استطاع الكاتب المغربي عيسى ناصري أن يصل بروايته “الفسيفسائي” إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية برسم دورة 2024. في هذا الحوار، يحدثنا عيسى عن خصوصية هاته الرواية، التي جمعت بين التخييل والوقائع التاريخية. معتبرا أن الغرض من استحضار التاريخ هو عصرنة الفكرة، أي إعادة إثارة أفكار قديمة لكن بصور جديدة. كما يحدثنا عيسى، أيضا، عن المكانة التي أصبح يحتلها الأدب المغربي في الساحة الأدبية العربية، حيث برزت الرواية المغربية في العشر سنوات الأخيرة ضمن لوائح الأفضل عربيا، ومن بين هاته الإصدارات نجد: “ممر الصفصاف” لأحمد المديني، “نوميديا” للبكاري، “طائر أزرق نادر يحلق معي” ليوسف فاضل، “المغاربة وثورة الأيام الأربعة” للجويطي، “الملف 42” لسباطة..
فيما يلي نص الحوار:
> بداية، ماذا يمثل لكم الوصول إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية برسم دورة 2024؟
< يمثل خطوة موفقة في غمار الكتابة الروائية، خطوة تسعدني، وأعتز بها، بقدر ما تُشعرني بالمسؤولية. هذه المحطة ليست محطة وصول، بل نقطة عبور. إنها مدخل إلى مسار طويل وشاق نحو إبداع أكثر نضجا، وأكثر وعيا. أي أنني لم أعد أكتب لنفسي، فالكاتب الذي يصل إلى البوكر يكتب لقارئ يبحث عن الجمالية والمتعة والعمق والنوعية. أي أنه بعد محطة البوكر، تصبح الأضواء مسلطة أكثر على ما سيكتبه مستقبلا.
> البعد التاريخي كان حاضرا في روايتكم، خصوصا في التاريخ القديم، وبالتحديد الفترة الرومانية. سؤالي هو كيف وفقتم بين البعد التاريخي والروائي؟ خصوصا وأن التاريخ يحتاج لكثير من التدقيق في الأحداث.. وكيف تعاملتم مع المراجع، لأننا كما نعرف، قراءة الروائي للمادة التاريخية ليست هي نفسها قراءة المؤرخ؟
< أرى أن التاريخ من الروافد المهمة التي يستقي منها الكاتب مادته الإبداعية، عن طريق إعادة كتابته (التاريخ) روائيا، أي أننا نسد البياضات، ونحاول أن نعطي هامشا للتخييل بالموازاة مع الوقائع التاريخية. وأحب أن أشير هنا، إلى أن الرواية التاريخية لا تكتب تاريخ المنتصر عكس المقولة الشهيرة "التاريخ يكتبه المنتصر"، لكن بالنسبة لي، فقد كتبت التاريخ من زاوية المنهزم. خصوصا أن الموريِّين راكموا هزائم عدة مع الرومان، لكن في الأخير الرومان، أيضا، انهزموا مع الوندال الذين اقتحموا شمال إفريقيا وأطاحوا بالحكم الروماني. وارتباطا بموضوع حضور التاريخ في الرواية، بالنسبة لي، فالغرض الأول من استحضار التاريخ هو عصرنة الفكرة، أي إعادة إثارة أفكار قديمة لكن بصور جديدة، كالاضطهاد، الحرية، المقاومة.. وهنا يكون الهدف من التاريخ التوسل به للتعبير عن قضية ما أو فكرة ما أسعى إلى إثارتها مع تعميق أسئلتها، والنظر إليها بعين جديدة. طبعا مع الأخذ بعين الاعتبار المادة التاريخية. الغرض الثاني، هو وضع التاريخ في حلة جديدة مغايرة لحلته الحقيقية، عبر عنصر الخيال، أي أنني أعتمد على المادة التاريخية، وأعيد تركيبها. أحب أن أشير في هذا الصدد، إلى أنني اعتمدت على مجموعة من المراجع من بينها: تاريخ الإمبراطورية الرومانية السياسى والحضاري لسيد أحمد علي الناصري، الأسلوب الروماني في الأدب والفن والحياة لأديث هاملتون، الإمبراطورية الرومانية من النشأة إلى الانهيار لأحمد غانم حافظ، إضافة إلى فن الفسيفساء الروماني لعبير قاسم.
كان لا بد من الاطلاع على هاته المراجع لتكوين فكرة عن اللباس ونمط العيش. لكن المراجع وحدها لم تكن كافية، لأننا نتحدث عن التاريخ القديم، المليء بالثغرات التاريخية. ككاتب، لجأت إلى التخييل ولكن ليس عبثا، إذ اعتمدت على القياس، كمِثال في "ليكسوس" بنواحي العرائش، التي لا تفصلها عن وليلي إلا كيلومترات معدودة، هناك نموذج لمدرج روماني عاينته حينما ذهبت إلى هناك، كان خاصا بالعروض، واستنادا إلى هذا المثال، تخيلت أن في وليلي أيضا ما يُعادل هذا النوع من المدرجات (ولو أنها غير موجودة فعليا) التي تستعمل للفرجة والاستعراضات. فقمت بتَخيّل منصة مسيّجة يَمثُل فوقها المساجين فَتُطلَق عليهم النمور الضارية. بمعنى أن البياضات يجب أن تكون مبررة ومقنعة. كما أنني قمت بزيارات ميدانية عديدة لموقع وليلي الأثري. لمست الحجارة وتفقّدت الفسيفساءات، واستنشقت رائحة المكان، ومعها رائحة الزمن الروماني الآفِل. لقد اندمجتُ مع ذاك الفضاء كما لو أنني كنت أعيش في تلك الحقبة. اطلعت أيضا على مجموعة من الأفلام التاريخية التي أعطتني صورة مهمة عن الحقبة. في النهاية، كان الأمر صعبا، لكنه كان تحديا مثمرا ومفيدا.
أظن أن ما يثير القارئ في قصة تاريخية لا تنتمي لزمنه، هو المشترك الإنساني الذي كان عند الإنسان القديم، وما زال عندنا الآن، وهو ما يجعله يتورط في هاته القصة القادمة من التاريخ. وكي أجيب عن الشق الثاني من السؤال حول مدى التوفيق بين التخييل الروائي وبين التاريخ، أو بمعنى أدق ما هي الحدود بين ما هو تاريخي وما هو إبداعي، أحب أن أقول بأن هاته الحدود متحركة، يعني أنها ليست قارة بالمناصفة، بل الأمر يتوقف على الضرورة الفنية والروائية، بالنسبة لي ككاتب، أحبذ أن يكون الهامش الأكبر متروكا للتخييل، لأن ما يكتبه الكاتب في النهاية هو فن، أما التاريخ فهو من اختصاص المؤرخ.
> كيف تقيمون حضور الأدب الروائي المغربي في الساحة الأدبية العربية؟
< أعتقد أن القارئ المغربي بات يطالِب بأعمال روائية مغربية لا تقلّ جودة عمّا كتبه إخواننا في بلدان المغرب العربي أو المشرق. وهو ما سيقودنا إلى أن نقارن بين أدبنا والأدب القادم من هذه البلدان الناطقة بالضاد.
ويمكن أن نقول في هذا الصدد، ونحن نتحدّث عن الرواية، إن ثمة نصوصا روائية مغربية بلغت قمة النضج والإبداعية، أعمال ظهرت في لوائح الأفضل عربيا، وبعضها في قوائم الأكثر مبيعا، ومن ثم كانت الأكثر تداولا قراءةً ونقدًا. وحسْبي أن أشير هنا إلى عناوين صدرت في العشر سنوات الأخيرة: ممر الصفصاف للمديني، نوميديا للبكاري، طائر أزرق نادر يحلق معي لفاضل، المغاربة وثورة الأيام الأربعة للجويطي، الملف 42 لسباطة، أسير البرتغاليين للوكيلي. فجل هذه الروايات، تحمل في طياتها بعدا كونيا، بحيث لا تتكئ، في فضاء تخييلها، على جغرافيّة مغربية محدودة، وإنّما تأخذ متخيّلَها من جغرافيات وبيئات وثقافات عديدة. كما أنّ أغلبها استلهم، بوعي، جماليات وتقنيات الرواية العالمية، الشيء الذي جعلها تفرض نفسها في الساحة الأدبية العربية، مؤكدة تميُّز الأدباء المغاربة ونبوغهم في الفنّ الروائي. ومن ثمّ أرى أن الأدب المغربي، ممَثَّلا في جنس الرواية على الأقلّ، يسير بخطى ثابتة. وبعيدا عن السوداوية، أعتقد، أن الكاتب المغربي يحمل همّ النهوض بهذا الأدب ليشغل حيّزا مرموقا في مدونة الآداب المكتوبة باللغة العربية.
< حاورته: سارة صبري