لم يحاول أحد مواجهة الرؤى المختلفة للفلاسفة حول الحب لدرجة أن المرء قد يكتشف مزيدا من العمق في الحديث عن الحب في الأغاني الشعبية عنه عند المفكرين المعاصرين. إذ ثمة فكرة سائدة بأن الفلسفة والحب لا يجتمعان ويقطن كل منهما في غرفة منفردة، منذ العصور الحديثة على الأقل.
فمع كون الحب الظرف القدري للسعادة عند غالبية البشر، والعنصر الدائم لكل أشكال الدراما الأدبية، إلا أن الفلاسفة قد أثاروه بتحفظ يشبه من يدخل إلى قفص الأسد ويخشى أن يؤكل حياً.
فقد نفهم أن الفلاسفة يطالعون تلك العاطفة الغريبة بكثير من التعقل لأنهم مشغولون بتحرير الإنسان من كل أشكال العبودية العقلية، فيما يؤدي الحب بالإنسان إلى الموت كمدا.
هناك العديد من أنواع الحب، نزوة الأيام المعدودة، الاستلاب المقيد، الفتور المستمر، الجموح الخاطف، الاعتياد البارد.. ولم يفلت الفلاسفة من كل تلك الأنواع.
قضية هذا الكتاب لماري لمونييه واود لانسولان ترجمة دينا مندور، محاولة للنظر في هذه النقطة بعدالة، على طريقتهم المرتبكة أو المختالة، واللاذعة في معظم الأحيان، بل والعدائية الشرسة التي انتهجها بعضهم، والحديث عن كل ذلك بلهجة حاسمة فجميعهم في الحقيقة لديهم ما يقولونه لنا عن الحب، وعما يصاحبه من وهم وخلود، وما يولده من معاناة، وعن الطريقة التي نطمح بها لترويضه.
ميلاد إيروس
للمفكر الإسباني المرموق خوسيه أورتيجا إي جاسيه تعبير بليغ يقول فيه: «إن الفيلسوف يحدد الأمور ببراعة، ومن دون تردد، ويطارد بملقطه العقلي عصب الحب المرتعش».
ميلاد إيروس
تركت خطبة أرستوفان، التي كانت جذابة للغاية، انطباعاً عظيماً عند الحضور. ثم بقي دور اثنين من المدعوّين، بينهما سقراط المعلم. والشاعر أجاثون، الملقب بـ «وحش البلاغة»، أو السوفسطائي، الذي أسهب من جديد محتفياً بإيروس إله «الليونة والشهوة» أو مسكن الآلام.
عند هذه النقطة من الحوار اتخذ سقراط، الذي يعد «الخط الناسف» الحقيقي للفكر في ذاك العصر، موقفاً معاكساً. والحقيقة، أنه إذا كان سقراط قد احتفى بخطاب «جميل وثري» فذلك ليقسمه إلى أجزاء كما تم مع خُطب سابقيه.
كما شدد على أنه إذا كانت الرغبة هي «رغبة في شيء ما»، وإذا كان المرء لا يرغب إلا في ما لا يمتلكه، إذن فقد أخطأ المداحون خطاً بالغاً حين زينوا الحب بكل أشكال الخير والجمال. أو أنهم، في أفضل الأحوال، لا يرون منه إلا جزءاً من حقيقته. ويؤكد سقراط على أن «الخطأ ينشأ من اعتبار وجود الحب. متحققاً . حين نُحب وليس حين نُحِب». إن إدراك الحب يتعلق في نهاية الأمر، بالبحث عن إجابة لسؤال لماذا أحبه بدلاً من لماذا أحب. وهنا يتجلى أصل إيروس، كما أكد ديوتيم على لسان سقراط.
اجتمعت الآلهة في اليوم الذي ولدت فيه أفروديت، حول مأدبة، وكان بينهم إكسبديون ابن آلهة الحكمة (ويدعى بوروس عند الإغريق، أي المورد أو الحيلة) و«الفقيرة المتسولة التي كانت تمر لتجمع الفتات، واستغلت ذلك لسرقة ابن الإله بورو الذي كان نائماً، وثملاً من أثر الشراب»، في حديقة زيوس.
ومن هنا ولدت ذرية الحب، فقيرة هي الأم و«ليست رقيقة وجميلة كما نعتقد»، ولكن تحت مراقبة أبيها الذي يمثل الجمال والخير. وعلى غرار صورة سقراط، كان عاري القدمين من دون مأوى، يتمدّد دائماً على الأرض، أسفل ضوء النجوم، ولكنه، في الوقت ذاته رجولي، عاطفي، فيلسوف وساحر. سوف يشكل إيروس هذا الفقد الذي يولد طاقة خلّاقة وقادرة كي تنبثق منه، وتنتزع الإنسان من شقائه الوجودي والحب إذن، كما كشفت زوجة مانتيتي، هو بالأساس تلك القوة السامية، تلك الطاقة، التي تساعد الإنسان على بلوغ الخلود الأوحد الممكن هذا التظاهر بالخلود الذي يبلغه المرء وهو يحاول المقاومة عن طريق طفل أوعن طريق عمل أدبي. إنه الإنجاب، أي الذين سيأتون بعدك، فاختر بقاءك الذي سيلازمك.
الجانب الغامض من القوة
ولكن إذا كان إيروس ليس قبيحاً ولا جميلاً، وليس فقيراً ولا غنياً، وليس جاهلاً ولا عالماً، فإنه لا يستطيع أن يكون إلها. ماذا يكون إذن؟ إيروس هو جنّي، كما كشفت الكاهنة، هو «وسيط بين الآلهة والبشر». وبفضل الرعاية الفائقة له من قِبَل أفروديت، التي ولدت في يوم ظهوره، أصبح قوة متنامية تحرّكها الرغبة في الجمال، الجمال الذي يرتبط، كما نعلم عند أفلاطون بالخير والحقيقة.
للمفكر الإسباني المرموق خوسيه أورتيجا إي جاسيه تعبير بليغ يقول فيه: «إن الفيلسوف يحدد الأمور ببراعة، ومن دون تردد، ويطارد بملقطه العقلي عصب الحب المرتعش». فالقارئ يحاول أن يتجسّد من خلال حالة عاطفية لا يمثل مضمونها مبتهج شيئاً يُذكر بالنسبة للعاشق. و«سوف يفهم أن ذلك مستحيل». ويقول ستاندال: «أن تقع في الحب هو أن تشعر فوراً أنك . لسبب ما، وهذا السبب لا يمكن أن يكون مبهجاً إلا لأنه يجسد شكلاً مثالياً. من دون أن يعني ذلك أن المحبوب كيان كامل مكمل»، كما لاحظ أورتيجا إي جاسيه، بل يكفي أن يحوي في نفسه «بعض الكمال» ليبدو في المجال الإنساني متجاوزاً للباقين في أعيننا.
ولكن في فيدرا، ذلك العمل الذي يعد حواراً آخر لأفلاطون يتناول فيه الحب، أوضح لنا جلياً، لماذا يعد الجمال هو الهدف الأول لرغبتنا، فسقطنا من سماء الأفكار الطاهرة إلى مستنقع الحواس. ونسينا الأشكال التي أدركناها في ما مضى، وسط خضمّ خلودها. وحده الجمال، حيث «التألّق» هو ملمحه المتفرّد، هو ما ظل يبهرنا إلى الأبد. ولهذا، فإن الروح، في حضرة انعكاس هذا الجمال الذي أحياناً ما يتجسّد على الأرض، تشبه آنذاك الجواد المجنح، فتُستثار وترغب في الطيران. حينها، ينتزع العاشق من شقاء ماضيه. وقد كتب الشاعر الإنجليزي جون كيتس: «إن الجمال لمتعة أبدية». إيروس ليس إلها، كما قلنا من قبل، وأقل من ملاك للعذوبة والشهوة، إنه جنّي.
إعداد: سعيد ايت اومزيد