اعتبر الوشم تراثا موغلا في الثقافة الأمازيغية وجزءا لا يتجزأ من هوية الأمازيغ، إضافة إلى كونه مدونة أنثروبولوجية تعبر عن كينونة الإنسان الأمازيغي، ووجوده الطبيعي والثقافي، فالإنسان الأمازيغي كان يعيش في عالم من الرموز والعلامات والقوانين التي يعبر من خلالها عن انتمائه إلى هويته الأمازيغية ووجوده الحضاري في تامازغا الكبرى أو في منطقة شمال أفريقيا.
ولقد عرفت مجموعة من الشعوب الإنسانية ظاهرة الوشم الجسدي، قبل أن ينتقل إلى شعوب حوض البحر الأبيض المتوسط، حيث ارتبط بمجموعة من العقائد والعبادات والديانات القديمة. وكان الوشم معروفا لدى الصينيين، واليابانيين، والهنود، الأفارقة، والسومريين، والآشوريين، والبابليين، والفرس، و الفراعنة المصريين، واليونانيين، والرومان…ويعني هذا أن الوشم ” ظاهرة قديمة في المجتمعات البشرية”.
لقد مارس الأمازيغ الوشم لغايات عدة طبية منها وغيبية، حيث كانوا يعتقدون أنه يشفي من الأمراض، والخصوبة للعاقر، ويبعد الحسد والفقر والبؤس، فيما اتخذته بعض الشعوب كقربان لفداء النفس أمام الآلهة، كما كان الوشم تعويذة ضد الأرواح الشريرة، ووقاية من أضرار السحر؛ فقد عثر على جثث تعود إلى العصر الحجري الحديث، والتي تثبت الممارسات القديمة للوشم. كما استخدم الوشم لتحديد الانتماء القبلي، وتمييز مجموعة بشرية معينة عن غيرها.
وعرف المجتمع الأمازيغي هذا الوشم كذلك، وخاصة الذين كانوا يقطنون تمازغا الكبرى من مصر شرقا إلى المحيط الأطلسي غربا، ومن الأندلس شمالا إلى ما وراء الصحراء الكبرى جنوبا.
اختلفت رؤى الباحثين، منهم من يقول إن الأمازيغ كانوا متأثرين في ذلك بالرومان، وربما أيضا قد يكون هذا الوشم نتاجا عن التأثر بالديانة المسيحية، كما قال بلقاسم الجطاري في مقاله “الوشم كظاهرة سيميويطقية في الثقافة الأمازيغية”: ظهر الوشم قديما في دول شمال أفريقيا، فحتى القرن السابع الميلادي، كانت تسكن المغرب العربي قبائل أمازيغية تدين لبعضها بالديانة المسيحية نظرا للتأثير المباشر الذي كانت تمارسه الإمبراطورية الرومانية. ويظهر نقش الصليب موشوما على جباه النساء، وإن كنا نرجح أن الدلالة الرمزية لهذا الوشم تعود أساسا لحرف التاء بالأمازيغية”.
انفردت المرأة الأمازيغية منذ عصور خلت بالوشم، باعتباره من بين أهم وسائل الزينة، في ظل غياب مساحيق وأدوات التجميل الموجودة اليوم، فقلما نجد امرأة أمازيغية من الجيل القديم بدون وشم، ولاسيما في البوادي .
ويتخذ الوشم في الغالب، بعدا جماليا واستيطيقيا، إذ يضفي على المرأة سمة الحسن والبهاء والجمال. لذلك، تضعه الأنثى في مختلف أطراف جسمها، وخاصة جهة الوجه، وبالضبط حينما تنقشه في الذقن، والجبهة، والأنف، والخد. والغرض من ذلك هو جذب الآخرين، و إثارة إعجابهم، كما هو حال كثير من الأمازيغيات في الجنوب الشرقي وباقي مناطق المملكة .
في هذا الصدد التقينا بالخالة يطو -هكذا يناديها أهل مرزوكة- تلك السيدة الوقور ذات الثمانين من العمر، موسوعة حية لذاكرة وحكايات قبيلة أيت خباش، أول ما تلحظه على محياها تلك الابتسامة التي لا تفارق ثغرها وتلك الأوشام الخضراء التي على جبهتها وذقنها والتي تراكمت عليها السنون بلا عدد محدد؛ تعلو رأسها كومة من الصوف الأبيض المنكوش، تتخلله فراغات تظهر بعضا من جلدة رأسها بوضوح، رغم ارتدائها لسبنية الأمازيغية الصنع .
جالسة القرفصاء مع جارتيها رقية وفاضمة حول صينية شاي، يتجاذبن أطراف الحديث عن موضوع الوشم ، في تصريحها لنا، قالت إنها كانت واشمة فيما مضى، حيث تعلمت حرفة الوشم عن أمها، مردفة أنها كانت مولعة منذ صغرها بتلك الرسومات التي كانت تزين بها أمها وجدتها ونساء وفتيات القبيلة جباههن وذقونهن، حيث كان يضفي على وجوههن جمالا لا يضاهى، لذا تعلمت طقوس الوشم باعتبارها كانت موهوبة في رسم الوشم، بالإضافة إلى إتقانها لجميع أشكال الوشوم المختلفة، وبذلك استلمت المشعل عن أمها التي كانت بدورها واشمة، مشيرة إلى أن للوشم طقوسا فريدة، حيث تحرص على تطبيقها الواشمة بكل حرفية من خلال توفرها على المواد الضرورية للقيام بهذه العملية: إبر حادة، كحل، رماد الفرن التقليدي، الفحم الأسود، ماءٌ مملّح وأعشابٌ عطرية للتعقيم، لتشرع بخفة أناملها في رسم الشّكل المطلوب باستخدام الفحم الأسود، ثم تبدأ بوخز المنطقة المخطوطة بواسطة إبرة حتى يخرج منها الدّم، بعدها تحكّ المنطقة المجروحة بالرماد. يُترك بعض الوقت، ثم يتمّ رشّه بالماء المملّح والأعشاب للتّعقيم، وبعد أسبوع يلتئم الجرحُ، ثم يتحوّل إلى وشمٍ أخضر جميل يتّخذ شكل حرف + والذي يعني تامطوت بالأمازيغية أي المرأة الجميلة، أو نخلة، أو سنبلة أو دائرة ترمز للشمس أو أفعى أو عنكبوت وغيرها من الأشكال التي كانت متوارثة حينها.
في حين قالت رقية ذات 50 سنة إنها بدورها قامت بوشم جبينها وذقنها ويديها منذ كانت في سن 15 كما جرت العادة في القبيلة، وككل صديقاتها المقبلات على الزواج، لكونه أداة الزينة لديهن حيث يزيد من جاذبية الفتيات المقبلات على الزواج، مشيرة في ذات الصدد أنه ورغم ما جاءت به النصوص المقدسة من تحريم الوشم، إلا أنها لا تستطيع أن تتخلص منه، لأنه على حد قولها طقس من طقوس الأجداد، وإن بدأ يندثر شيئا فشيئا.
أما بخصوص السيدة فاضمة ذات 55 سنة فهي الأخرى كانت من المولعات بالوشم بحيث وشمت في سن مبكرة جبينها وذقنها وأرنبة أنفها برسومات متنوعة من اختيارها، تقول في ذات السياق أنها تأثرت في الآونة الأخيرة بدعوات تحريم الوشم، وأنها أرادت أن تكفر عن خطئها بإزالة الوشم، غير أن الحالة المادية مستعصية، مضيفة أن عملية التجميل تكلف مبلغا ماليا كبيرا، وهذا بحد ذاته عائق يحول دون إزالة الوشم .
وعن جمال المرأة الأمازيغية الموشمة، رسم الرسام الدانماركي “هايكل فرينكل” لوحة فنية من الكلمات، حيث قال:
“أحيانا كثيرة تجدهن في الحقول والمسالك الوعرة في الجبال يرددن صيحات غنائية لا يضاهيها من الحدة والجمال سوى مرأى تلك الأشكال المرسومة بعناية فائقة على خدودهن أو ذقونهن، وأحياناً أعناقهن وأيديهن، نساء تتوحد فيهن أسطورية الرمز والرسومات المفعمة خضرة وزرقة، مع أسطورية الوجوه ومكامن جمال تصر على تحدّي قسوة الطبيعة وصعوبة ظروف العيش ومشاق التحملات اليومية، جمال تتوحد فيه الحقيقة بالخيال، والطبيعة بالإنسان، والألوان بالملامح، والصور بالأصوات، والغناء بالرسم على الجسد”.
وفي كتابه “الاسم العربي الجريح”، يُعرّف الأنثروبولوجي وعالم الاجتماع المغربي عبد الكبير الخطيبي، الوشم بصفته “علامة رمز ـ صورية”، أي أنّ الوشوم وُضعت قديماً بغرض التعريف والتمييز بين الناس؛ ولذلك كان الأمازيغ يمارسون عادة الوشم، الهدفُ الرئيسي منها، كان التمييز بين النساء البالغات والمتزوجات وبين الفتيات اللواتي لم يبلغن بعد.
كما يستعرض الخطيبي في نفس الكتاب دوافعَ أخرى للوشم عند الأمازيغ، مؤكداً أنّه وُضع أيضا لأسباب جمالية مرتبطة بالزينة وجمال الجسد، يقول: “الوشم لوحة حية، تستمد جزءا من فرادتها من حاملها الذي هو جسدُ الإنسان، فهو رسمٌ متحرّك وذو مستويات متعددة تجعلُ منه، في الوقت نفسه، تحفة فنية، تحديا عنيفا ودليلاً على الخصوبة”.
لقد حول الوشم جسد الإنسان الأمازيغي إلى لوحة فنية مقروءة، غنية بالرموز والرسوم، تروي للأجيال اللاحقة خصائص هذه الحضارة.
لكن مع بداية ستينيات القرن الماضي، بدأ الوشم عند الأمازيغ يختفي شيئا فشيئا، فصار له غايات مختلفة تماماً عن السابق، حيث لم يعد يحمل دلالاته الأصلية. وبات من العيب أن توشم المرأة، في حين اقترن فقط بالرجال، وبالمفهوم الشعبي بالمنحرفين أو العاطلين عن العمل. تغيرت الرسومات وأماكنها، ولم يعد الوجه مساحة لها، وأصبحت توضع أساسا على الرقبة والذراع والكتف والأرجل. ولم يعد للوشم أي رابط جماعي، وأصبح لكل رسم أو رمز دلالة تخص صاحبها فقط.
> بقلم: فاطمة الهورشمت