“طوبى للداخلين!”1؛ من هذه القولة التي ختم بها الناقد حسام الدين نوالي تقديمه للمجموعة القصصية “مسخ ذوات الناب” للقاص المغربي عيسى ناصري؛ أنطلق لترجيح منهجي علمي بقدرة المؤلف على الحفر فيما يستحق، على ذلك فإن الأضمومة عبر القراءة الناقدة تحقق جمالية قل نظيرها، إن مقدمة عالمة من قبيل هذه جعلت قراءتنا تتخذ لها منحى استنباطيا، طبعا إذا انطلقنا من تلك المقولة السابقة، إن عيسى رفع مذ كان السرد وكان القوم يقولون قصصا واقعية مسرودة بعين تكرر التفاصيل، وها هو ذا يعود مجربا بعد ما عرف من طغيان وفساد، داعيا لنصرة السرد، يلقي فيه من كلمته، فيخلق مثل هيئة المسوخ ويحيي ويقتل شخصيات من ورق وخيال.
نسعى في هذه القراءة إلى تبين مواطن الجمال في “مسخ ذوات الناب” رهانا وشكلا، محاولين أن نلخص ذلك في نقاط محددة: –
تقانة المسخ:
أو التحول، إن ذلك “يحدث للنبات والإنسان والحجر والحيوان وهي تيمة الأدب الفانتاستيكي”2. لعل هذه التيمة كانت الأكثر حضورا ضمن التقانات السردية أو حتى الرهانات الكبرى للسارد، فحين انطلق كافكا في المسخ من تحول غريغوري سامسا إلى حشرة، فإن الرهان كان على مسخ الإنسان وعلاقاته بالأشياء، الأمر كذلك في أحدب نوتردام وغير ذلك من المسوخات، إن المسخ عند السارد أداة وشعار للتنديد بما طال الإنسان من مسخ قيمي وعبثي، وحيث يصير عالم الحيوان موازيا لعالم الإنسان في قصة (حفل على إيقاع النهيق ص 47) على غرار حفلة التفاهة، لكونديرا حيث يغدو التهكم والسخرية والتفاهة أمورا تحكم منطق الإنسان الحديث، يخلق السارد هجنة بين الإنسان والحمار ليدل على أن الإنسان انحط إلى الحضيض، إنها تيمة كان قد ناقشها فؤاد أعراب في أسئلة الهجانة والهوية، تحضر هذه التقنية محضة في “مسخ ذوات الناب” القصة الأولى ص 15، حيث يمسخ القط والسلوقي مع جماعة القطط والكلاب الممسوخة، ما أمكن الحديث معه عن غياب هوية جماعية أليست حسب درويش هي “ما نخترع لا ما نتذكر. الهوية هي فساد المرآة التي يجب أن نكسرها كلما أعجبتنا الصورة “3، كما يحضر المسخ في قصة “لعبة العمر” حيث يصير الراعي حكما للدبابير والشيخ ديكا والدجاجة والنعجة امرأتين في أحلام الراعي، أيضا في قصة ” تحت السنديانة العزلاء”، مسخ حقيقي للأصهب البغل الجامح، أو المسخ من إنسان إلى جن في الحلم الذي رآه الشاب في قصة “ترانيم البداوة”، حيث تحولت شخصية نجية إلى جنية في مقلب لغوي جناسي. إن الرهان يبدو واضحا على مسخ العلاقات الإنسانية ثقافة وسلوكا ومواقف و أفعال، والتأثر واضح المعالم بماركيز في رائعته (مئة عام من العزلة).
– تقانة الحلم:
حين فصل غاستون باشلار بين الحلم الحقيقي وأحلام اليقظة، معتبرا أن الأخيرة تتميز صورها بالشاعرية القصوى، فقد أتاح لنا أن نعتبر القصة بما هي متخيل تأملات في أحلام اليقظة، “لأن المخيلة قادرة على أن تجعلنا نخلق ما نرى”4، تبدو بعض عوالم الأضمومة أقرب إلى مجموعة “ققنس” لأحمد بوزفور، إن السارد في “مسخ ذوات الناب” منفتح على الحلم بنوعيه، تلك الفوضى النسقية المخلفة لانتظام الحقيقة، حيث تتيح لنا إمكانات التمويه والإيهام، إن القصة الحلمية غدت تقنية للتكنو قاص وهي ليست الحلم ذاته على الرغم من تشابههما في عنصر التكثيف كما يعتقد حميد لحمداني في مماثلة القصة للحلم5، هكذا تبدو قصص عيسى ناصري متخيلة مكثفة اللغة، كما أن بالنص قصتين تعتمدان أحلام اليقظة؛ (ترانيم البداوة) حيث حلم الشاب في رحلته على متن الحافلة وكذا في قصة (سلمونة في الحمام ) حيث شاعرية أحلام الطفولة التي أخذت الشاب وهو يحاصر السلمونة الصغيرة. أما القصة التي اعتمدت الحلم الحقيقي فهي قصة (لعبة العمر) التي تبدو بورخيصية البناء، حيث الصراع مع الزمن وقصتان تجريان في تواز دقيق؛ القصة الأولى تدور في حظيرة الراعي والثانية تجري أحداثها داخل المنبه، حيث يعتمد أرقاما لا تخطئ دلالتها، 12/ يوما وما يحمله هذا الرقم من معان كثيرة تعبر عن عدة الشهور واكتمال دورة الأرض.
– تقانة الكاوس والتشذير:
إن القصة القصيرة هي “المظهر الشذري لسردية العالم “6 تقنية أخرى حاضرة بوعي جمالي كاوسي نسقي، حيث نحا النص إلى التشتت والانفجار والتعددية والمتاهية، كما هي روعة التشكيل اللغوي في عالم مزدحم بالكلمات المتناظرة والمتنافرة أو ما سماه ياكوبسون ‘ الفوضى الجميلة ‘7 وحيث “يصير البناء القصصي خاضعا لجمالية التشذير … منفتحة على اللا انتظام والفوضى والسديم والتيه المجتمعي أو الذاتي ..جمالية الكاوس8، تبدو الكتابة عند السارد عبارة عن سرد حلزوني كما عبر عنه حسام الدين نوالي في تقديمه ص 11؛ سرد ينطلق من البداية ويعود لها في ما يشبه السرد البوليسي، إنه سرد ينطلق من وصف دقيق لمكان ممسوخ أو شجرة بها قصة أو رجل شارد، حال النصوص الكثيرة في المجموعة هو اعتماد هذه التقنية المتاهية والعودة بالقارئ إلى خيط الإبرة، كما هي عند الرافعي (خياط الهيئات) أو كما ذكر كيليطو في “العين و الإبرة”، نجد هذه التقنية في نصوص؛ “لعبة العمر، الفنجان المغبون، عدستان آدميتان واحتفالية تليق بالملائكة و لوحات خلف الستار وذاكرة الساعد والساق”. قد تنحو بعض هذه القصص سردا يبدو أقرب لمنطق العلم، حيث البدايات مشرعة للبحث عن الأسباب، وحيث تتبع خيط الحكاية الذي يقود لمتواليات قصصية تلعب على التضمين أحيانا أو التناسل السردي، كما هو في قصة (تحت السنديانة العزلاء) حيث حكاية الأصهب والشقراء و قصة البغل الخلاسي و قصة الحمار والصياد التي كانت سببا في هذا البغل.
– حفريات الجسد:
قال الخطيبي يوما في “عن ألف ليلة والليلة الثالثة: ” بدون الليلة البيضاء للحب والشهوة، هل توجد هناك حكاية أو كتابة9؟ أو كما قال الشركي ذات حوار: ” هل يوجد حكي خارج مدار الليلة الموعودة للسهر ” هذا الجسد الذي التفت به شهرزاد على شهريار وهي تفتنه بهما معا سرد وجسد؛ هذا الجسد الذي تتبعه جمال بوطيب في كتابه “الجسد السردي” 10، أو ما عبر عنه حسام الدين نوالي في تقديمه للمجموعة ذات مداخلة ( أن الجسد خلق مع الحكاية).
يظهر إذن أن قصص المجموعة كانت على مقاس فاتن وأن السارد في النصوص يقد الأجساد وينحتها بإزميله، إنه شبيه ببجمالون، حيث يحفر في تضاريس الخريطة الأنثوية وحتى الذكورية أحيانا، حفر يذكر بألف ليلة وليلة وبتضاريس الفتى “قمر الزمان”، والأميرة “شمس النهار” وغيرهما، ليجعل ذلك موضوعا للجمال كاشفا للقارئ ما عتم عنه لقمع اجتماعي وخلقي سلطوي؛ ما عبر عنه فؤاد أعراب بأن “القاص عمل على وضع تشريح دقيق لتفاصيل الجسد”11، يتجسد الحفر في قصة “سلمونة في الحمام” أو “تحت السنديانة العزلاء” من خلال استثمار الوشم.
– الشاعريةّ السردية:
سنعمد إلى بيان وجه الشاعرية انطلاقا من كتاب “المحكي الشعري” لتادييه. 12إنها مكمن الاختراق الشعري للسرد، سواء من حيث العنوان (مسخ ذوات الناب) الذي يحيل على شاعرية قصوى؛ حيث اقترح جينيت أن له وظائف “الإغراء، والإيحاء، والوصف، والتعيين ” 13. و”أن الجمهور المعاصر أصبح يستهويه الإيحاء الأسلوبي للعنونة “14 ، ومن شروطه أن يحمل طاقة شعرية جمالية، يخز القارئ في لا شعوره ويحرك مخزونه الثقافي والأسطوري والتاريخي، و لعل السيميائيات كانت مدخلا لدراسته والوقوف على رمزيته وجماله.
إن “مسخ ذوات الناب” يحيل إجرائيا على المسخ الذي أصاب كل من له ناب، من الحيوانات، وإن اقتصر الأمر على عنوان قصة وحيدة في الأضمومة، لكن المسخ يمكن أن يشمل الإنسان بصفته يحمل أنيابا وإن لم تكن جارحة.
تبدو الشاعرية أيضا اخترقت اللغة، فالسارد يطوع اللغة كما يشاء، يمتح من العاطفة والشعر والاستعارة والمجاز، حتى تكاد أحيانا تشعر أنك بصدد قراءة قصائد نثر، من ذلك مثلا نص ( بوح الكلمة ) الذي تختلط فيه القصة بالخاطرة من حيث اللغة، إن كل عناصر السرد مضمخة بحكي خطابي شاعري، (حيث الأمكنة غابات وبحار وكهوف ومقاه وأماكن مقدسة أو أسطورية سحرية)، أما الأزمنة فبدت مخترقة شعريا ما بين غياب لخط السرد وتفجير للزمن عبر تقنيات استرجاعية وأزمنة طفولية، بل و حكي يشد الأنفاس ويدخلك في العتمة الباهرة ولا كينونة الزمن، هي أبدية السرد وقوته التي تجعله يمحو نفسه)، الأمر نفسه لشخصيات السارد ذات المنزع الشاعري، وهي شخصيات فنانة (كما في قصة لوحات خلف الستار، حيث البطل قاص وكاتب مسرحي)، أو شخصيات هلامية أسطورية أو طفولية كما في قصة (عدستان آدميتان، وذاكرة الساعد و الساق و تحت السنديانة..) كما أن الوصف شاعري جدا من حيث تأثيث الأمكنة والجسد ودقة التوصيف عبر الانطلاق من الخلفيات المؤثثة للصورة، كأننا أمام مهندس ديكور حتى لتجد القصة كلها وصفية، إنها تقنية معتمدة في الكثير من القصص من قبيل ( تحت السنديانة العزلاء، لعبة العمر، احتفالية تليق بالملائكة)….
– تقانة الميتاسرد:
تبدو لغة السارد تجريبية متمردة، “ذاك أن الذات الكاتبة مشغولة بإنتاج لغة قصصية ذات ماركة جديدة وخاصة”15، إن الميتاسرد مدخل آخر لجمالية الحكاية المعاصرة، فالقاص يسرد ويكتب في الآن نفسه، عبر إدهاش وعودة لمنابع الحكي المقفعي، تجلى الاشتغال الميتاسردي في نص “لوحات خلف الستار” تلك اللوحات المتخيلة للبطل بسبب إقلاعه عن التدخين وقراءته لمسودة سيناريو كتبه، فإذا به يعيشه حقيقة في خيالاته). كذلك قصة “يوميات كلمة” يتحدث السارد بلسان الكلمة التي أهملها الناس وعن علاقة الكلمة بالمعنى وغير ذلك. – جمالية التناص: المسخ موضوع متناص مع كافكا وماركيز وفيكتور هوغو وغيرهم ، كذا موضوعة التناسخ والسحر واستثمار قصة الوشم ، إن التناص عنصر جمالي استيطيقي يمنح النص شاعرية مميزة.
– خلاصة:
هذه بعض مظاهر الجمال في النص أجملناها في: المسخ، الحلم، حفريات الجسد، الكاوس والتشذير، الشاعرية، الميتا سرد، وهي كما قلنا جعلت النص مائزا بخاصية مروره من السرد إلى التسريد والتحبيك والتطريز، أمور فنية ارتقت بهذه المجموعة إلى مصاف الأضمومات المميزة في المغرب على الرغم من كونها باكورة القاص، لكنها مطبوخة سرديا على نار هادئة لا تتسرع في النشر، قصص زمن كتابتها وصل إلى ثمان سنوات، جمعها القاص في تيمة المسخ، وما فوزها في مسابقة أحمد بوزفور عربيا سنة 2013 إلا دليل على أن القاص قادم بقوة المتخيل، الشيء الذي سيثبته في مجموعته الثانية (عمى الأطياف) الفائزة في مسابقة اتحاد كتاب المغرب.
***
الإحالات و الهوامش:
1-عيسى ناصري: مسخ ذوات الناب، ط1/2016 منشورات ديهيا، مطبعة نجمة الشرق، بركان ص 12
2- شعيب حليفي: شعرية الرواية الفانتاستيكية ، ط1 / 2009 ، منشورات دار الأمان ، الرباط ص 90
3- محمود درويش أثر الفراشة 2008 ص 170
4- غاستون باشلار : شاعرية أحلام اليقظة، تر : جورج سعد، المؤسسة الجامعية للدراسات و النشر و التوزيع ط1 / 1991 ص 16
5- حميد لحمداني: القراءة وتوليد الدلالة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاءط1 / 2003 ص 154
6- محمد أمنصور: شهوة القصص أوراق من مفكرة قاص تجريبي،دار الحرف،القنيطرة ، المغرب، ط 1،2007 ص 36
7- رومان ياكبسون: قضايا الشعرية،تر:محمد الولي و مبارك حنون،دار توبقال ط1 ،1988 ص 71
8- عبد الرحمان التمارة: جمالية النص القصصي المغربي الراهن، منشورات وزارة الثقافة بالمغرب، سلسلة الكتاب الأول، مطبعة دار المناهل، 2010 ص 14
9- عبد الكبير الخطيبي: عن ألف ليلة والليلة الثالثة، مجلة الآداب 198à،ع2-3، ص 41
10- جمال بوطيب: الجسد السردي، منشورات مقاربات، ط2 /2011،ص 31
11- فؤاد أعراب : الهوية و أسئلة الهجانة والحدود، مجلة الكلمة ع 131 مارس 2018
Tadié Jean yves : le récit poétique ? P .U.F
ـ12 1978
13- جيرار جينيت: عتبات ، ترجمة: عبد الحق بلعابد، تقديم: سعيد يقطين ، منشورات الاختلاف ، الدار العربية للعلوم ناشرون ص 78 ? 88
14- نفسه ص 83
15- خوليو كورتازار:مجلة الكرمل، ع3/ 1981 ص 251
> بقلم: محمد العمراني