علاقات متوترة بين فرنسا وتركيا تأخذ بعدا أوروبيا

المناورات في شرق المتوسط التي شاركت بها قوات بحرية لأربع دول أوروبية هي فرنسا وإيطاليا واليونان وقبرص، يومي الخميس والجمعة 27 و28 من غشت جنوب قبرص، في المنطقة التي تثير شهية تركيا، ليست الفصل الأخير من مسلسل التصعيد بين فرنسا وتركيا، وهذه الأخيرة وأوروبا.
استعراض القوة العسكري في شرق المتوسط، جاء بين وساطتين أوروبيتين لتليين الموقف التركي فشلتا، الأولى قامت بها إسبانيا والأخرى ألمانيا، جاءت غداة زيارة وزير الخارجية الألماني هايكو ماس إلى كل من أنقرة وأثينا، كما تزامنت مع اجتماع وزراء الدفاع الأوروبيين في برلين، الخميس، وآخر لوزراء خارجية الاتحاد الأوروبي امتد على مدى اليومين المذكورين انتهى بتوجيه تحذير شديد اللهجة إلى تركيا على لسان الممثل الأعلى للسياسة الخارجية جوزيف بوريل، الذي لوح بسلسلة عقوبات «سلسلة تدابير إضافية رادعة قد تتخذها أوروبا»، في لقاء القمة المرتقب نهاية سبتمبر (أيلول) المقبل.
كما أشار إلى أن الاتحاد مصمم على التضامن مع اليونان وقبرص في مواجهة «الأحادية التركية»، بحسب تعبيره.

آلية التصعيد

فما آلية هذا التصعيد بين الاتحاد والجارة المتصلبة، التي لا تتوانى عن التهديد والوعيد تارة، واللجوء إلى الابتزاز تارة أخرى؟
تركيا اعتبرت ترسيم الحدود البحرية بين اليونان ومصر، وكذلك مع إيطاليا تحديا سافرا لمصالحها، لكنها من جهتها سبق أن وقعت عقدا مشابها مع ليبيا في نونبر 2019، فما كان منها سوى إرسال السفينة أورك ريس، للتنقيب في شرق المتوسط. و»أورك ريس»، كان يفترض أن تنهي مهمتها في 27 أغسطس الحالي، لكن مددت لها حتى الأول من شتنبر المقبل. التنقيبات أثارت حفيظة اليونان التي لم تتوان عن تهديد تركيا باللجوء إلى القوة في حال استمرارها.
من هنا كان سعي الدبلوماسية الأوروبية إلى تفعيل الوساطة وفتح أبواب الحوار، لكن دون التهاون في مسألة الحقوق والسيادة، وتصريح بوريل بأن «التنقيب يشكل انتهاكاً لسيادة اليونان وقبرص» ليس سوى إشارة واضحة.
المواجهة المحتدمة بين الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان وإيمانويل ماكرون، فما أبعاد هذا التوتر وأثره على العلاقات الثنائية بين البلدين؟
التصعيد بين باريس وأنقرة بدأ عندما اعترضت رادارات البحرية التركية الفرقاطة الفرنسية «لوكوربيه»، واحتجت فرنسا على ذلك لدى حلف الأطلسي، دون جدوى، مما أدى إلى انسحاب القوات الفرنسية من مهمة المراقبة البحرية «سي غارديان».
وكررت باريس أن المناورات ليست بهدف التصعيد، ولو من باب المجاملة، وفي هذا السياق نشرت وزيرة الجيوش الفرنسية فلورانس بارلي، تغريدة على تويتر قائلة «رسالتنا واضحة الأولوية للحوار، للتعاون، والدبلوماسية في شرق المتوسط ليبقى المتوسط مساحة استقرار، واحترام للقانون الدولي». 
وأضافت «شرق المتوسط ليس ملعباً لطموحات البعض». كذلك أشارت مصادر وزارة الدفاع الفرنسية إلى أن عملية المناورات التي حملت شعار «ايفنوميا»، كانت مقررة منذ مارس الماضي.

تراجع نوعية العلاقات بين فرنسا وتركيا

وهذه ليست المرة الأولى التي نشهد فيها تصعيدا باللهجة بين باريس وأنقرة، فالعلاقات شهدت توتراً لدى الاعتراف بالإبادة الجماعية ضد الأرمن عام 2001 ويومها ساءت العلاقات بين الرئيس نيكولا ساركوزي والرئيس التركي.
لكن المؤسف كما يقول المحلل الإستراتيجي المتخصص بالشأن التركي، ديديه بيون، من مركز الدراسات الإستراتيجية «IRIS» إن تصعيد اللهجة والأزمات المتتالية بات أمرا روتينيا في العلاقات الفرنسية التركية منذ عهد ساركوزي والتوتر بات يحدث على فترات متقاربة، وبشكل متكرر. ويشير إلى أن الأزمات بين البلدين متعددة ولكن في كل مرة كنا نجد الحل، وفي كل مرة تترك هذه الأزمات أثرها على العلاقات الثنائية التي تعود بعد كل عاصفة، على مستوى أقل نوعية من السابق.
وبالنسبة لبيون، هناك ثلاث ملفات أساسية في العلاقات مع تركيا:
ـ أولها، ملف العلاقة مع الأكراد، والتدخل التركي وقصف أكراد حزب التجمع الديمقراطي في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، «ماكرون كان من وجه اللوم بأقسى درجة إلى تركيا».
– الملف الليبي، في يونيو (حزيران) حيث تدخلت تركيا وغيرت المعادلة السياسية من وراء فرنسا. 
– الملف في شرق المتوسط هناك مقاربتان لأوروبا في هذه القضية المقاربة، بالتصعيد العسكري مع السفن البحرية ويترأسها ماكرون، والمقاربة الدبلوماسية، التي تترأسها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل.
ويشير بيون إلى صعوبة الاستناد إلى القانون الدولي البحري في ترسيم الحدود بين اليونان وتركيا نظرا للتضاريس الجغرافية، مما قد يمنع تركيا من الاستفادة من الثروات النفطية. «تركيا ترى أن هذا الأمر غير ممكن نظراً للتضاريس الجغرافية جنوب بحر إيجيه، ففي حال تطبيق القانون الدولي يصبح البحر عبارة عن بحيرة يونانية لا يمكن لتركيا أن تستفيد من ثرواتها».

تصعيد اللهجة

وقابل أردوغان المناورات بتصعيد اللهجة قائلاً إن «تركيا ليست بلدا يمكن اختبار صبره، وإذا قلنا سنفعل، فسنفعل، ونحن مستعدون لدفع الثمن». وللإشارة إلى أن المناورات هي على خط مكمل للجهود الدبلوماسية التي تدعو إليها أوروبا. 
وحسب مصدر دبلوماسي أشار إلى «اندبندنت عربية»، «كلا المسارين، المساعي الدبلوماسية التي تحث للحوار والمناورات البحرية تسعى لهدف واحد – بسط الاستقرار في المنطقة والحد من التصعيد». 
صحيح أن ماكرون وميركل أشارا خلال اجتماعهما الأخير في باريس، في 20 أغسطس إلى أنهما لا يتبعان حتماً الأسلوب ذاته في التعامل مع القضايا، لكنهما يتفقان على الأهداف الحفاظ على سيادة أوروبا في شرق المتوسط. وتلويح بوريل بأن تركيا خرقت سيادة اليونان وقبرص. هو إشارة واضحة إلى تركيا أن أوروبا لن تتهاون مع أي خرق لسيادة أعضائها.
وما يمكن استنتاجه من هذه المناورات ومن تصريح بوريل أن ألمانيا والممثل الأعلى للعلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي كانا قلقين من المناورات، مما يعني أن أوروبا تستخدم القنوات الدبلوماسية لدفع تركيا إلى الحوار، في حين يقدم الطرف الآخر بقيادة فرنسا لتحذير أنقرة بلغة عسكرية أن اليونان ليست وحيدة. 
ففرنسا وبعد البريكست باتت القوة العسكرية الأهم في الاتحاد الأوروبي، من هنا تذكير وزيرة دفاعها «أن شرق المتوسط لا يجب أن يكون ملعباً لطموحات البعض».
وتحاول برلين أداء دورها في رئاسة الاتحاد الأوروبي على أكمل وجه لكنها في الوقت عينه مرتبطة بعلاقات تاريخية، واقتصادية مهمة مع تركيا إضافة إلى ذلك وجود جالية من أصول تركية بنسبة كبيرة في البلاد. 
تركيا التي تعتمد على سياسة الترهيب والابتزاز تلوح منذ اندلاع الحرب في سوريا بورقة المهاجرين، وألمانيا تخشى تكرار تجربة عامي 2015 – 2016 عندما فتحت تركيا الباب على مصراعيه لتدفق اللاجئين إلى أوروبا واستقبلت ألمانيا أعداداً كبيرة منهم أزمة أدت إلى توقيع اتفاقية مع الاتحاد الأوروبي حصلت بموجبها على المساعدات المالية مقابل وقف تدفق اللاجئين. ورقة تستغلها تركيا للحصول على تنازلات في المسائل التي تطالب بها في بروكسل. ففي شهر فبراير الماضي سمحت بعبور اللاجئين إلى اليونان عبر حدود سكرميش. 

أوروبا رهينة مشكلة اللاجئين

وأوروبا تبقى رهينة مشكلة اللاجئين ما دامت لم تتوصل إلى سياسة موحدة تتشارك بها كافة الدولة بتحمل أعداد اتفاقية دبلن التي لم تر النور لأن عدداً من الدول رفض استقبال اللاجئين من الدول الأخرى. ومن المتوقع التوصل لاتفاقية جديدة لا نعرف مدى طموحها وقدرتها على فك طوق مشكلة اللاجئين.
ففي حين كان التوتر يشوب هذه العلاقات بين الحين والآخر على أساس مبادئ حقوق الإنسان والمسألة والاعتراف بالمجازر في حق الأرمن، ومسألة حقوق الإنسان، وتطبيق الشروط المفروضة على تركيا لدرس ملف انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، باب تطرقه منذ عقود، انتقل جوهر التوتر إلى حلبة جيواستراتيجية تحددها أبعاد التنافس في شرق المتوسط على مخازن الغاز والنفط، وارتبطت هكذا بما يشهده حوض المتوسط وتتداخل فيه مصالح كل الدول المتشاطئة كاليونان، وقبرص ولبنان ومصر وليبيا وتحاول في ذلك تركيا أن تبرز هيمنتها وتفوقها في هذا الملف. 
ويرى بيون «أن على الجميع النظر إلى عمق المشكلة إذ لا يمكن الهروب من المفاوضات، وعلى فرنسا كما جرت العادة أن تتخذ مبادرة إيجابية، ولا تكتفي بدبلوماسية التصريحات. العودة إلى الخط الذي اتبعه شيراك في عامي 2002 – 2003 حين عارض الحرب على العراق». 
ضعف أوروبا يبقى عدم قدرتها على توحيد الموقف فيما يتعلق بمسائل الدفاع والسياسة الخارجية، والولايات المتحدة تبقى الأقوى في هذا الشأن، أقوى من أي موقف أوروبي موحد، وأقوى من أي دولة أوروبية على حد سواء، حسب تعبير براء ميكائيل، مدير مركز الأداء الإستراتيجي، وأستاذ في جامعة سان لويس في مدريد.
وما يؤخذ على الدبلوماسية الأوروبية أنها لا تضافر جهودها لإيجاد توافق وإجماع وتسعى لتغليب رأي كل دولة على حدة.
فتركيا تحاول فرض الأمر الواقع عبر تأكيدها على التنقيب عن الثروة النفطية وتصميمها على الاستفادة منها، رغم اعتراض قبرص واليونان.

Related posts

Top