مدير المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب المؤرخ والأنثروبولوجي رحال بوبريك : السوسيولوجيا هي تاريخ الحاضر والتاريخ هو سوسيولوجيا الماضي

عين جلالة الملك محمد السادس، مؤخرا، الأنثروبولوجي رحال بوبريك، على رأس المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب. زارت جريدة “بيان اليوم”، الأستاذ بوبريك في مقر المؤسسة، للحديث عن مهامه الجديدة التي اعتبرها مسؤولية كبرى تتمثل في إنتاج معرفة تاريخية تحمل هويتنا المغربية. كان اللقاء، أيضا، فرصة للحديث عن مواضيع غنية اشتغل عليها بوبريك حول حياة الرحل والبدو التي عاشها في صغره بالصحراء، والأدوار التاريخية للقبيلة. كما حدثنا أنثروبولوجي الصحراء عن جذور مشكل الصحراء، موضحا أن الوثيقة الأجنبية للدول الاستعمارية (فرنسا وإسبانيا) تعترف بمغربية الصحراء. كما قربنا، في هاته المقابلة، من عالم التصوف، معتبرا أن هناك تصوفا بمرجعيات عقلانية يجذب أطرا عليا بغرض البحث عن الطمأنينة أو الخلاص الروحي، موضحا أن الطرقية ستظل دائما ما دام الإنسان يبحث عن الروحانيات.

> بالرجوع إلى الوراء قليلا، ويبدو أن طفولتك كان لها نصيب من اسمك حيث اتسمت بالتنقل والترحال. ما هي الآثار التي خلفتها حياة الرحل والبدو في نفسك؟
< تنقلت بين عدة مدن في المرحلة الابتدائية، وحتى على المستوى المهني بدأت في كلية أكادير، وبعد ذلك كلية القنيطرة قبل أن أنتقل إلى الرباط بكلية الآداب، ثم إلى معهد الدراسات الإفريقية، وحاليا أنا بالمعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب. ويمكن القول إن أغلب هاته المسارات لم أخترها بل جاءت صدفة. أو ربما شيء أكبر من الصدفة، فربما تكون محكومة بالطفولة أو باسمي وبأشكال لاواعية أخرى أو قضاء وقدر. أظن أن هذا الاسم يلائمني لا من ناحية نمط حياتي الذي عشته في طفولتي وحتى مرجعيتي الثقافية البدوية.

إلى أي حد ساهم استقرار قبائل الرحل بمدن عصرية في اندثار مخزونهم الثقافي البدوي، وهل هذا من شأنه أن يهدد انتقال هاته الثقافة إلى الأجيال القادمة؟
< شهدت العديد من مجتمعات الرحل في المغرب، بالجنوب الشرقي مثلا، منطقة تافيلالت ودرعة، وأيضا رحل قبائل آيت عطا وآيت مرغاد.. تنقلا واستقرارا تدريجيا، مرورا بالواحة ثم المدينة، أو جزء من العائلة يستقر والجزء الآخر يبقى في الترحال حتى يلتحق بالعائلة.
في الصحراء، كان الترحال سائدا قبل الاستعمار الإسباني ومع مجيئه أيضا، وإذا لاحظتم، فما بين مصب واد درعة (شمال طانطان) إلى الكويرة حاليا، لم تكن هناك أية مدينة، باستثناء السمارة التي كانت قصبة بنيت أواخر القرن 19، ولم تعرف استقرارا، بعد أن هاجرها الشيخ ماء العينين إلى تيزنيت عام 1910.


كان الرحل، سواء مربيي الماشية أو الجمال، يحتاجون إلى التنقل عبر مسافات طويلة بحثا عن الكلإ لماشيتهم. ومع الاستعمار الإسباني، بدأت تظهر حواضر/مراكز، كانت عسكرية بالأساس لضبط تحرك الرحل كطانطان وطرفاية.. إذن تدريجيا بدأت تتشكل مدن ظهرت مع الاستعمار. وظل البدو يزاولون نشاطهم الرعوي إلى الخمسينيات والستينيات لكن مع الجفاف وهجوم إكوفيون (هجوم قضى على ماشية الرحل من طرف الهجمة العسكرية الشرسة (الإسبانية – الفرنسية في فبراير 1958) بدأت هاته المدن تستقطب يدا عاملة تعمل في أوراش بناء الطرق وكذلك مع اكتشاف الفوسفاط، وحتى الشباب بدأ يترك البادية لصالح المدينة. يعني بدأت شيئا ما تتشكل معالم حياة حضرية للاستقرار في الستينيات والسبعينيات. لكن ابتداءا من سنة 1975 بدأت اللاعودة لأنه مع الحرب لم تكن هناك منطقة آمنة، فاضطر الرحل للتخلص من ماشيتهم واللجوء إلى مناطق آمنة في طانطان وطرفاية والعيون وبوجدور والسمارة والداخلة.. أي أن استقرار البدو لم يتخذ مسارا تقليديا، وهنا وقعت قطيعة عنيفة مع حياة الترحال. وبسرعة فقد البدو نمط حياتهم التقليدي لأنهم جاؤوا إلى المدينة وهم لا يمتلكون أدوات ومؤهلات التأقلم مع الحرف والمهن في المدينة. لكن ظل يسكنهم ذلك الحنين القوي إلى حياتهم السابقة، خصوصا جيل الآباء الذي قضى جزءا كبيرا من حياته في الصحراء، لهذا نقلوه إلى أبنائهم، سواء الذين جاؤوا إلى المدينة صغارا كحالتي أو الذين ازدادوا في المدينة وبدؤوا يعيشون البادية من خلال روايات الآباء وتكونت لديهم صورة مثالية لحياة البدو والصحراء، وصاروا مسكونين ثقافيا ووجدانيا بحياة البداوة رغم أنهم لا يستطيعون العودة إليها والعيش فيها، أو كما قال ابن خلدون “رقة الحضارة أصبحت تستهويهم أكثر من خشونة البداوة”.

زاوجت في تكوينك بين السوسيولوجيا والتاريخ. ما الذي جذبك لهاته التخصصات؟ وما هي الأسماء التي أثرت فيك أثناء دراستك؟
< حينما كنت في طانطان في مرحلة الإعدادي والثانوي، لم يكن هناك شيء لكسر الملل سوى القراءة، قرأنا كل ما كان يسقط في يدنا في ذلك الوقت من مجلات وجرائد قديمة وقصص وروايات.. والملحقات الثقافية للعلم والاتحاد الاشتراكي التي كانت تصلنا متأخرة بيومين أو ثلاثة. كنا نقرأ ونعرف الأسماء التي كانت تكتب في ذلك الوقت والتيارات والنقاشات التي تدور في المركز بالرباط والدار البيضاء.
كنا على دراية بما يدور في الساحة الفكرية والثقافية والأدبية بالرغم من أننا كنا بعيدين عن المركز. حينما كنت أدرس علم الاجتماع، كان البعد التاريخي حاضرا، لأنه إذا أردنا أن نفهم بنيات المجتمع المغربي سوسيولوجيا وأنثروبولوجيا لا بد لنا من الزمن الطويل لبروديل. في الكلية، كنا مبهورين بمجموعة من الأسماء، وكنا نتابع دروسهم مثل الجابري وسالم يفوت.. حتى السينما، كنا كل سبت نحضر لعرض فيلم ومناقشته في أندية سينمائية، وكانت الفترة ما بين 1986 و1990 في الرباط غنية وزاخرة باللقاءات والأنشطة الثقافية إضافة إلى الدروس الجامعية.


بالرجوع إلى سؤالك، حينما ذهبت إلى فرنسا، تسجلت في ما يسمى بدبلوم الدراسات المعمقة (DEA) الذي كان يوازي الماستر. وكان يقبل الطلبة الحاصلين على الإجازة في التاريخ وعلم الاجتماع. بالنسبة لطلبة علم الاجتماع فقد كان يفرض عليهم تتبع دروس في تاريخ المغارب (المغرب بالنسبة للمغاربة أو الجزائر بالنسبة للجزائريين). وجهت لأتابع دروس قامتين علميتين في التاريخ مكالي مورسي Morsy Magali التي كانت مؤرخة كبيرة اشتغلت على مولاي إسماعيل ولوسيت فالانسي Lucette Valensi إحدى أبرز مؤرخات مدرسة الحوليات في المغارب، وكانت أصدرت حينها كتاب مهم عن معركة وادي المخازن les fables de la mémoire بعد أن كانت اشتهرت بكتاب حول الفلاح التونسي Fellahs tunisiens وكانت محاضراتها يحضرها أساتذة مغاربيين متأثيرن بمدرسة الحوليات وهنا تعرفت أول مرة على عبد الأحد السبتي .. وقد استهواني التاريخ وأشرفت على بحثي في دبلوم الدراسات المعمقة حول الشيخ ماء العينين: القداسة والسلطة والمجتمع. منذ ذلك الحين بقيت متأرجحا دائما بين التاريخ والأنثروبولوجيا وأنجزت أطروحتي تحت إشراف مشترك لمؤرخ، جون لوي وأنثربولوجي كونستان حامس .Constant Hames

> الدراسات العليا كانت في فرنسا، في التاريخ والأنثروبولوجيا. هل يمكن أن تحدثنا عن العلاقة التي تربط بين التاريخ والأنثروبولوجيا؟ ولماذا لم تستمر في السوسيولوجيا وفضلت الأنثروبولوجيا؟
< هناك تداخل بين التاريخ والسوسيولوجيا، والمعروف أن الباحث الذي أسس للسوسيولوجيا في المغرب هو بول باسكون، له كتاب يسمى التاريخ الاجتماعي لإليغ، وقبله جاك بيرك، الذي كان له كرسي بكوليج فرنسا اسمه التاريخ الاجتماعي للإسلام. وأحب دائما هذا التعريف ولو أنه يبدو مبسطا: السوسيولوجيا هي تاريخ الحاضر والتاريخ هو سوسيولوجيا الماضي. حتى على المستوى الأكاديمي حينما التحقت بأكادير درست لمدة ثماني سنوات بشعبة التاريخ، وانتقلت إلى الرباط والقنيطرة ودرست بشعبة علم الاجتماع.

اشتغلتم في أطروحتكم حول موضوع الطرق الصوفية بالفضاء الصحراوي. كباحث ما هي الصعوبات التي واجهتك في هذا البحث؟
< حينما اخترت هذا الموضوع، الذي كان بعده الزمني في القرن 19، اخترت موضوعا وهو الفاضلية (الطريقة الصوفية الفاضلية)، أجريت البحث الميداني بمنطقة الحوض في الجنوب الشرقي لموريتانيا قرب الحدود المالية. اشتغلت كذلك على الأرشيف ولكن اشتغلت كثيرا على المناقب بتحليلها تاريخيا وأنثروبولوجيا وعلى الرواية الشفوية. كان لا بد من المزاوجة بين التاريخ والأنثروبولوجيا في التحليل. وقد كان الموضوع صعبا، لكن كنت مهيئا له لأنني أتيت من تخصصات تؤمن بالرواية الشفوية، ولم أتناوله كمؤرخ تقليدي بل تناولته كأنثروبولوجي.

وقد واجهتنا صعوبات أمنية في فترة اشتغالنا (1995)، لأنه في شمال مالي كان اللاجئون التوارك قد لجؤوا إلى مخيمات في الجنوب الشرقي لموريتانيا في حدودها مع مالي، وكنا نتنقل حينها في السيارات ذات الدفع الرباعي، وكانوا أحيانا مسلحون ينزعون من الركاب سيارتهم، لأن المقاتلين التوارك كانوا محتاجين لهاته السيارات في عملياتهم العسكرية. كما كنا مهددين بالتيه في الطريق، لأنه لم تكن هناك طرق معبدة. بالإضافة إلى صعوبات بيئية، مع انتشار مرض الملاريا لأن المنطقة غير بعيدة عن مالي والسنغال، ناهيك عن صعوبات عدة.

نعرف أن الزوايا لعبت أدوارا مهمة في التاريخ، مثل الزاوية الدلائية. في نظرك، كأنثروبولوجي، ما هي المكانة التي تحتلها الزوايا والتصوف اليوم وسط المجتمع المغربي؟
< بالفعل، الزوايا لعبت دورا كبيرا في الماضي، وكانت من المؤسسات إلى جانب القبيلة التي لعبت دور التوازن. لكن في فترة الاستعمار مع الحركة الوطنية، ظهرت نخبة شابة مثقفة في الثلاثينيات والأربعينيات، كان أغلبها من علماء القرويين، هاجمت بعض مشايخ التصوف، لدرجة اتهام بعضها (الزوايا) بالتعامل مع الاستعمار، هاته النخبة، كانت تنتقد هذا النوع من التدين الطرقي ليس فقط لاعتبارات سياسية وإنما لاعتبارات دينية، لأن الحركة الوطنية كانت متأثرة بالسفلية وأفكار الإصلاح الديني. هذا من جهة. ومن جهة أخرى، كانت هناك فئة ثانية من المثقفين الذين درسوا في المدارس العصرية والفرنسية، كانوا يعتبرون أن هذا التدين تقليدي، وهي فئة لها توجهات أخرى ليس بالضرورة دينية. لعبت هاته العوامل دورا كبيرا في تقلص دور الزوايا. لكن سنشاهد عودة للطرقية في الثمانينات خصوصا، بعد 1979 والثورة الإيرانية، ليس فقط كتدين شعبي، بل كتدين عالم، لأن بعض الطرق كالطريقة البودشيشية ينتمي لها أطر عليا، منهم مهندسون وأطباء وصحافيون وأجانب كذلك يأتون من دول غربية بمرجعيات عقلانية بغرض البحث عن الروحانيات. انتماء البعض حاليا للطرق هو بحث عن تجربة روحية والبحث عن نمط من التدين يستجيب لدوافع داخلية شخصية، كل المسارات هي فردية أكثر مما هي جماعية، وما دام الإنسان يبحث عن الروحانيات فالطرقية ستظل قائمة دائما! والغرب، بالرغم مما وصل إليه من تقدم على المستوى التقني، فإننا نجد أن الحاجة إلى إشباع الجانب الروحي حاضرة. هناك أيضا التصوف غير الطرقي، وهو تصوف كشكل من أشكال التعبد الفردي، أي ليس له علاقة بشيخ أو زاوية ما. وقد تكون للزوايا سلطة في بعض المناطق التي ما زال يسود فيها الاعتقاد ببركة الولي وبعض السلالات الدينية المبجلة.

> أثناء اشتغالك، اهتممت بالتدين بصيغة المؤنث. وقد فتح التصوف بابا كبيرا للمرأة. ما هي الأبعاد التي فتحها حضور المرأة في المتن الصوفي؟
< اشتغلت في أطروحتي على الطرق ووجدت أن أغلب الطرق بها حضور قوي للجانب الذكوري، وأردت البحث عن حضور النساء اللواتي همشن من تاريخ وذاكرة الولاية والقداسة. وأتذكر دائما حينما كنا صغارا، كانوا دائما يعيدون بث فيلم لرابعة العدوية، وأتذكر مقولتها: ربي إن كنت أعبدك خوفا من نارك فاحرقني بها، وإن كنت أعبدك طمعا في جنتك فاحرمني منها، وإنما أعبدك لأنك أحق بالعبادة. تأثرت كثيرا بهذا التدين الذي يتجاوز فكرة الجزاء. غصت في كتب المناقب كي استنبط نماذج مثالية لوليات وللولاية النسائية.
في كتاب بركة النساء: الدين بصيغة المؤنث، بينت بأن تصوف المرأة يختلف عن الرجل في العديد من الأمور، مثل الجسد، إذ يجب أن تقتل جسدها وتخفي أنوثتها، كما أنها تدخل إلى عالم القداسة والولايا بعدة عوائق كالنجاسة في فترة من فترات الشهر.. المرأة كان عندها حضور، وهو حضور تتعدد أشكاله من الولية إلى المجنونة إلى عائشة قنديشة إلى عائشة مولات المواج.. نجد أن أغلبهن ارتبطن بولي ما.

> توليت مؤخرا إدارة المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، ما الذي تشكله هاته المحطة الجديدة في مسارك المهني والأكاديمي؟
< بدأت كما قلت لك في أكادير كأستاذ في شعبة التاريخ ثم تجربة التدريس في القنيطرة والرباط بالإضافة لإدارة مركز الدراسات الصحراوية والإشراف على ماستر وتكوين دكتواره حول الدراسات الصحراوية بكلية الآداب بالرباط. وجاء هذا التعيين من صاحب الجلالة ليكون تحديا أكبر على جميع المستويات، فهو تشريف وتكليف، وهو أكبر تحد بالنسبة لباحث في مساره المهني لإثبات ذاته وتدبير مؤسسة كهاته، وكذلك محاولة إنتاج معرفة تاريخية تكون في مستوى انتظارات الباحثين والجماعات العلمية وحتى الوطن بصفة عامة، لأن التاريخ ليس كأي مادة أو كأي تخصص، هو يحمل الهوية ويعبر عنها، ويتخذ أبعادا كبيرة في الوقت الراهن الذي تتصارع فيه السرديات التاريخية للأمم، أي أننا يجب أن نخلق سردياتنا التي تحمل أبعاد هويتنا المغربية بمكوناتها وروافدها: عربية، إسلامية، أمازيغية، حسانية صحراوية، عبرية، أندلسية، إفريقية، متوسطية، ويجب أن تكون كل هاته المكونات والروافد حاضرة في سرديتنا الوطنية، وفي نفس الوقت يجب مخاطبة الناشئة بطرق أخرى، وليس بالضرورة الكتب، لأن الرهان كبير وحينما يتعلق الأمر بالهوية والذاكرة الجماعية، فهي مسؤولية كبيرة بغض النظر عن الجانب الأكاديمي المحض المتمثل في إصدار الكتب والندوات.. الرهان أنه بالموازاة مع كل هذا يتعين علينا أن نصل إلى فئات واسعة داخل الوطن وخارجه.
>المعروف أن تاريخ البدو والترحال هو أغلبه تاريخ شفهي، ما هي الإجراءات التي يمكن أن يتخذها المعهد في توجيه جانب من أبحاثه للحفاظ على هذا الموروث الذي يخص الذاكرة الحسانية من الاندثار؟
< حينما نقول كذلك الذاكرة الجماعية فهي أيضا في أغلبها شفهية، لا يمكن أن ندعي بأننا سنجمع كل الروايات الشفوية حول ماضي المغرب. سنحاول العمل على أماكن الذاكرة، وسيندرج بالطبع ضمن ذلك ما هو شفهي. كما سيدمج المعهد في مشاريعه العلمية الرواية الشفوية، طبعا بعد تأطيرها وتقنينها وإخضاعها للمناهج المتعارف عليها في التاريخ الشفهي عموما وحتى الأنثروبولوجي الذي راكم تراثا كبيرا في التعامل مع الرواية الشفوية. طبعا توظيف التاريخ الشفهي رهين بطبيعة كل موضوع والمرحلة المدروسة والمقاربة المنهجية لكل باحث حسب المشاريع البحثية المنجزة.

> بالحديث عن مجال اشتغالكم، ما هي الخصوصية التاريخية للقبيلة عندنا في المغرب؟
< كما تحدثت عن الزاوية، فالقبيلة، أيضا، كانت فاعلا مهما في تاريخ المغرب، منذ المرابطين، الموحدين والمرينيين.. هاته دول قبلية أسستها عصبيات كبيرة، لذا، حتى نظرية ابن خلدون التي صاغها حول القبيلة والعصبية كانت انطلاقا من تجربة الدولة الوسيطية في المغرب، قبل أن تنتقل لما يسمى بالدولة الشريفية مع السعديين والعلويين. إذن القبيلة كان لها دور كبير في تاريخ المغرب، وحين يقول ابن خلدون أن غاية العصبية (القبيلة) هي الملك، فهذا يؤكد أن القبيلة ليست ضد الدولة كما تقدمها بعض الدراسات الأنثربولوجية خاصة منها الإستعمارية في حديثها عن بلاد السيبة، بل هي جزء من هاته الدولة في تاريخ المغرب. ومع الاستعمار بدأ تفكك القبيلة، لأن الحماية رسخت ما يسمى بالدولة المركزية، وأصبحت القبائل تقتصر على بعض الأدوار الاجتماعية والاقتصادية.. ولكن على المستوى السياسي، أصبحت الدولة هي المهيكلة للمجتمع حتى وإن بقي ما يسمى ب”القبلية” وليست القبيلة حاضرة بنسب معينة خاصة في الوسط القروي وقد تناولت هذا الموضوع بكثير من التفصيل في كتابين: ” زمن القبيبلة” و”من الخيمة إلى المدينة”.

> ما هي الفترات من التاريخ التي ترى أنها محرجة. لكن يجب التصالح معها والاشتغال عليها في البحث العلمي الأكاديمي؟
< بالنسبة للمؤرخ وللباحث، لا توجد فترة حرجة وفترة غير حرجة، فهذا تصنيف ذاتي. المؤرخ يشتغل على كل المراحل التي هي جديرة بالدراسة، حتى ما قد يبدو محرجا يجب دراسته وإلا سيتم استغلاله من طرف الآخرين، ويجب أن توضع له أسس علمية ومعرفية. الدول القوية كدولة المغرب لا تخاف من أي فترة محرجة ولا يخيفها تاريخها، حتى أصعب المراحل مثل ما سمي بسنوات الرصاص تم تناولها من طرف هيئة الإنصاف والمصالحة، وهو تدبير عقلاني وديمقراطي وسلمي بين كل مكونات المجتمع. وقد لاحظنا مثلا بالنسبة لهاته المرحلة أن الجامعة المغربية واكبته عن طريق إحداث وحدات التكوين في تاريخ الزمن الراهن الذي أسس لقواعد أكاديمية في تناول الماضي القريب والحاضر من طرف المؤرخ بكل أسئلته وقضاياه بعد أن كان حكرا على العلوم السياسية والسوسيولوجا والصحافة.

بالحديث عن موضوع الصحراء، والذي اشتغلت عليه كثيرا، هل يمكن أن تلخص لنا بإيجاز الجذور التاريخية لمشكل الصحراء في المغرب؟ 

< يمكن تلخيص جذور مشكل الصحراء في ثلاثة محطات كبرى، وهي كلها محطات مرتبطة بالاستعمار، أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، والمتمثل في الحدود التي سنها الاستعمار في إفريقيا ككل، حينما قام بتقسيم مجال الإمبراطورية الشريفة وبتر الأجزاء الجنوبية والجنوبية الشرقية، وحينما بترها وضع حدودا (1900، 1904، 1912) في ذلك الوقت كانت فقط خطوط على الخريطة، في الواقع الاجتماعي كان الناس يتنقلون بين هنا وهناك مع بعض الإكراهات. وفي 1956، حينما أراد المغرب استرجاع استقلاله، وجد نفسه يفاوض على كل منطقة (منطقة الوسط فرنسا، منطقة الشمال إسبانيا، منطقة طنجة، منطقة تيندوف تابعة للفرنسيين في الجزائر، إفني لديها وضع خاص لارتباطها باتفاقية تطوان في القرن التاسع عشر، طانطان وطرفاية في منطقة الحماية بالجنوب، الساقية الحمراء ووادي الذهب لديهما إطار قانوني وضعه الاستعمار)، أي أن في هاته المحطة الثانية من الاستقلال كان الاستقلال غير مكتمل، وظل المغرب يطالب باستكمال وحدته الترابية. وفي الستينيات، مباشرة بعد عملية إيكوفيون المشؤومة، ستعتبر الصحراء (الساقية الحمراء ووادي الذهب) جزءا لا يتجزأ من التراب الإسباني، أي إقليم إسباني، لتدخل قضية استكمال الوحدة الترابية دوامة أخرى. وبعد أن وضعت حدودا مصطنعة، ستعمل إسبانيا في الستينيات على خلق شعب مصطنع، هذا بتزامن مع صدور قرارات من الأمم المتحدة والتي تم تأويلها بطريقة مجحفة، حول حق الشعوب في تقرير مصيرها وحول احترام الحدود الاستعمارية.. إذن هناك تداخل لعدة عوامل، أولها الاستعمار بكل أشكاله، والقانون الدولي الذي تم تأويله واستعماله من طرف بعض القوى ضد الوحدة التاريخية للمغرب، والأمم المتحدة أصبحت بهذا التأويل والتماطل طرفا في هذا النزاع. وطبعا سنة 1975، حينما وجد المغرب نفسه أمام هذا التماطل والتواطؤ، بالإضافة إلى تدخل أطراف خارجية كالجزائر في صناعة حركة مسلحة انفصالية، حسم الأمر المرحوم الملك الحسن الثاني الأمر بتنظيم المسيرة الخضراء، التي كانت حدثا بارزا عرف انصهار وطني بين المؤسسة الملكية ومختلف فئات الشعب المغربي من أجل وضع نهاية للاستعمار في الصحراء المغربية. وأشير هنا، أن المسيرة الخضراء لم تنل بعد ما تستحق من طرف الباحثين، فهي حدث ومنعطف كبير في تاريخ المغرب المعاصر يعادل لحظة حصول المغرب على الاستقلال سنة 1956.

ما الدور الذي تلعبه الوثائق التاريخية في تعزيز موقف المغرب في الملف؟ وما أهمية الوثيقة التاريخية الاستعمارية في ذلك؟


< طرحت الوثيقة بشكل ملح في موضوع الصحراء المغربية، لأن المغرب كان دائما يدافع عن شرعيته انطلاقا من التاريخ (وثائق البيعة، ظهائر تعيين القواد والشيوخ، الإتفاقيات الدولية…)، والمغرب هو الذي طرح قضية الصحراء في محكمة لاهاي في شتنبر 1974، وإسبانيا رفضت قبل أن تنصاع لتحكيم محكمة لاهاي لفقدانها للأدلة التاريخية، والمغرب كان واثقا من نفسه لأنه قدم الوثائق اللازمة. ولهذا الغرض أنشئت مديرية الوثائق الملكية حينئذ لجمع الوثائق حول مغربية الصحراء، وهذا يبرز أهمية الوثيقة التاريخية في معركة استكمال الوحدة الترابية، وكذلك الوثائق الأجنبية الإسبانية والفرنسية. وأنا اشتغلت على الأرشيف الإسباني وخصوصا الفرنسي، ووجدت أن الوثائق تبين كيف رسموا الحدود وكيف عملوا على فصل الصحراء عن باقي المغرب أرضا وساكنة، وهي وثائق جد مهمة لأنها تثبت مغربية الصحراء بوضوح. وقد أوضحت كل هذا في كتابي قضية الصحراء: جذور صناعة استعمارية (1884-1975).

> سبق وذكرتم أننا لم نكتشف كل ما كتب حول الصحراء بخصوص الأرشيفات الفرنسية والإسبانية. ما هي الصعوبات التي تواجه الباحث في موضوع الصحراء خاصة فيما يتعلق بالولوج إلى الأرشيفات الأجنبية المهمة؟
< أظن بأننا أضفينا هالة كبيرة على صعوبة الولوج للأرشيفات. في طبيعة أي دولة، هناك بعض الأرشيفات المحكوم عليها بخمسين سنة / مائة سنة ولم تفتح، ولكن لنستغل فقط ما هو مفتوح في الأرشيفات العسكرية (فانسن بفرنسا وافيلا بإسبانيا مثلا) والأرشيفات الدبلوماسية في (نانت ولاكورنوف في فرنسا مثلا) لنجمع ونستثمر فقط كل هاته الأرشيفات وبعد ذلك نطالب بالمزيد. والأهم من الجمع هو القراءة وبناء سردية وطنية، لأنه قد نجمع كما كبيرا من الأرشيف ولكن يجب بناؤه بطريقة منهجية واستغلاله بطريقة صحيحة وفق منهجية رصينة ورؤية واضحة.

حاورته: سارة صبري

تصوير: رضوان موسى

Top