صدر للكاتب والناقد المسرحي الدكتور لعزيز محمد كتابا جديدا يحمل عنوان: “حدود التأويل.. قراءة في إبداعات مسرحية”.. يتضمن هذا الكتاب الذي يقع في حوالي 170 صفحة من الحجم المتوسط، وتزينه لوحة للفنان التشكيلي سعيد راجي، قراءة في عشرة أعمال مسرحية توزعت بين نصوص وعروض متباينة المرجعيات، ومختلفة المبدعين. هي قراءات خاصة بإبداعات مسرحية مغربية تابع فيها الناقد مجريات بعض الأعمال المسرحية التي سمحت ظروفه الخاصة بمتابعتها..
هذا الكتاب الجديد للدكتور لعزيز محمد، يشمل قراءات في عروض مسرحية تنوعت بين فرجات مسرح الشارع، وعملين للكاتب الحسين الشعبي هما “الساروت” و”لوزيعة”، و”حلم ليلة دم” للدكتور شكير عبد المجيد، وعرض “شوكولاشو” للمخرج بوسلهام الضعيف عن نص للفنان عصام يوسفي، ونص “جرح في عضو رجل” للكاتب الدكتور أحمد أمل، وعرضي “الرامود” و”بويا عمر” إخراج الفنان بوسرحان الزيتوني، وعمل للفنان خالد جنبي بعنوان “أمرّ”، وأخيرا عمل “آخر 15 ثانية من حياة العقاد وقاتله” كتجربة حضرت مهرجان المسرح الجامعي بنمسيك بالدار البيضاء في دورته الماضية.
بمناسبة إصدار هذا الكتاب، خص الدكتور لعزيز بيان اليزم بالورقة التالية:
منظومة قراءة العرض المسرحي بين التفسير والتأويل..
لعل الخيط الناظم في قراءة هذه الأعمال النصية والعرضية يكمن في فعل القراءة ذاته، إذ مثلت قراءة هذه الأعمال المسرحية – من جهة – عودة الفنانات والفنانين المسرحيين للقاء الجمهور المغربي، بعد مرحلة كورونا، ولملاقاة غبار الخشبات وعرق التشخيص والشوق لعيون وآذان المتفرجين، لمواصلة مسار لا يزال طويلا لتحقيق مسرحنا لأهدافه المجتمعية والفنية والجمالية. ومثلت من جهة ثانية ملامح لحظة زمنية من تاريخ المسرح المغربي إبداعا وقراءة.
لقد سارت مقالات الكتاب، وفق منظومة قرائية حاولت أن تعي ذاتها، وأن تعي قراءتها بما هي تفسير وشرح وتأويل.. وذلك انطلاقا من كون فعل القراءة تنويعا في التأويليات باعتبارها سبيلا إلى معرفة حدود كل قراءة ومنهجيتها وأخلاقياتها، وعلاقة ذلك بالمعاني الثاوية في النصوص والعروض المقروءة. كل ذلك من أجل الاطمئنان إلى مقبولية بعض القراءات دون أخرى، وإن تساوت معها في القيمة.. وقد ألمحت في هذا الكتاب إلى أن حدود القراءات التأويلية ترغم القارئ على إزاحة ما أسماء عبد الفتاح كيليطو بالقراءة المغرضة، القراءة التي تصدر عن سوء نية، أو عن نية مبيتة للإساءة إلى العمل الأدبي أو الفني أو إلى صاحبه. من هنا تحضر عند كل قارئ جملة أسئلة على رأسها: كيف ينبغي أن نقرأ العمل المسرحي؟ وما هي شروط ومقاييس القراءة الجيدة؟ وإلى من يحتكم في قراءته أي من يقول له هذه قراءة جيدة أو رديئة؟ صحيح أن أسوأ القراءات إلى جانب القراءة المغرضة، تلك القراءة المعروفة بالقراءة “البروكوستية” تلك التي يقطع فيها القارئ أجزاء العمل الإبداعي حتى توافق سريره، أو يمطط العمل حتى يتناسب وطول سريره، أي القراءة التي يتم فيها لي أعناق الأعمال حتى تتواءم ومقترحها التأويلي.
وإذا كانت القراءة هي مجموع السيرورات التأويلية المساهمة في عملية تلقي الفرجة كما يقول باتريس بافيس(1)، فإن الملاحظ لا تخطئ متابعته العديد من التأويلات لمكون مسرحي أو أكثر حين تذهب مذاهب شتى تصل أحيانا حد التناقض. ومع ذلك فلا أحد يستطيع أن يمنع قارئا من تأويل هذا المكون أو هذا العمل التأويلي الذي يرتضيه كل قارئ باحث، فعملية التأويل عملية مشروعة باعتبارها توجها معرفيا. وإن الأعمال الإبداعية لا تفهم بالوصف المباشر، بل إنها تتطلب تأويلات مادامت تشكل خبرة إنسانية. غير أن ذلك لا يمنع من ضبط عمليات التأويل، إذ أن ضربها في كل الاتجاهات وكيفما اتفق طرح العديد من المشكلات الهيرمينوطيقية والفيلولوجية، لذلك فإن العملية التأويلية ليست ميسورة لأي كان، بالرغم من أنها عملية مشروعة لكل الناس، هي عملية مركبة يحتاج صاحبها التزود بعلوم ومعارف متنوعة وحديثة تواكب مستجدات العلوم الإنسانية بمختلف مشاربها وأشكالها، ليس ذلك وحسب بل وفي أرقى وأحدث نماذج تلك العلوم. كل ذلك من أجل تعرف سيرورة إنتاج الدلالة، وكيف تشتغل العلامات، وأشكال التأويلات وأبعادها.
إلى جانب ذلك فإن عملية التأويل ليست مفتوحة ومشرعة، أو كما يقول سعيد بنكراد “إن التأويل ليست فعلا مطلقا، بل هو رسم لخارطة تتحكم فيها الفرضيات الخاصة بالقراءة، وهي فرضيات تسقط انطلاقا من معطيات النص، مسيرات تأويلية تطمئن إليها الذات المتلقية”، وكأن سعيد بنكراد ومن ورائه أمبرتو إيكو يجيبان على سؤال ساذج مفاده: أليست هناك آلية يلجم بها المبدعون متفرجيهم على فهم معين، فهم واحد دون غيره لكل المتفرجين؟ بل إنه جواب يسري بشكل واضح على الممارسة المسرحية، وخصوصا نص العرض المسرحي حيث تتصادى لغات وخطابات متنوعة، وتصطدم أشياء وأجسام وظواهر متباينة، لا يهم في كل ذلك التصادي غير الأثر الذي يتركه الواحد منها في الآخر، والمخلفات التي ينطبع بعضها بالبعض الآخر ويتعلق بها. يتجاوز الأمر هنا صناعة العرض المسرحي إلى أسئلة يعمد إليها القارئ لتبيان ما كان قد جال في مخيلته، وتوارد في ذهنه، فيسير للكشف عنها، ويثوق الوصول إليها، والسبب في ذلك كله أن كل الأجسام والأشياء واللغات تتدثر بحجب مختلفة تتكفل العين والأذن والذهن والثقافة والتفكير.. بالكشف عنها وتفسيرها.
وإذا كانت كل عملية تأويلية مرتبطة بزمانية الموضوع المراد تفسيره، وبزمانية القارئ ذاته، فإنه، من ثم، لا يمكن أن تكون عملية التأويل عملية عشوائية وفي الآن ذاته لا يمكن أن تكون جامدة تنضبط لقواعد صارمة؛ الأمر الذي يؤكد نسبية العملية التأويلية مهما ادعت لنفسها الكمال، إذ لا يمكن لأي قراءة لعرض مسرحي، أن تدعي الحقيقة الكاملة والمطلقة، ففي الإبداع الفني باعتباره أرقى مجالات المعرفة الإنسانية لا مجال لادعاء الحقيقة المطلقة. لا غرابة أن يتعدد قراء العمل الواحد، وأن تتباين تفسيراتهم، وتختلف رؤاهم للعمل المسرحي الواحد. غير أن السؤال الأساس يبقى في حدود هذه التفسيرات، والشروط الموضوعية التي تحد من انطلاقتها في كل اتجاه، وتحد من تفسيرات لا نهائية حين يسمح القارئ الواحد لنفسه أن يقول بصدد عمل ما، ما يحلو له.
ها هنا تبدو أن الهيرمنوطقيا تسعف في تعدد التفسيرات والتأويلات بحيث نجد أن في تعاملها مع العمل الفني لا تخضع لقواعد وشروط ثابتة، ومع ذلك فإنها (الهرمينوطيقا) بقدر ما ترفض النسبية المطلقة ترفض أيضا الموضوعية المطلقة، كما ترفض تساوي قيمة القراءات المختلفة؛ لأن العمل الفني يحمل في ذاته ما يجعل القارئ يعثر على مبررات “الجودة” أو “القوة” لتأويل مقابل تأويلات أخرى، ليبقى الباب مواربا لكل تأويل جديد قادم والذي قد يكون “الأفضل”. أما التأويلات المطروحة والقائمة فتتقاسم المواقع إلى حين ظهور هذا الجديد الأفضل.
إن العملية التأويلية للإبداع المسرحي لا تقل تعقيدا وتركيبا عن العملية الإبداعية نفسها بسبب أعداد المشاركين فيها، وزاوية نظر كل واحد من أطقم الإنتاج تقني وفني وإداري من جهة، وأنها، من جهة ثانية، مرتبطة أشد الارتباط بزمن القراءة، ومدى علاقتها بزمن الإبداع مواكبة أو لحاقا بها، لحاق قد يكون قريبا أو بعيدا، فالقيمة والأهمية تتبدل بحسب الشروط الزمانية والمكانية، والحضارية والثقافية والفنية.
ولأن المسرح منظومة أشمل وأوسع من باقي الإبداعات الأدبية والفنية لاشتماله على دوال لغوية وغير لغوية، وجملة فنون وآداب (شعر، سرد، موسيقى، تشكيل، ملابس، إضاءة، مؤثرات سمعية وصوتية…)، فإن فعل التأويل يتحدد بالنوع الثقافي والتخييلي، والظروف الحياتية، والتاريخية والفنية للقارئ المتفرج..
- Patrice Pavis -pour une esthétique de la réception théâtrale. p :37
بقلم: د لعزيز محمد