ذكرى الغيطاني

ثمة أقوال لا تنمحي من الذاكرة، ولا تلبث أن تجدد حضورها بمناسبة وبدون مناسبة كذلك، وكلما استحضرت اسم الكاتب المصري الراحل جمالي الغيطاني، لا تحضرني عوالمه الروائية والقصصية ولا مشاريعه الثقافية الأخرى، من قبيل الجريدة الأسبوعية أخبار الأدب وما إلى ذلك، بقدر ما تلح على ذاكرتي أقوال بعينها كان قد تلفظ بها صاحب أوراق شاب عاش منذ ألف عام، في إحدى اللقاءات الصحافية، ولهذه الأقوال ارتباط بموته، لم يتلفظ بها وهو على فراش الموت أو المرض مثلا، بل في منتصف العمر، مما يعني أن هذا القلق الوجودي صاحبه طويلا، وعلينا أن نعود إلى كتاباته لكي نكتشف أن ما أنجزه من أعمال أدبية وإبداعية ليس سوى شكل من أشكال قهر هذا الشبح الذي لازمه طويلا، علما بأن له مذكرات منشورة يتحدث فيها عن هذه التجربة بالذات.
ربما أمكن لنا القول إن أي مبدع أو مفكر، يقوم بهذه الممارسة لتحقيق نوع من الخلود، الذي ليس سوى المقابل الضدي للموت.
من أقوال جمال الغيطاني التي لا تخلو من طرافة وإن كانت تتناول عنصرا له بعد مأساوي، هو الموت:
«أنا حزين لأنني سوف أموت»
وكذلك سؤاله الوجودي المحير الذي طالما تأملته دون أن أعثر له على إجابة مقنعة:
«امبارح راح فين»
بمعنى: أين ذهب أمس؟
عندما يقوم الكاتب الراحل، صاحب التجليات والزيني بركات، ودفاتر التكوين، بالحفر في التراث الثقافي والحضاري ويخلق منه نصوصا إبداعية، مع محاكاة الأساليب الفنية التي كانت سائدة في تلك الأزمنة الغابرة، ماذا يعني هذا؟ إنه سعي إلى قهر الموت في حد ذاته، هناك من يمارس هذا النوع من التحدي، من خلال القيام بالعكس من ذلك، أي الكتابة عن المستقبل، أو ما يسمى بالخيال العلمي. تعددت أشكال الإبداع والموت واحد، إذا شئنا أن نقوم بتحوير البيت الشعري الشهير. وقد كرس للموت كتابا بعينه، هو مقاربة الأبد.
«أين ذهب أمس؟»
هذا النوع من الأسئلة القلقة والمؤرقة، الذي تلفظ به الغيطاني ذات يوم، كان له بالتأكيد تأثير على سلوكه اليومي، ونظرته إلى الحياة، التي دأب أحد الأدباء الأصدقاء بالقول عنها إنها لا تساوي جناح بعوضة، داعيا الجميع إلى الضحك عليها.
الذي يطرح أسئلة وجودية من هذا القبيل، لا بد أن يكون قلقا، ويترتب عن ذلك سلوك معين؛ فقد أشار إلى أنه صار يهتم بالجزئيات الصغيرة التي تبدو تافهة للبعض، لكنها تحقق له متعة كبيرة لا يمكن لأحد أن يتصورها، خصوصا عندما صار يشعر بالوهن، بالنظر للتقدم في السن، هو الذي سافر كثيرا وغامر كثيرا وخبر الحياة جيدا وكان قريبا من خط النار خلال أداء مهمة مراسل صحافي حول الحرب ضد إسرائيل.
ارتباطا بقلق الموت، الذي لم يتردد في القول بصريح العبارة إن مجرد التفكير في أنه سيموت حتما، يسبب له حزنا، وأي حزن، إنه الحزن على مفارقة هذه الدنيا، إنه سفر ليس كالسفر.
ارتباطا بقلق الموت الذي ظل يسكنه، أذكر استطلاعا كان قد نشر في إحدى المجلات، حيث قرر أن يمضي ليلة بكاملها داخل أغوار أحد الأهرامات حيث أماكن دفن الفراعنة، وتصورت أنه كان يرغب من خلال هذه التجربة المثيرة، أن يعيش تجربة الموت والتوحد معه والحلول فيه.   
لم تتح لي الفرصة للالتقاء بهذا الكاتب، سوى مرة واحدة، وكان ذلك أواخر التسعينات في ما أذكر، بالمديرية الجهوية لوزارة الثقافة بالدار البيضاء، بمناسبة ملتقى عتبات الذي كانت تنشطه كلية الآداب بنمسيك، وارتبط هذا اللقاء بحدث طريف، لا أذكر غيره، سيما وأنه جعلني أعيش لحظات جد حرجة؛ فقد كنا ننتظر انطلاق الندوة، خارج القاعة، بالنظر إلى عدم التزام المنظمين بالمواعيد المسطرة في البرنامج، كان برفقتنا الكاتب المغربي ميم جيم، الذي كان معروفا بابتلائه طلب النقود من كل من يصادفه في طريقه، الله يعفو عليه، إلى حد أنني لا أتصور أديبا مغربيا التقاه دون أن يطلب منه النقود، وكان في تلك الأثناء يخاطب الغيطاني بصوته المخمور، ولا أظن أن ضيفنا الكبير قد فهم شيئا من كلامه سوى أنه كان يتحدث إليه بجرأة مبالغ فيها، كأنه ترعرع معه في الحي نفسه، وعند ذاك بدأت أخشى أن يتجرأ ويطلب منه بعض النقود كما يفعل مع سائر الأصدقاء، ولذلك تسللت إلى داخل القاعة، حتى لا أجد نفسي في موقف حرج.
[email protected]

*

*

Top