“…حفل التاريخ الإسلامي بأسمائهم بعد أن ارتقوا قمم العلوم وتوجهوا بها لخدمة الإسلام والمسلمين، آثروا حياة الثورة والنضال على حياة الترف والبذخ والرخاء…، حملوا فكرهم وعلمهم سلاحاً للدفاع عن القضايا الوطنية للأمة، فكتبوا وأبدعوا فكراً وديناً وشعراً وابتعدوا عن خانة “الغاوُون” فلا هم في كل واد يهيمون ولا يقولون ما لا يفعلون، عاشوا أحراراً مرفوعي الرأس دون أن تسمح أقلامهم أن تكتب نفاقا وتزلفا لحاكم أو سلطان، ودون أن يرفع سيفهم إلا نصرة للحق والمُستضعفين.. أحسنوا في تفسير الحرّية الغربية وقابلوها استئناساً بالليبرالية الشائعة في الغرب والدائرة على كل لسان حينما رأوا فيها العدل والإنصاف…، أوضحوا أن السير في طريق التنمية والتطور واكتساب المعرفة يقتضي بالضرورة وجود دعامات الحرّية والعدل والمساواة التي تجد مصادرها في الشريعة الإسلامية حيث المنهج والدستور الكامل والشامل، حيث مصطفى كامل وأنور الجندي والشيخ علي الغاياتي والخطابي والمراغي والنديم وياسين وعلال الفاسي والبنا وإبن تاشفين وأبو الحسن الندوي وغيرهم من رجالات الفكر العربي والإسلامي، إنهم عمالقة الفكر والتنوير ورواد الأصالة الإسلامية،… إنهم “رواد وعمالقة مسلمون” آثروا الثورة عن الثروة…
عبد الرحمن الكواكبي.. شهيد الحرّية
عدو الاستبداد الذي تحدّى طغيان السلطان العثماني عبد الحميد
عندما دفنه مُشيعوه من أبناء الشعب المصري وأحرار العرب في مَقابر باب الوزير بسفح جبل المُقطم، كتبوا على قبره كلمة الشهيد لتُشير بأصابع الاتهام إلى الأتراك العثمانيين وطاغيتهم حينئذ السلطان عبد الحميد، فحسُّ الجماهير لم يكن بعيداً عن مُلامسة الحقيقة حيث واقعة اغتيال هذا العالم الخفاق في حياة الإسلام والعرب كانت مؤكدة، لكن من يتصدّى لجبروت السلطان عبد الحميد خليفة المُسلمين ورأس الإمبراطورية العثمانية، فبعد الكواكبي كان هناك العشرات الذين تصدّوا لاستبداد حكام الأستانة رغم كونه بقي الرائد في فضح الاستبداد وشن حرب متعدّدة الجهات ضد الظلم والفساد الذي أدى بالخلافة العثمانية الإسلامية إلى المأزق التاريخي الذي انتهى بانهيارها وبيد من؟ بيد نفر من أبنائها الذين أعلنوا سقوط دولة الخلافة وقيام دولة علمانية بقيادة جماعة الاتحاد والترقي بزعامة مصطفى كمال أتاتورك.
المدرسة الكواكبية
لم تكن معركة الكواكبي قد انطلقت من الفراغ بقدر ما أسسّت لها ممارسات الأتراك العثمانيين في بلاد العرب التي تجاوزت كل حدّ معقول ومسموح به من الظلم والاضطهاد والاعتداء على روح وجوهر ديننا الحنيف الذي جعل العدل والمساواة جوهر الإيمان وسياجه المتين، وفي هذا الجو الذي يملأ آفاق الدولة العثمانية بريح الاستبداد والظلم وفي مدينة حلب السورية وفي بيت من بيوت العلم والمجد ولد عبد الرحمن الكواكبي سنة 1854 لوالده أمين الإفتاء في حلب السورية الذي سارع إلى حجز مقعد لطفله بالمدرسة الكواكبية التي كانت شبيهة بالأزهر الشريف لتعليم طفله الصغير أصول الدين وعلوم اللغة العربية والفرنسية والتركية والمنطق والرياضة والطبيعة، حتى أخذ الشاب يتقلد المناصب الهامة والحيوية في جهاز الدولة حيث منصب التحرير بأحد الصحف ورئيس المَحكمة الشرعية فمنصب القضاء ورئيسا للبلدية في نهاية المطاف، وفي هذا يروي لنا الكاتب محمد عمارة (عبد الرحمن الكواكبي: شهيد الحرّية ومُجدّد الإسلام) الصفات الحسنة والفتية التي تحلّى بها الكواكبي وأهلته سريعاً إلى تقلد المناصب السياسية والمقامات العليا والسامية في الدولة: “…….إنه روح ثائرة لا تعرف الخضوع، ونفس تتوق إلى الكمال لا يَشغلها عنه شاغل، وإرادة صلبة لا تتوانى عن مواجهة الظالمين وفضح المُستبدين، وعزم لا يلين في نصرة الضعفاء والمظلومين، وعقل متوقد بنور العلم مُتبصر لدقائق الأمور، ومُستشرف للمآلات الخطرة إذا ما استمر المُستبدون في غيّهم يعمهون، وفي باطلهم يتردّدون، إنه عبد الرحمن الكواكبي ذو الخلال النبيلة والخصال الرائعة، وقد تحدر من أشرف الأصول، إذ ينتسب من أبويه إلى سيد شباب أهل الجنة الحسين بن علي بن أبي طالب؛ فنشأ على خير ما تكون النشأة في بيت علم وفضل، في حلب الشهباء بسورية؛ وبرغم وفاة والده وهو في السادسة إلا أن الله عوضه بخالته صفية، التي انتقل للعيش معها بإنطاكية، وهناك التحق بمدرسة نجيب النقيب وهو أحد أقارب والدته؛ فتعلم التركية وأتقنها، ومرت فترة وهو يتنقل بين حلب وإنطاكية طلبا للعلم، فلما بلغ الثانية والعشرين التحق كمحّرر بجريدة كانت تصدر باللغتين العربية والتركية تسمى (فرات)، وكانت تُعتبر الجريدة الرسمية لولاية حلب، وبرغم أنه كان يتقاضى راتباً جيداً إلا أنه لم يطق قيود الكتابة في الجريدة التي كانت تحت إشراف الوالي التركي؛ فتركها وأسًّس هو والسيد هاشم العطار صحيفة الشهباء التي صدر منها خمسة عشر عددا ثم صدر بحقها قرار إغلاق بأمر كامل باشا القبرصي، الذي سيصير فيما بعد صدرا أعظم للدولة العَليّة، ومن الواضح أن الصحيفة وما حوته من مقالات الكواكبي وصاحبه كانت قد ألهبت ظهور الأتراك بسياط النقد اللاذع بسبب تردّي الأوضاع وانتشار المظالم، لكنه لم يستسلم وعاود العمل الصحفي من خلال صحيفة أخرى هي الاعتدال، التي ما لبثت أن أغلقت بأمر من جميل باشا، الذي سيصير عدوا لدودا للكواكبي لفترة ليست بالقصيرة…”.
اغتصاب نقابة الأشراف
رغم الفوائد التي اكتسبها الكواكبي من هذه الفترة ورغم الخبرات العملية التي حصل عليها إلا أن طبيعته الحرّة ما كانت لتسمح له بأن يعيش داخل جهاز دولة آل عثمان، فترك سلك الوظائف الحكومية ودخل ميدان التجارة الذي تعلّم فيه الكثير والكثير من الخبرات حيث أخلاق المجتمع في مدرسة المجتمع (السوق) دون أن تعي الأمة حينها بأن هذا التاجر الصغير سيكون مهيئا لقيادة الدور الاستثنائي في الحياة، بعد أن خرج إليها مُفكرًا حرّا وصوتاً صادقاً يملأ النفوس بالآمال عبر صفحات جريدة الفرات والاعتدال والشهباء التي أخذ الشعب يُبصر معها خيوط النور التي تشير إلى باب الحرّية التي لم يبصرها السلطان عبد الحميد الذي سارع إلى تعطيل تلك الصحف ظاناً منه بأن ذلك سيُعطل من مَلكة التفكير لدى الكواكبي ويبدّد طاقات النضال لديه، وفي هذا يقول زكريا فايد في كتابه الجديد (أعلام النهضة العربية): “… لم تكن شجاعة الكواكبي النادرة في صراعه وطغيان العثمانيين يرجع إلى تلك السجايا الذاتية التي تحلت بها شخصيته العملاقة، ولا لذلك الفكر الذي تسلح به وبذر بذوره في حلب منذ أطل على حياتها العامة وهو في الثانية والعشرين من عمره وإنما كان له إلى جانب ذلك تأييد الناس ومُساندتهم لجهوده وجهاده زاد مُتجدد استعان به في نضاله وأعانه على مواصلة النضال وحسبنا التوقف (فقط) عند حادثتين هامتين في حياة هذا المجاهد الكبير ليتبين لنا مدى حب الجماهير لتلك القيم التي دافع عنها الكواكبي، كانت الحادثة الأولى عندما حاول أبو الهدى الصيادي ذو الخطوة الكبيرة عند السلطان عبد الحميد ومبرر ومفسّر كل تصرفات الاستبداد لحكام الأستانة أن يغتصب من أسرة الكواكبي (نقابة الأشراف) ليخوض الكواكبي ضده معركة ضارية بدعم من الرأي في الولاية الذي وقف إلى جوار مفكرنا الكبير صابا جام غضبه على الصيادي الذي أصبح رمزا للتخلف والجمود والاتجار بالدين ورفض الناس تصديق صحة نسبه بعد أن رفض الكواكبي التصديق عليه، أما الحادثة الثانية فإن آثارها تبدأ عندما استطاع الوالي التركي عارف باشا تزوير بعض الوثائق التي تدين الكواكبي بالاتصال بدولة أجنبية والاتفاق معها على تسليم المدينة لها ويودع الكواكبي السجن ويحكم عليه قضاء الولاية المرتشي بالإعدام، فنرى الرأي العام يهب مدافعا عنه مطالبا بإعادة محاكمته أمام محكمة بيروت بعيدا عن نفوذ الوالي وسلطانه، وبعيدا عن قضائه المرتشي وتفلح تلك الحملة في نهاية المطاف بإعادة المحاكمة من جديد لتبرئ المحكمة البيروتية ساحة الكواكبي ويعود من جديد إلى الحرية..”.
أغاني التحرّر والانعتاق
“…أدرك الكواكبي على إثر ذلك أن المعركة ضد آل عثمان ممتدة وأن جبروت الاضطهاد لن يقف عند هذا الحد وأن السلطات العثمانية قرّرت التخلص منه بأي ثمن، ففضل الهروب إلى سنة 1899 التي كانت حينئذ تحت حكم الخديوي عباس حلمي الثاني بعيد الوفاق مع السلطان عبد الحميد، تناقض جعل من مصر عاصمة وقبلة لكل المفكرين الأحرار والجماعات الثائرة ضد ظلم العثمانيين، فانطلق حينها إلى عقد الندوات والمؤتمرات من مقهاه الرئيسي (اسبلنديدبار) بحي العتبة القاهري بعد أن تجمع من حوله مريدوه كما فعل الأفغاني يطالبون بالحرية والاستقلال والتفكير والرأي، يهتف مع أصواتهم بأغنيات التحرر والانعتاق حتى في ظل اللحظات التي سلكها في الصحافة المصرية وعلى صفحات جريدة (المؤيد) التي امتلأت صفحاتها اليومية بدعوات الكواكبي للتحرّر والإصلاح التي صاغها بعد حين في كتابيه الخالدين “أم القرى” و”طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد”، وفي هذا يستطرد زكريا فايد بالقول: “…. لم تنسَ السلطة الاستبدادية مواقفه تلك، ففي أول فرصة ألقت القبض عليه وأودعته السجن لبضعة عشر يوما بعد محاولة اغتيال فاشلة لجميل باشا قام بها أحد المحامين الأرمن، ولكن ثورة الشعب أجبرت السلطات على إطلاق صراح الكواكبي بل وتعيينه رئيسا لبلدية حلب، لتتأجل المواجهة بينه وبين السلطة إلى أن يقوم أحد رجال السلطة ويدعى عارف باشا بتزوير بعض الوثائق حتى يدين الكواكبي بتهمة التخابر، وتم عمل محاكمة هزلية له بحلب أمام قاض عُرف عنه عدم ممانعته في تلقي الرشاوى فحكم عليه بالإعدام، فثارت ثائرة الشعب بصورة غير مسبوقة مما اضطر السلطات لإعادة محاكمته أمام محكمة بيروت التي قضت ببراءته وأثبتت زيف الوثائق المقدمة ضده، فعاد إلى حلب مرفوع الرأس بعد أن غلب سطوة المُستبد وكسر شوكة غروره….”.
> إعداد: معادي أسعد صوالحة
كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في المغرب