تتوخى هذه القراءة في رواية “فوضى في حديقة الشيطان” للروائي الأردني مصطفى القرنة، إبراز جانب مما تطرحه الرواية من قضايا إنسانية ورمزية، ومن أسئلة لها علاقة بحقوق الإنسان، وعلى رأسها الحق في العيش وفي حياة كريمة، في مخيمات العار بتندوف.
يعرف الأديب الأردني مصطفى القرنة، في الأوساط الثقافية والأدبية العربية، بكتابته للرواية والشعر والمسرحية والقصة القصيرة، حيث حقق في هذه الأجناس الأدبية جميعها تراكما مهما ومضيئا، أثرى به المكتبة الأردنية والعربية والعالمية؛ إذ ترجمت مجموعة من أعماله إلى بعض اللغات الأجنبية، بمثل ما حظيت أعماله الأدبية، وخصوصا الروائية منها، بترحيب نقدي واسع بها، داخل الأردن وخارجه، فأنجزت عنها مجموعة من الكتب النقدية والأبحاث والدراسات، التي تناولت بعض المكونات المهيمنة في رواياته، من قبيل: “السمات الأسلوبية”، و”البعد الأسطوري”، و”المكان”، وغيرها…
ويبدو من خلال التراكم الإبداعي العام الذي حققه الأديب مصطفى القرنة، أن الرواية تحديدا قد شغلته، أكثر من غيرها من الأجناس الأدبية الأخرى، رغم أهميتها ودرجة حضورها، هي أيضا، داخل اهتماماته الإبداعية المتنوعة، وهو ما يظهر جليا من خلال عدد الروايات الصادرة له لحد الآن، مقارنة بغيرها من النصوص الإبداعية الأخرى. فقد صدرت له، على مستوى جنس الرواية، مجموعة من النصوص الروائية، في تميزها بموضوعاتها وثيماتها وأشكالها وأسئلتها، وفي تنويعها في توظيف عديد من المكونات فيها بشكل لافت، وخصوصا على مستوى رصدها للقضايا الإنسانية، في بعض المجتمعات العربية والأجنبية، وتمثلها للأسطورة، والتراث، والتاريخ، والمكان، وغيرها، في تلويناتها المختلفة، وفي أبعادها الزمنية القديمة والراهنة…
ويعتبر الروائي مصطفى القرنة، في هذا الباب، من بين أهم الروائيين المشارقة الذين أولوا اهتماما روائيا خاصا لـ “المغرب”، من خلال استيحائه، في بعض رواياته، لبعض مدنه وصحاريه، انطلاقا مما يعرف به الروائي القرنة من امتلاك لمخزون ثقافي واسع، ولمعرفة عميقة بالمغرب، بلدا وحضارة وجغرافيا ومدنا وساحات وتاريخا وتراثا وثقافة وأساطير وخرافات وحكايات وظواهر، بمثل معرفته الدقيقة، جراء كثرة زياراته للبلد، بلهجات البلد وعاداته وتقاليده وأكلاته الشعبية، وكذا معرفته بشخصيات المغرب التاريخية ومستعمريه وسلالاته ورجالاته وأوليائه، وهو ما ينزع عن روايات مصطفى القرنة، الصادرة له عن المغرب، أي طابع للغرابة فيها، ما يدفعنا نحن إلى الاعتقاد بأن الروائي مصطفى القرنة هو “أديب مغربي”، وسارد كلي المعرفة…
فعلى سبيل المثال، تحضر مدينة “مراكش” في رواية مصطفى القرنة، بعنوان “قرد من مراكش”، في استثمارها لحكايات من التراث التاريخي والشعبي والشفوي المغربي، كما تحضر طنجة في روايته “دموع على حدود طنجة”، وفيها يستوحي فترة حرجة في تاريخ المغرب، تميزت بتفشي وباء الطاعون الذي أصاب مدينة “طنجة” ومعظم المدن المغربية عام 1799.
لقد شكلت “الصحراء” فضاء إبداعيا رئيسا، لم تكن الرواية بمنأى عن توظيفه واستثماره، في أبعاده الإنسانية والحضارية والتاريخية والثقافية والرمزية، لما لهذا الفضاء من أهمية واعتبار ودلالات وإيحاءات.وقد ساهمت الرواية العربية، في هذا الباب، بنصيب لافت في إثراء “رواية الصحراء”، وتلك حركية روائية ساهم فيها، كذلك، بعض الروائيين المغاربة، بالنظر لما لفضاء الصحراء في المغرب، شرقا وجنوبا، من مكانة إنسانية وجغرافية وثقافية واعتبارية خاصة؛ إذ ما فتئت الصحراء المغربية، في فضاءاتها المختلفة، تحظى باهتمام روائي متزايد، من قبل مجموعة من الروائيين المغاربة وغيرهم من الروائيين الأجانب، في إنحدار معظم هؤلاء الروائيين المغاربة من الأقاليم الصحراوية تحديدا، نذكر من بينهم، على سبيل المثال لا الحصر، الأديب المغربي ماء العينين ماء العينين، والروائي محمد سالم الشرقاوي، وعبد العزيز الراشدي، وغيرهم من الروائيين المغاربة، من الكتاب والكاتبات، ممن حققوا تراكما روائيا لافتا على هذا المستوى…
وضمن هذا الفضاء الإبداعي الرحب حول سرديات الصحراء، تندرج رواية “فوضى في حديقة الشيطان” للروائي مصطفى القرنة، الصادرة عن دار الرواية العربية للنشر والتوزيع، في عمان بالأردن، في طبعتها الأولى سنة 2021، من حيث انشغالها، كما في رواياته الأخرى، بالإنسان والتاريخ والتراث والمكان والحرية، ما جعل القضايا الإنسانية في رواياته عموما، تحظى بأهمية خاصة، في بحثها عن مآسي بعض الشعوب في العالم، نشير، هنا، على سبيل المثال، إلى مسألة التطهير العرقي لمسلمي الروهينغا، في روايته “عائلة من الروهينغا”، وغيرها من روايات الكاتب الأخرى، في ملاحقتها للأوجاع الإنسانية، هنا وهناك، في “غزة”، كما في “طنجة” و”بيرغامو”.
وهنا، أيضا، تبرز أهمية المكان في روايات مصطفى القرنة عموما، في أبعاده ومعانيه ودلالاته الخاصة؛ إذ يحسب لرواياته كونها لم تبق مشدودة إلى مكان بعينه، محليا كان أو أجنبيا، وهو ما يجعلها روايات مشرعة على العالم، فيتمثلها لعديد من الأمكنة، في انتمائها إلى عهود سابقة وإلى زمننا الحاضر، نذكر من بينها: عمان، بابل، بيت لحم، بيكين، مراكش، طنجة، بيرغامو، العيون، تندوف، كوبا، نيكاراغوا، وغيرها من الأمكنة، هنا وهناك…
وفي هذا الإطار، تبقى رواية “فوضى في حديقة الشيطان”، من أهم الروايات العربية التي تناولت موضوع مخيمات البؤس في تندوف، من زاوية عملها على تمثل الوضع اللاإنساني بهذه المخيمات، وإخراجه إلى القارئ العربي والعالمي، خاصة وأنها رواية عرفت طريقها إلى اللغة الإنجليزية، وستعرف انتقالها قريبا إلى اللغة الصينية، وإلى لغات أجنبية أخرى، وهو ما سيوسع من دائرة تلقيها وانتشارها، بشكل تساهم عبره الكتابة الروائية، في هذه الرواية وفي غيرها، في تعريف القارئ العربي والأجنبي وتحسيسه بحقيقة الأوضاع المرة في مخيمات تندوف.
لقد تمكنت هذه الرواية، وبقدرة فنية عالية، من تلوين الأوضاع اللاإنسانية فيها، بإدراج عديد من الحالات والسلوكيات، في إبرازها لمدى مأساوية تلك الأوضاع ووحشيتها، وعلى مستويات عدة، كما استوحتها هذه الرواية، وهي تأخذنا إلى عوالم غريبة ورهيبة لا حياة فيها، مطبوعة، في جوهرها، بالخوف والجوع والعطش والمرض والفراغ والسجن والموت والضياع والتهجير والإذلال والابتزاز والاغتصاب والخراب والبكاء والملل والبؤس والتعذيب والقمع، وكأننا، هنا،بصدد رواية أبوكاليبتيكية بامتياز، وهي بذلك تقدم لنا درسا إنسانيا عميقا في معنى الاحتجاز.
وهذا التنويع المبهر في عالم هذه الرواية، ينم عن مدى تمكن الروائي مصطفى القرنة من موضوع روايته ومن صنعته الروائية، انطلاقا مما تكشف عنه روايته من صدق في الحكي، ومن معرفة واسعة وإدراك عميق لدى الروائي بموضوع روايته وأحداثها وتفاصيلها وفضاءاتها وأزمنتها وأساليبها وتقنياتها، بشكل يجعل هذه الرواية ذات نكهة خاصة وإيحاءات دالة، بما تضمره وتبرزه من رسائل إنسانية نبيلة، وهي تصدح بحقيقة الأوضاع الصعبة في مخيمات تندوف، من زوايا مرجعية واقعية، أفرزتها حكايات عدد من المحتجزين الصحراويين، ممن تمكنوا من الفرار من تلك المخيمات، كما حكوها في المقابلات التي أجراها الروائي معهم، وفي غيرها من الشهادات المرجعية التي توسل بها الروائي في كتابة وسرد حكايات روايته.
من هنا، تتغيا هذه الرواية، في أبعادها الدلالية، منذ بدايتها إلى نهايتها، تمثُل الأوضاع اللاإنسانية المأساوية المريرة وفضحها داخل مخيمات تندوف، لما لهذا الفضح من أهمية قصوى، على مستوى إبراز زيف ادعاءات من تسميهم الرواية بـ “ميليشيات انفصالي البوليساريو”، وأيضا لتصوير مختلف أساليب التدمير الممنهج لأولئك القابعين كالأسرى في المخيمات، كما تقول الرواية.
ورغم أن رواية “فوضى في حديقة الشيطان” قد انشغلت أساسا، برصد قضية الأوضاع اللاإنسانية داخل مخيمات تندوف، فقد اهتمت، موازاة مع ذلك، بالجانب الشكلي فيها، بما يخدم موضوعها وتلقيها. فعالم هذه الرواية يتوزعه السرد والحوار، بأسلوبهما السلس، وهي الحال نفسها في روايات أخرى للروائي، بحيث ينفرد الحوار فيها بنصيب وافر، كما في روايته الأخرى “عندما تهرب الطيور من غزة”. فيما يتوزع الفضاء السردي لرواية “فوضى في حديقة الشيطان” بين حكايتين اثنتين متجاورتين ومتداخلتين، يتم تقديمهما باستخدام تقنية التناوب السردي فيما بينهما: حكاية الطفل أحمد المحتجز في مخيمات تندوف، والذي يتم ترحيله قسرا، بمعية أقرانه، إلى كوبا لتدريبهم على حمل السلاح بهدف أن يعودوا مقاتلين في صفوف البوليساريو، وحكاية عائلة أحمد داخل مخيمات تندوف وخارجها، حيث تهرب العائلة (ممثلة بأبي أحمد وأمه وأخته “حسنية”)، من بطش قائد البوليساريو (س.ح)، في بحثهاعن العم “سالم”، ويتم تقديم ذلك، في هذه الرواية، بطريقة فنية ممتعة، تشد إليها القارئ، وتخلق لديه حالات من التشويق والانتظار، وتجعله يسافر في العوالم المفارقة والمتضادة والمتناقضة للرواية: بين عالم تسوده العبودية والاحتجاز والحرمان والفقر والاغتصاب والمرض، في مخيمات تندوف، وعالم يسوده الاستقرار والتحضر والعيش الكريم، في الداخلة والعيون والسمارة، وعالم تفاؤلي تنغلق عليه الرواية، مجسدا في تحقق حلم عودة مجموعة من شخصيات الرواية إلى أرض الوطن، فيما لقيت أخرى حتفها، نذكر منها: “العم سالم”، سيموت متأثرا بآلامه التي أحس بها جراء الجراح التي أصيب بها أثناء عملية الهرب، و”الأب”، سيصاب بجلطة ويموت حزينا، و”أم هدى”، يتم اغتيالها بشكل مفاجئ، فتم دفنها في صمت، بدعوى أنها مرضت في السجن، و”س.ح” قائد البوليساريو، سيصاب بسكتة قلبية ويموت، وتموت معه مئات الحكايات، من سرقته للمساعدات والأموال إلى مغامراته النسائية الكثيرة (ص210).
هي، إذن، رواية مختلفة، في انتصارها لقضية المحتجزين، وفي تعريتها لواقع الحال في مخيمات تندوف، باعتبار ذلك يشكل جانبا من الجوانب الكبرى التي تبنتها هذه الرواية، ونبهت إليها وإلى عدم إغفالها، لما لها من أهمية ومعنى، وخصوصا على مستوى إطلاع شعوب العالم على مختلف مظاهر التراجيديا التي لا تزال فصولها متفاقمة وممتدة في مخيمات تندوف.
وهو ما كان يتوخاه الروائي مصطفى القرنة نفسه، في روايته الممتعة، في تطلعه إلى تحريك الشعور والضمير الإنساني، من أجل التحسيس بضرورة تحرير المحتجزين، واستنكار قهرهم واستعبادهم وسجنهم وحرمانهم وقتلهم، والتنبيه للترحيل القسري للأطفال، والاستغلال الجنسي للنساء، وبيع الأطفال، ومصادرة حرية التنقل داخل المخيمات وخارجها، فضلا عن إثارة اهتمام الدول المانحة للمساعدات الإنسانية للتدقيق في كيفية تدبيرها واستغلالها من قبل البوليساريو دون المعنيين بها. والروائي مصطفى القرنة لا يختلف في ذلك عن تلك الأصوات الشريفة التي ما فتئت تتعالى، هنا وهناك، لتجهر بحقيقة الأوضاع في مخيمات تندوف، وبكل الوسائل المتاحة لها، في مواجهة كل أساليب التعتيم الإعلامي الممنهج…
* بقلم: د. عبد الرحيم العلام