنما من هواة الشعر، ولازلت أذكر الشعراء الكبار الذين درسناهم في المدرسة، كالمتنبي والمعري وأحمد شوقي… كان شعرهم يستهويني بمعانيه وموسيقاه، رغم أنني كنت أجد صعوبة في فهم بعض الأبيات الشعرية وقتئذ لهؤلاء العمالقة. أستمتع كثيرا بالمبارزة الشعرية وأميل إلى الشعر الحر، الذي لا يتقيد بشروط الشعر وقواعده الصارمة. 

 أنا بطبعي لا أحب القيود، وأحب أن أكتب بحرية مطلقة، الشيء الذي جعلني ربما أختار هذا النوع من الشعر. فأنا أكتب بحرية كل ما يلوج بخاطري، وأستمتع بالرونق الموسيقي وجماليته، وبالتناسق الذي أنهي به كل بيت شعري لقصيدتي. فديواني الشعري “أمل”، مثلا، مواضيعه مختلفة باختلاف الظروف التي كتبت فيها كل قصيدة، ولكل قصيدة جماليتها التي تكمن في صدقها وحكايتها لواقع معيش.

…ولفن الطبخ حكايات

* من بين اهتماماتك الأخرى التي تثير الانتباه في تجربتك الثقافية عموما، اهتمامك الخاص واللافت بأمور الطبخ والمطبخ، وقد صدر لك في هذا الباب كتاب عن الطبخ من صنف الكتب الجميلة. فكيف تولدت لديك فكرة الاهتمام بالطبخ العالمي، بشكل عام، والمغربي بشكل خاص، بما هو اهتمام فريد في تجربتك، يثير انتباه المتلقي واهتمام الأوساط الثقافية؟

** اهتمامي بشؤون الطبخ، جاء من التربية التي تلقيتها ومن المحيط الذي نشأت فيه. فأنا أنتمي إلى عائلة تقدس الاهتمام بالضيف. فمنذ صغري كنت ألاحظ كيفية استقبال الضيوف. تجري العادة بأن يقدم طبق واحد مثلا في وجبة الغذاء. فإذا جاء ضيف، تكسر هذه العادة بفرحة كبيرة، حيث يُؤمر بإحضار طبقين آخرين. جرت العادة في الماضي، في منطقة “الأطلس المتوسط”، وبالخصوص في مدينة خنيفرة التي أنحدر منها، أن تقدم ثلاثة أطباق للضيف: المشوي، والطاجين ثم الكسكس، وهذه العادة ليست عامة، فهي تختلف حسب الطبقات الاجتماعية وفوارقها المادية، رغم أن السخاء قاسم مشترك بين ساكنة المنطقة.

فن الطبغ من أهم انشغالات الكاتبة فاطمة أمحزون

أريد أن أقول لك شيئا، ولكن ليس من باب الافتخار أو التباهي، فهذا ليس من شيمي: في زمان جدي “موحى أوحمو الزياني”، كان من الواجب تقديم اثني عشر صنفا من الأكل للضيف، فلكل ضيف مقامه ولكل مناسبة شروطها ولوازمها. وأبناء جدي الذين يعتبرون أعمامي، وهم الباشا حسن والقائد أمهروق والقائد باعَدي بالخصوص، كان كرمهم يصل إلى أبعد المدن المغربية وخارجها، مثل أبيهم. كم تمنيت لو كانوا حاضرين في زمن “الفاستفود” هذا!!! بالطبع إنها العولمة…

لقد كانوا يقومون بذبح ما بين 40 إلى 60 خروف في اليوم، لكثرة القبائل والضيوف التي يستقبلونها. وكان الطعام آنذاك يحل بسهولة العديد من المشاكل. فهو رباط مقدس…

هكذا، كان اهتمامي بالطبخ أمرا محسوما، إذا أردت الاحتفاظ بأصول الضيافة. لكن لم أُرغم يوما ما على تعلم الطبخ، وإنما اكتشفت أمي بالمصادفة أن لدي موهبة، حيث كنت أقلد النساء المساعدات في المطبخ وأتحداهن، رغم صغر سني، بفعل ما كن يقمن به ويهيئنه من طعام. وكنت أرغم نفسي على إنجاح المهمة على أكمل وجه رغم صعوبتها.. إنها العزيمة…

بالنسبة لكتابي المصنف في قائمة “الكتب الجميلة”، كما ذكرتم، فهو مزيج من الطبخ المغربي والطبخ العالمي. ولهذا الكتاب قصة، كما لكل شيء سبب. كنت أقطن في فترة من حياتي بمدينة باريس مع زوجي الذي كان في مهمة دبلوماسية لبضع سنوات. وبحكم وظيفته، كنا نستقبل شخصيات أجنبية من السلك الدبلوماسي لعديد من البلدان، وكانت باريس وقتئذ أكبر مدينة تشكل تمركزا لعدد من البلدان من مختلف أنحاء العالم. بعد مرور ثلاث سنوات، قضيتها في التعريف بالثقافة المغربية، وبالخصوص الطبخ المغربي الأصيل، نُسجت صداقة حميمية بيني وبين صديقات كن ينتمين إلى السلك الدبلوماسي لمجموعة من البلدان، من قبيل: تركيا، انجلترا، النمسا، كندا، الولايات المتحدة الأمريكية، الشيلي، فنلندا… وكنا نشكل فريقا متحدا، ونمارس نفس الأنشطة التي كانت تقدمها خلية بوزارة الخارجية الفرنسية لزوجات الدبلوماسيين، ومن ضمن هذه الأنشطة، كانت فقرة الطبخ. كانت كل واحدة منا تستضيف المجموعة، وتقدم أمامها كيفية تحضير الطبخ الأصيل لبلدها.

لما جاء دوري، وكن قد تعرفن بعد سنتين على الطبخ المغربي، قدمتُ لهن أطباقا أبدعتها شخصيا، وكانت مزيجا من مكونات طبخ مغربية وأخرى أجنبية. كان الهدف من هذا المزيج، هو متعة الاختراع الذي ألفتُه منذ صغري، وتقريب المطبخ المغربي للأجانب. وكانت المفاجأة، أنهن جميعا قد أجمعن على فكرة الكتاب وتدوين كل الأطباق التي أبدعتها. كان ذلك سنة 2004/2005، وقد صدر الكتاب سنة 2006، وهو اليوم على رفوف المكتبات. ومن خلال عنوانه الذي يتضمن كلمة أمازيغية، وأنا في مهرجان الطعام بمدينة “ليل” الفرنسية، كنت أسأل: هل كتابك هذا حول الطبخ الأمازيغي؟ ومن هنا جاءت فكرة كتابي الثاني، أسرعت فورها بعد رجوعي إلى المغرب قادمة من هذا المهرجان، إلى المكتبة الوطنية للمملكة المغربية، بحثا عن كتب الطبخ الأمازيغي، غير أني لم أعثر على شيء للأسف الشديد، فعزمت حينها على تدوين 65 طبق أمازيغي محض، هي في طور الاندثار…

للمحجوبي أحرضان فضل كبير في مساري الفني…

* يحتل التشكيل جانبا أساسيا في اهتمامك وممارستك الفنية، في تنوعها؛ فقد سبق لك أن عرضت أعمالك التشكيلية في بعض أروقة الفن التشكيلي، من غير أن ننسى، هنا، الإشارة إلى طبيعة علاقتك الفنية والإنسانية الخاصة بالفنان التشكيلي المغربي الكبير، الراحل المحجوبي أحرضان… فهل لك أن تقربينا قليلا من هذا الاهتمام الفني لديك، ومن طبيعة تلك العلاقة الفنية التي جمعتك بالفنان أحرضان وبأعماله الفنية؟

** بالنسبة للفن التشكيلي، فالقدر يلعب دوره في بعض الأحيان لنهج طريق ما والوصول إلى الآفاق التي رسمها لنا الخالق. فلو لم ألتق بالفنان الكبير المحجوبي أحرضان، لما اكتشفت شخصيا أن لي هذه الموهبة الفنية. كنت أؤمن بأن الشهادات المخولة من المدارس العليا هي التي تصنع الموهبة، كم كنت مخطئة !!!

كان زوجي من محبي الفنان المحجوبي أحرضان. استدعاه يوما إلى المنزل سنة 2012، فاكتشف موقع منزلنا الذي يطل على مدينتي الرباط وسلا، في مشهد أخاذ، وأعجب بغروب الشمس الذي سيداوم عليه كلما زارنا، عائدا من مدينته “والماس”. كان يحتسي القهوة، وهو يتأمل جمال الطبيعة قبل أن يعود إلى بيته. سيجد في إحدى زياراته بعضا من رسوماتي وأشعاري فوق الطاولة. نظر إلى رسوماتي، ثم قرأ بعض أشعاري، فسأل زوجي باستغراب لمن هذا كله؟ أجابه: لزوجتي فاطمة. أحقا، رد المحجوبي أحرضان، ليكمل: إنها تحمل حسا فنيا جميلا…سيهنئني على عملي الفني، وفي زيارته الموالية سيقدم لي هدية، قائلا: هذا عمل لم أكمله، أرى تشابها بيني وبينك، خذيه واكمليه! اندهش الحاضرون في تلك الليلة من فعله. كانت فعلا المفاجأة، حين أكملت اللوحة التي كانت مرسومة بالحبر الصيني. أسرعت بعدها إلى بائعي لوازم الفن التشكيلي من ألوان وفرشاة وقماش… أعددت سبع لوحات وقدمتهن للفنان أحرضان، ليجيبني: أنا لما بدأتُ، لم أفعل ما فعلتِ… نظرتُ إليه وقلت أترميني سيدي بالورد؟ أجاب برنة جدية: أنا لا أرمي أحدا أبدا بالورد. تيقنت ساعتها من تقاسيم وجهه أني محظوظة، لما حظيت به موهبتي من اهتمام، من قبل عملاق الشعر والفن التشكيلي في المغرب، فكانت تلك، بعد ذلك اللقاء، هي البداية، وكان بعدها إحداث ورشة للعمل والمداومة عليها. 

* تبعا لانجذابك هذا نحو الفن التشكيلي، اهتماما وممارسة، ولمتابعتك لمنجزاته في بيئتنا الفنية المغربية، كيف تقيمين اليوم الوضع العام للفن التشكيلي بالمغرب، أمام تزايد الفنانين وذيوع منجزهم الفني في الساحة الفنية المحلية والعالمية؟

** لقد خطا الفن التشكيلي خطوة كبيرة، منذ إنشاء “متحف محمد السادس للفن الحديث والمعاصر” سنة (2014)،على مستوى تقريبه من الجمهور والتعريف به، وطنيا ودوليا، من خلال إقامة معارض لأعمال فنانين تشكيليين مقتدرين، وفسح المجال أمام تبادل مواهبهم مع فنانين أجانب، حيث يمكنهم هذا الفضاء، الذي يعتبر لبنة أساسية في بناء وتقوية جزء كبير من البنية التحتية الثقافية المغربية، من استكشاف العديد من التيارات الفنية المختلفة، والتي تعد مصدر إلهام لأي فنان، سواء كان عصاميا أو أكاديميا. ناهيك اليوم عن دور مواقع وشبكات التواصل الاجتماعي التي أصبح العالم بموجبها قرية صغيرة، يعرض من خلالها الفنان أعماله، ويتقاسم مواهبه مع فنانين خارج البلاد، ويتفاعل افتراضيا معهم. فلهذه المؤسسة دور كبير وفعال في تشجيع الفنانين الموهوبين، وفي حفظ التراث وتقاسمه مع الزوار. فهو مركز غني بالأنشطة التي يقدمها، ومن بينها، على سبيل المثال لا الحصر، بينال الرباط، وهو أول بينال يقام بالمغرب، والذي شاركت فيه بالمناسبة بقصيدة شعرية، ترجمت إلى الأمازيغية حول موضوع فلسفي، بعنوان “لحظة قبل الكون”، فهذا البينال جمع في برامج ولقاءات شيقة، غنية ومختلفة، بين فنانين من مختلف أنحاء العالم، فلولا هذا الفضاء لما كان هذا الحدث.

الفنانة فاطمة أمحزون في مرسمها

يبدو، من خلال ما سلف ذكره، أن ثمة ملاحظة ملموسة، فواقع الحال يستوجب إنشاء العديد من هذه الفضاءات وتعميمها في جميع المدن المغربية. فالمغرب بلد غني بالمواهب والمبدعين، والكثير منهم ليس معروفا بعد، وهذا يرجع أولا، في اعتقادي، إلى عدم وجود كُفلاء للفنان، كما يرجع أيضا إلى دور الإعلام  ووزارة الثقافة؛ إذ  يجب على هذه الأخيرة ألا تقتصر على الدور الذي تقوم به الآن، فإذا أردنا أن  نحلق بهذا الفن بعيدا، يجب وضع
لائحة لكل من لهم ذرة إبداع في جميع مناطق المغرب، وبالتالي مساعدتهم معنويا وماديا، لأن مستلزمات الفن التشكيلي باهظة الثمن، والعديد من الموهوبين هم من الفئات الهشة من المجتمع، وبسبب الفقر تبقى مواهبهم حبيسة وطنيا، فكيف بها أن تذهب إلى العالمية…

فرغم ما ذكرته من دور مواقع التواصل الاجتماعي في إشاعة التواصل عبر العالم، فهذا لا يكفي. يجب كذلك على وزارة الثقافة أن تدعم وتمول سفر الفنان التشكيلي إلى الخارج، لعرض عمله، ومساعدته على اكتساب الشهرة، واستدعاء فنانين أجانب إلى المغرب، لكي يحقق الفنان المغربي التفاعل المباشر مع اللوحة التي تعتبر دائما مصدر إلهام. فالإنسان بطبعه يبحث دائما عن هذا الإلهام، وهو مرهون بالتطور عبر الزمان.

فقد كان إنسان فن ما قبل التاريخ، يرسم الحيوانات وما تراه عينه جميلا، على الصخر، ومع مرور وقت طويل، تبلور هذا الفن وتجدد وأعطى أشكالا كثيرة ومختلفة، وبعد النهضة بالخصوص، اكتُشفت تيارات كثيرة في أوروبا، كل تيار يكون مصدر إلهام لظهور تيار آخر، رغم أن لكل واحد منها ظروفا وأسبابا اجتماعية وسياسية واقتصادية وتربوية لظهوره، وهكذا نجد التيار الكلاسيكي، والباروك والروكوكو، والدادييزم، والكوبيزم، والبوانتييزم، والسيرياليزم، والرمونتيزم، والسمبوليزم، والغياليزم، والناتوغاليزم… أعني بهذا أن الفنان، بما فيه ذلك الفنان الذي اكتسب موهبته بالفطرة، وله طابعه وأسلوبه الخاص، يجب أن يخوض في كل هذه التيارات  ليُلهم ويُبدع وينوع ويبهر أكثر فأكثر في زمانه.

هكذا، يسري على معظم الفنانين التشكيليين في المغرب، ما يسري على بعض الفنانين التشكيليين في العالم. فبنظرة تشاؤمية، والتي يفرضها واقع الحال لدى بعضهم، نجد أن هذا الميدان فيه عثرة بالنسبة لهم؛ إذ نجد أن أغلبهم ليسوا محظوظين، أهو القدر؟ لا أدري، الكثير يموتون بالحسرة، ولا تشتهر أعمالهم، وتباع بأثمنة باهظة وخيالية بعد موتهم، فهناك مثلا فونكوف الفرنسي الذي قطع أذنه، والمغربي جيلالي غرباوي الذي توفي على مقعد بسبب الإدمان، بـ “شون دومارس” بباريس، ومودي كلياني الإيطالي..  وهناك من ساعدهم الحظ واشتهروا منذ البداية، وأحرزوا على ميداليات، ووصلوا إلى العالمية بسرعة، وهذا ما أتمناه لكل فنان مغربي. فرسالة الفن التشكيلي في بلدنا رسالة علم، وثقافة، وتاريخ، وجمال، ونبل واستمرارية عبر الزمن، فالفنان ليوناردو دافنشي لا زال حيا بالموناليزا، وما أجملها من شهرة وبصمة بارزة، تضيء سجلات تاريخ الفن التشكيلي الإيطالي.

الأمازيغية اليوم توجد في حالة نقاهة

* تنحدرين من أصول أمازيغية، ولهذا فأنت تجيدين التحدث باللغة الأمازيغية، ولك، في هذا السياق، علاقات وطيدة مع “المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية”.. فكيف تنظرين إلى وضعية اللغة الأمازيغية اليوم، في المغرب، بعد أن تمت دسترتها سنة2011، باعتبارها لغة رسمية للبلاد إلى جانب اللغة العربية؟

** المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية له علاقة وطيدة مع كل المغاربة والأجانب، الذين لهم اهتمام بهذا الموروث الثقافي، وبابه مفتوح للجميع، وهو يشجع، من خلال تجربتي معه وبدون استثناء، كل الشباب والفنانين والمبدعين والكتاب والشعراء. فجزيل الشكر لصاحب الجلالة محمد السادس الذي قام بإنشائه سنة 2001، لما له من بصيرة لخلق مجتمع مغربي متوازن.

فاللغة الأمازيغية التي أتحدث بها، هي طبعا إلزامية، في الحديث مع أمي مثلا، لأنها لا تطيق التحدث بلغة أخرى، ليس من باب العنصرية، وإنما احتراما لهويتها التي نشأت عليها. فهذه اللغة لم تعد اليوم مسألة سياسية، بل ضرورة لحياة فئة كبيرة من المجتمع. فتعلمها حق لكل مواطن مغربي، بحكم أنها موروث ثقافي يجب الحفاظ عليه والنهوض به، ودسترتها يعتبر بمثابة إعادة الحق لكل أمازيغي لا يتكلم سوى الأمازيغية. 

* هل يفهم من كلامك، أن الأمازيغية اليوم هي في وضع صحي، أم أن الباب لازال مفتوحا لدعمها، لغة وثقافة وإنتاجا، بعد كل ما عانته سابقا من تهميش واستبعاد، رغم كونها أحد أهم روافد الهوية المغربية؟

** أنا لا أقصد ذلك، دعني أقول لك شيئا، هل من العدل أن يذهب شخص لسبب ما إلى المحكمة، ويقف أمام قاض لا يفقه حرفا في الأمازيغية، ويحكم في قضية تحدد مصير إنسان، وفي بعض الأحيان تغير قدره إلى الأسوأ، وأنتم تعرفون أن في مجال القضاء، كلمة واحدة قد تغير تماما المعنى المراد قصده، فليس هناك مترجمون محلفون كما هو الشأن في دول أخرى. فرغم أن هناك قرارا يجيز الاستِـعانة بمترجمين إلى الأمازيغية بالمحاكم، لكنه يبقى حبيس التطبيق وبدون جدوى. وهذا ينتج عنه خيبة أمل كبيرة، دون أن نتحدث عن قطاعات الصحة والتعليم والإدارة العمومية… فالأمازيغية خطت فعلا خطوة جبارة منذ دسترتها وإنشاء المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، لكن ما زال المشوار طويلا أمامها ليتحقق الرهان وتستكمل الأمازيغية مسار ترسيمها، وهذا ما تصبو إليه فئة كبيرة من المجتمع. فالأمازيغية اليوم، في نظري، ليست في وضع صحي جوابا على سؤالكم، وإنما هي في حالة نقاهة…

Related posts

Top