عبد الكبير الخطيبي.. من فكر الاختلاف إلى الهوية التعددية

إن مبحث الهوية هو من أكثر المباحث الفكرية قلقا، حيث شكلت هاجسا كبيرا في العديد من الثقافات، الأقليات المغلوبة منها خصوصا، وقد كان فكر الاختلاف أكثر البنى تأسيسا لنقاش بناء، يهدف إلى خلخلة الهوية التي عرفت في كثير من السياقات بالوحدة والجمود والتطابق، وبالتالي محاولة تطعيمها بأبعاد فكرية تؤسس لها الاستمرارية والعطاء والتجدد. وتأتي دراستنا “من فكر الاختلاف إلى الهوية التعددية” استجابة لما يطرحه الواقع الراهن من قضايا عدة سنتطرق لها في هذه الدراسة، وقد كانت محاولتنا هذه، اشتغالا على قامة فكرية مغربية وهي شخصية المفكر عبد الكبير الخطيبي.
ويمكننا الإشارة في هذه الورقات لعدة أبعاد هي: بداية بالاختلاف ثم التعددية وأخيرا الكونية. ومن هنا جاء هذا البحث ليفتح النقاش أمام العديد من النقط، أولها: تجليات الاختلاف عند عبد الكبير الخطيبي، ملامح الهوية التعددية في فكر الاختلاف عند الخطيبي، وما علاقة فكر الاختلاف بالهوية؛ التي غدا الذود عنها مطلبا أساسيا في ظل التعددية الثقافية وبروز قضايا جديدة من قبيل عنف الهوية وصدام الثقافات وخطاب تغريب العالم وتنميط العالم والتبعية؟

عبد الكبير الخطيبي وفكر الاختلاف:

قبل أن نفكر في مدلول “فكر الاختلاف” عند الخطيبي، حبذا أن نشير إلى الحوار الذي أجراه عبد الكبير الخطيبي، المعنون بـ “عن السياسة”، في كتابه “المغرب العربي وقضايا الحداثة”، ففيه يشير إلى أغلب محطاته الفكرية والأكاديمية والسياسية، التي أمكنها أن تحدد نقط تشكل تجربته الإنسانية والعلمية كمثقف، رغم أن هذا التحديد والتعيين لشخصية مثل عبد الكبير الخطيبي أمر صعب المنال، كيف وهو المفكر ذو الوجوه المتعددة؟ ومن خلال تعليقه الآتي: “يريد الآخرون أن يؤطروني في خانة ما، والحال أني ممتهن لقياس المساحات”، يمكننا أن نفهم بأنه لا يبقى على حال، إنه يجرب كل الطرق، وينهل من كل المعارف، بشتى المناهج، إذ يجمع بين السوسيولوجيا واللغة والأدب والنقد… أما فيما يتعلق بفكر الاختلاف، فهو الفكر الذي يتخلى عن الذاتية الحمقاء، معتنقا الاختلاف. ويضيف الخطيبي قائلا: “إنني أحافظ على التزامي باستكشاف قضايا وثقافات أخرى غير ثقافتنا. فأنا باحث يستكشف منظورات متعددة ومواقع نظر إلى موضوعات وقضايا وأشياء تضعني في المخاطرة”. من هذا القول، يتضح أن الخطيبي مفكر متعدد، يغرد مستكشفا الآخر، بتعدد الرؤى والتوجهات، ويتقصَّد قضايا هامة دون أن يأبه لأي إساءة تصدر عن المفكرين الغربيين، لأن هذا الآخر هو موطن تشكل الذات فردا وجماعة، فعبر الآخر نرى ذاتنا. فالخطيبي يفكر عربيا بلغة الآخر، يجذبه، يستفزه، بإشكالات فكرية تخلخل ثوابت كيانه بكل موضوعية. فمن خلال الاختلاف؛ أمكن للذات أن ترى نفسها بعين الآخر، وأن تسمع عن ذاتها بلسان الآخر، ونأخذ بالشهادة البارتية المشهورة التي قيلت في حق الخطيبي: “إنني والخطيبي، نهتم بالأشياء نفسها: الصور، الأدلة، الآثار، الحروف، العلامات. وفي الوقت نفسه يعلّمني الخطيبي شيئاً جديداً، يخلخل معرفتي، لأنه يغير مكان هذه الأشكال، كما أراها يأخذني بعيدا عن ذاتي، إلى أرضه هو، في حين أحس كأني في الطرف الأقصى من نفسي”. وبهذا نخلص للقول، إن أهم ما ميز تجربة المرحوم عبد الكبير الخطيبي هي تلك النزعة المتفردة؛ نزعة الفكر المختلف، هو ذا المفكر الكوني.

الهوية وهاجس التعددية لدى الخطيبي:

ليست مسألة الهوية التي نحن بصدد التطرق إليها من خلال مفكر كبير كعبد الكبير الخطيبي، إلا وجهة معرفية تغلغلت في ضمير المناضلين العرب وغيرهم من الذين عانوا من تجربة التعددية الثقافية واللغوية وتجربة المنفى والتهجير والاغتراب وعقدة الآخر في الذات. وتتخذ موضوعة الهوية أشكالا وصورا مختلفة تنوس بين الوحدة والتعدد، ولا أحد ينكر مكونات الهوية ودعائمها الأساسية والتي تتوزع بين مكون اللغة والتاريخ والدين والثقافة والعرق، إلى آخره.. وغيرها من المكونات.
إن من يفتح ذاكرة الخطيبي في كتابيه “النقد المزدوج” و”الاسم العربي الجريح” وكتبا أخرى، سيكتشف أن هناك رغبة قوية لتلبية نداء فانون؛ “آن الأوان أن نحاول البحث عن شيء آخر، ما دامت لعبة الغرب قد انتهت فينا”، وكذلك هناك وثبة قوية لترميم هوية الذات المتآكلة القائلة بالثبات والتحفظ، فادعاء الغرب بالتقنية؛ منطق العقلانية العلمية، فرض على الذات العربية أن تلج عصر التقنية بعصر لاهوتي، وبالتالي ستصدم بحقيقة التقنية، وهذا ما دفع الخطيبي رفقة تفكيره المختلف إلى خلخلة الكينونة العربية، محاولا الولوج إلى المهمش في الذات العربية. وفي استحضارنا لإشارة “فانون” نكون أمام ديانة فكرية تدعو إلى خلق هوية فكرية بديلة اقترانا بالنسق الفكري الغربي، هذا النداء الذي قال به فانون متمثل في البحث عن شيء آخر، ما دامت لعبة الغرب قد انتهت فينا.
ينطلق الخطيبي ناقدا العربية على نحو من الجرأة، إذ سعى إلى تحقيق حلمه المنشود، وهو “حلم الهوية الكونية” التي تحبل بقاموس التعدد والاختلاف، بعيدا عن الوحدة والتطابق، وقد كانت الوجهات التي قصدها هامشية، مهملة، مثل المتعاليات والمقدس، أي أنه قصد الأرض اللاهوتية، محاولا تفكيكها، هذه المهمة النقدية التي نحاها الخطيبي، تسعى إلى معرفة “كيف يتعامل هذا الجسم مع ذاته ومع العالم، بأي منظور ووفق أي مجال معرفي؟”، وقد اعتبر الخطيبي تفكيك الأرض اللاهوتية سابق على كل نقد، وقد نادى بضرورة أن يحتفل هذا الجسم بشهوته ومتعته، مبدعا قيما أخرى ليس من الضرورة تحديدها مسبقا.
إن سؤال الهوية سؤال مشرع على عدة أسئلة، جميعها تبحث عن المعنى، وقد كان أول سؤال تم طرحه هو: من نحن في هذه اللحظة؟ ومن الذين ليسوا نحن؟ وكيف نتبصر علاقاتنا بذواتنا، ونساعد الناس على الانتماء الهادئ لأنفسهم، في مسعى حثيث ومسار بعيد يؤشر إلى نقلة ممكنة من التتريث (القراءة التراثوية للتراث) إلى الحرية والحداثة والتحديث؟ ولكن ألا يؤدي التلازم بين نزعة التعدد الثقافي، ونزعة الهوية، إلى السقوط في صراعات عقيمة لا أفقا تاريخيا لها؟. يقول عبد الكبير الخطيبي: “لا يمكن للهوية الأصلية التي تقوم على الأصول اللغوية والدينية والأبوية أن تحدد وحدها العالم العربي. فهذه الهوية قد تصدعت وتمزقت بفعل الصراعات والتناقضات الداخلية. ثم إنها لتجد نفسها مرغمة على التكيف مع مقتضيات الحياة العصرية والتفتح على العالم”.
وأنا أحاول طرح جدلية الذات والآخر، تبادرت إلى ذهني قضية أساسية، تلك التي سميت بثقافة الاعتراف، فأن ينزل رولان بارت بمقال معنون بـ’ما أدين به للخطيبي’، أمر يعزز فعل التلاقح الثقافي والتحاور مع الآخر المختلف، فالخطيبي كما قدمه بارت، يخلخل معرفة الآخر، ويجره إلى أرضه، كاشفا عن خصوصية شعبه، وعن طبيعة ثقافته، ليبرز العلامات المشكلة والبانية لهوية حضارته. وقد كان الخطيبي يكتب بلسان هذا الغرب، فلأن الغرب كان يملك ما يكفي من بعد النظر، في استشعار الفكر المخلخل، الذي كان يفكك المسلمات، ويقرؤها في ضوء فكر نقدي جديد، ومغاير، وحتى لا يأكلنا النسيان.
لقد درس عبد الكبير الخطيبي الآخر وفكر فيه، موازاة مع التفكير في داخله الجمعي العربي. هذا المفكر الذي “كَتَبَ المغرب، وانطلق من المغرب، وفكر في المغرب بالمفرد والجمع، وقرأ الإنتاج العالمي من أجل التفكير في المغرب.. عشق اللغات وجعل من الازدواجية حبا دون أن يسقط في أي نزعة لغوية فجة”. وقد عمل الخطيبي على التغريد في بلاده العربية مخلخلا الأرض اللاهوتية كموروث مقدس يهبه النقد ولا يقترب منه في اللاوعي العربي. وبهذا يلوم العربي المنغلق الخائف على لاهوته المقدس من أن يسرق عبر الوعي النقدي الذي يسبح في بركة الاختلاف ناشدا الكونية. فقراءة الثقافة الشعبية مثلا؛عند الخطيبي تعد توقفا منهجيا ونظريا في مرحلة تاريخية لا تزال تقدس المتعاليات، وتصمت عند حدود ترى المَسَّ بها مدعاة للهدم.
إن الهوية التي يدعو إليها الخطيبي ليست هي التي تذوب فاقدة محتواها الوجودي، وإنما هي هوية تحيى في الصيرورة لا في الماضي، ليست هوية مفقودة يريد استعادتها. ولكنها موجودة تحتاج للانتعاش والانفتاح والولادة الثانية عبر التجدد والتهيئة حتى تكون قادرة على المواكبة والاستمرارية مع الآخر وفيه.
ويؤكد الخطيبي على أن العالم العربي يتميز بالتعدد، وهو “لا يشكل – ولا يمكن أن يشكل في حد ذاته – وحدة أو كلاًّ متماسكا بإمكاننا أن نحصره داخل منظومة واحدة”، فالتعدد الذي وسم العالم العربي، هو نتاج للصراعات والتناقضات الداخلية، ومتطلبات الحياة العصرية والتفتح على العالم. وبهذا يأتي فكر الاختلاف، الذي ميز ذاكرة المفكر عبد الكبير الخطيبي من خلال أعماله العديدة، والذي شكل استجابة لقلق شخصي لدى مثقف عربي يتألم لحال عربيته التي تعاني من سيطرة الغرب، فقد عمل من موقعه على أن يوضح بعض المعالم التي يمكن من خلالها للبلاد العربية “أن تدرك إدراكا أحسن أسس الهيمنة الغربية، وتتخذ طريقها – بعيدا عن كل أصل ووحدة وهمية – نحو سؤال لم يسبق له مثيل”، كما أن فكر الخطيبي متجرد من أشكال الخطاب الثلاثة التي ميزت العالم العربي والتي تعددت في التراثية والسلفية والعقلانية.
إن احتواء الجسم العربي ضمن فهم ذو نقد مزدوج، يخبر بجلاء ضعف بعض الكيانات والتوجهات الدينية والفكرية؛ من قبيل التراثوية والسلفية، إذ نراهما قد سعتا إلى أن تلحقا بركب التطور الذي عرفه الإنسان، نجدهما ضائعتين في العالم المعاصر، بسبب عدم مقدرتهما على أن تكونا أفقا للفكر والفن. وبهذا الضعف “لم تعودا قادرتين على الانقلاب ضد سلطانها الديني واللاهوتي المركزي، ولا أن تقوم بقفزة نظرية، أي أن تتحاور مع الخارج (الشر) الذي يفسدها ويدمرها من الداخل”. وبهذا نخلص إلى أن البلاد العربية لن تستطيع مواجهة حقيقة العصر وحداثته، في ظل انزوائها على نفسها من خلال استنكار قيم التعدد والحوار والاختلاف والتمسك بالوحدة والتحلي بالذاتية.
وتزدهر هناك في “النقد المزدوج” آلية “الفرق”، كآلية من آليات التلقي في هذا المنهج لدى الخطيبي، والتي تقر “بالتعدد، ويستحيل الوصول إلى الكشف عن غور الاسم العربي الجريح من دون إعطاء الاعتبار لتعدد اللغات التي تم بها صوغ هذا الجرح … فمتى يمكننا إلغاء هذا التعدد الذي كان ولا يزال فاعلا ومحركا في التاريخ؟”، والعربي في نظر الخطيبي يرى نفسه مركزا ينعش في الوحدة، هو بالفعل يحسب جميع من في الهامش، مواتا لا نطق فيها.
ولا يزال الخطيبي مفكرا في الهوية، هوية الذات العربية، إذ يقول إن الإنسان العربي “يحمل في أعماقه كل ماضيه قبل الإسلامي والإسلامي والبربري والعربي والغربي. أهم شيء هو أن لا نغفل هذه الهوية المتعددة التي تكون هذا الكائن. ومن ناحية أخرى يجب أن نفكر في الوحدة الممكنة بين هذه العناصر جميعها. لكنها وحدة غير لاهوتية تترك لكل عنصر نصيبه من التميز، وتتيح بالنسبة للمجموع حرية الحركة”، أي أن العربي يختزن في داخل التنوع والتعدد ماضيا وحاضرا، فأهم شيء هو الحفاظ على نقط التشكل والتلاحم بين المكونات البشرية للهوية العربية. فسمة التنوع والتعدد التي تسم العربي دفعت الخطيبي بتفكيره المختلف إلى أن يضع الهوية المتعددة ضمن اهتماماته الأساسية. فيحضرني قوله (الخطيبي): عندما أقول للمفكرين العرب: كونوا أكثر عروبة من قادتكم، فمعنى ذلك: طالبوا بالهوية التعددية التي يقوم عليها كيانكم”. وهذا ما أقحم الخطيبي في صراع مع المثقفين المصريين الذين يفصحون باستمرار عن مركزية عرقية تجاه العالم العربي، وهم في الغالب لا يعرفونه حق المعرفة.
إن الحلم بهوية لاهوتية في الذات العربية أمر غير ممكن، لأن “المطالبة بالهوية التعددية تؤكد الاختلاف وفي ذلك خطر على اللاهوت. لأنه ينبني على مبدأ وحدة ضرورية تضم كل المؤمنين”، وإذا كان التراث يحمل في ثوابته ومكوناته عنصر اللاهوت، فإن التفكير في مجمله، (أعني التراث) “يمارس عنفا على الهوية المختلفة والمتطورة الغنية بالمغايرة والنقد. ويمارس اضطهادا لفكر الاختلاف، ولغة المباينة والجدة والخلخلة، لأنه يتنفس الميتافيزيقا، ويستنيم إلى المطابقة، وإلى روائح الدهاليز المنسية الرطبة العطنة، ويقرأ في دفاتر الليل البهيم المبعقة.
إن الهوية التي ينأى عنها الخطيبي، هوية عمياء، مثل تلك الهوية التي تمثلت في قيام العقيدة السلفية بمصالحة التقنية مع اللاهوت، اعتقاداً منها أنها تحقق بهذه المؤالفة المصطنعة اقتصاداً مزدوجا. وبهذا يمكن القول بأن عملها يعتبر خللا فكريا يحدد شكلا من الهوية العمياء، ويبقى الوعي في الذود عن هذه الهوية العمياء وعيا شقيا يتبخر متدحرجا نحو الهاوية، فـ” الوعي الشقي انفصال لا متناه وهو يحيا على أمل العودة الممكنة نحو الذات واسترجاع الهوية العمياء.” أما الوعي بالهوية في طابعها التعددي المختلف فسيظل مرتبطا بمعرفة أن نهاية العالم؛ توجد بين يدي ذلك النظام التقني والعلمي، الذي يخطط العالم بإخضاعه لإرادته واقتناعه بنفسه،24 هذا النظام الذي سيقوض كل الهويات الثابتة والأصلية ويحورها مع جميع هويات العالم ضمن هوية واحدة خاضعة له.

> بقلم: عبد اللطيف الدادسي

Related posts

Top