سأكتفي بالبقاء …

ثمّة كلمات عابِرة تقالُ وتنتهي،

إنها تشبه قارِبًا صغيرًا، يبدو للعَيانِ أنه يطفو على أسطُحِنا بسلام، لكنه في الحقيقةِ يغرَق، يغرق في أعماقِنا ويختَرِقُ أرواحنا الشفّافة.

وفي كل مرة أحاول فيها التخلص مني، أجد أنني ألتصق بي أكثر ..

لا سبيل لإهمالي بأي طريقة أو حتى نسياني لبعض الوقت ..

لم أخبرني أنني أفهم لومي وعتبي وغيرتي المبالغ فيها أحيانا.. لم أخبرني أني أقرأ صمتي ولغة جسدي وكل رسائلي التي لم أرسلها.. قرأتها حرفا حرفا وكلمة كلمة ..

وأكثر من هذا أنا أفهم حتى مالا أود قوله …

.. أفهم ما أخشى البوح به أمام نفسي ..

لم أخبرني أيضا أنني مصابة بفوبيا الحب ..!

لذا فأنا لا أقترب منه بتاتا وأهرب حين أحس أن ثمة شخص يحبني ..

بإمكاني أن أكون شجاعة في نظري.. وأمطرني بكلمات عشق لا تنتهي وأعدني أني سآخذ بيدي للفردوس وأدخلني للجنة من أوسع أبوابها..

بإمكاني إيهامي أنني بطلتك المنشودة وفارسة أحلامي المفقودة والمرأة التي ليس بعدها امرأة.. والمتيمة التي تجيد حياكة أثواب الغزل والعزف على أوتار قلبي ..

بإمكاني أن أقلب حياتي رأسا على عقب.. وألون دهاليز نفسي المعتمة وأفصح لك عن رغبتي فيك.. رغبتي غير المبررة لا لشيء إلا لأني مهتمة بجثة مثلي ..

بإمكاني زرعي في كتفي.. في عنقي.. في صدري لكني عاجزة على أن أزرعني بقلبي ..

عاجزة على أن أطفأ شمعة ربيعي.. وأهبني شتاء لا ينتهي ..

عاجزة عن سلبي ابتسامتي..عفويتي وسذاجتي التي تأسرني ..

عاجزة على إيهامي بأني الشخص المناسب في المكان المناسب ..

لطالما كنت الشخص الخطأ.. في المكان الخطأ.. وخذلت كل من حولي.. لطالما كنت بطلة النهايات الفاشلة بامتياز ..

لا أريد لكل هذا أن ينتهي.. ولا أريده أن يستمر أيضا.. لا أريدني أن أبتعد ولا أن أقترب.. وأعلم أن البقاء في المنتصف لهو أمر رهيب ! وأعلم أنني معلقة بين السماء والأرض.. يتدلى عنق أفكاري في فراغ مميت ..

لكن ما حيلتي وأنا غير قادرة على فهم نفسي ولا فهم أي شيء مما يدور حولي ..

.. أيتها الملعونة إني بكل ما أوتيت من بؤس وشؤم وتعاسة لا أريدني أن أتذوق الشقاء .. ولا أن ألعنني يوما وأشتم خيالي في ذاكرتي ..

إني بكل ما أوتيت من جروح وطعنات وخيبات وخذلان لا أريد لعينيي الجميلتين أن تذرفا أسى وفراقا.. لا أريد لقلبي الدافئ أن يمتلأ ألما ويعتصر كمداا.. لا أريد لهذا أن يحدث ولا أريدني أن أختفي وكأنني لم أكن من قبل ..

لا أتخيلني أنسحب خلسة مني وأختفي للأبد ..

لا أحسب أنني أصدني عني أو أقطع آخر خيوط الأمل ..لأنه من البداية لم يكن هناك أمل ..لم أحلم بشيء وما اعتدت الوثوق بالأماني والعيش على انتظار المستحيل ..

أنا فقط أريد مني ان أبصر الحقيقة ..وأن أضع يدي عليها و أن أستشعر لفحة الغياب إن زرتني يوما …

أريد أن أعتاد على النوم دون الحاجة لتوديعي ..وعلى الاستيقاظ دون رغبة في البحث عني..

لا أعدني بشيء يا أنا.. وأبدا لن أفعل ..

بالرغم من كل هذا التناقض.. أشعر بوجودي وأريدني سعيدة ولو كذبا …

ذلك عزائي الوحيد لكي لا أشعر بالذنب اتجاهي !

لحظات عابِرةٌ لكنها ثقيلة، وقد تكونُ أثقلَ من جبَلٍ حزين.

إنها تخرجُ من أفواهِ الذاكرة هكذا، مُغلَّفةً بقناعِ العفَوية أو النصيحة، مُعلَّقةً على شَمّاعةِ الحزن .

لحظات مسحوبة بعباراتٌ حادّة الأطرافِ كالنَصل، تَصفَعُنا بقوة. إنها تُقالُ وتُنسى، تُقالُ ثم تُرمى في حاويةِ الماضي. لكنها تَقتُلُنا بلا قصد، تقتُلُنا وتمُرُّ مرور الكرام.

إن الزَمنَ يَخونُني كل يَوم، ذلك أنه يَغدو أكثرَ تَفاهةً وأشَدَّ حُمقًا.

وآآه كم أشتاقُ إلى تلك الرسائلِ الوَرَقية، إلى الحُبِّ البَريءِ المُختَبئِ خلفَ الأبوابِ والجُدران

أشتاقُ إلى وَشوَشةِ تِلفازِنا القَديمِ وهو يُعلِنُ انتِهاءَ يومٍ آخر، إلى جَلساتِ العائلةِ ومُسامَراتِهم الشِتائيةِ الدافِئة، إلى تَجَمُّعاتِ الأصدقاءِ تحت الأغطيةِ وبينَ أكوامِ الوَسائِد. كانَت المُتعةُ والرَفاهيةُ لا تأتينا إلا باقتِصاد،

ورغمَ ذلك كنا سُعَداء.

كم أشتاقُ إلى تلك الشَوارعِ التي حَفِظنا مَلامِحَها عن ظَهرِ قَلب، أشتاقُ إلى كل دِهليزٍ وزُقاقٍ شَهِدَ على طُفولَتي القَصيرة.

أشتاقُ إلى مَدرَسَتي، إلى صوتِ الجَرَسِ الذي يُعلِنُ عن إطلاقِ سَراحِنا مُؤقَّتًا، إلى الطاولاتِ والكَراسي التي سَمِعَت ضَحِكاتِنا طَويلاً. لقد ظَنَنتُ أن الزمنَ سيَسيرُ بوَتيرةٍ أبطأ، ظَنَنتُ أن الوقتَ سيَمنَحُني بعضَ الوقت، لكنه مَرَّ دون أن يُخبِرَني،

مَرَّ ونَسيَ أنني ما أزالُ تلك الطِفلة البريئة. شَيءٌ ما في داخِلي لم يَتَغيَّر، ولن يَتَغيَّرَ أبدًا.

فمعاً أنا وذاتي يمكننا ألا نتحدث كثيرا..

أو نصمت بالرغم من سيل الأحاديث العارمة التي تنفجر بداخلي دون الحاجة للنطق بها..

معاً يمكننا أن نكره أنفسنا أكثر.. أن نحقد على الحب والحياة وعلى الزمن الذي يتحول إلى خناجر تغرز بقلبنا وتقطع شرايينا..

لا يمكننا تخيل سعادة أكبر من هاته بل ليس بمقدورنا البحث عنها أساساً ..

سنكتفي بالبقاء في هاته اللحظة حتى نستشعر بألمها، إن الألم هو السعادة بالنسبة لي بل لنا..

إننا أعداء البوح المسموع..

ذلك الذي يصدر ضجة ويفسد هذا الهدوء الذي يغشانا في هاته اللحظات..

إننا نتحدث أنا وذاتي بلغة لا يفهمها سوانا.. أنا وأنا فقط.. يمكننا قتل الجميع وتقبيل شفاه الموت الغليظة..

معاً يحدث أن نهجر روحي المسكونة بالفجيعة ونهرب من أنفسنا للمرة الأخيرة..

ونقسم ألا نعود مجددا..

نهرب فقط، فقط دون أن نحمل حقائبنا المليئة بالوجع..

ولن أفكر بالعودة إلى ذاتي أبداً !

بقلم : هند بومديان

Top