قصور تافيلالت.. إرث إنساني فريد يحكي عن تاريخ خالد

معالم وآثار من عمق المغرب

يزخر المغرب بتراث غني يعكس تعاقب الحضارات على أرضه، من شماله إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه. مآثره المتنوعة ومعالمه الفريدة تحكي قصص أمجاد وتاريخ حافل شكل ملامح مغرب اليوم.
في هذه الزاوية الرمضانية، تأخذكم بيان اليوم في رحلة عبر الزمن، نستكشف فيها معالم بارزة ومآثر متميزة، ليس فقط بجمالها وتفردها، بل أيضًا بما تحمله من دلالات تاريخية وثقافية. في كل حلقة، نسلط الضوء على جزء من الموروث المغربي الأصيل، بين عمران يعكس عبقرية البناء، وتقاليد تصوغ هوية الوطن، وصفحات من التاريخ صنعت أمجاد هذا البلد العريق.

بعد انهيار سجلماسة وانتقال حضارتها إلى بعض القصور بتافيلالت بعد نهاية القرن 14 وبداية القرن 15، برزت معالم فريدة أخرى، من خلال تشييد قصور وواحات على ضفاف نهار زيز، وبالمناطق الخضراء من تافيلالت.
وما تزال مدن الراشيدية والريصاني وعموم منطقة تافيلالت تحتفظ إلى اليوم بالعديد من المآثر العمرانية الخالدة التي كانت قصورا بحمولة تاريخية كبيرة، ضمنها قصور مخزنية وقصور سلطانية وقصور ما زال يستوطنها الناس إلى اليوم وتشكل نموذجا فريدا للسكن على اختلاف الحي والقرية أو حتى المدينة، فالقصور ثقافة خاصة متجذرة في التاريخ، وجاءت في سياقات خاصة من التاريخ، خصوصا بعد تفكك المدينة المركز سجلماسة وانتقال أوجه الحضارة إلى القصور، كما تحدثنا عن ذلك في الحلقة السابقة.
وحسب الأستاذ الباحث امبارك بوعصب في دراسته “القصور والقصبات بمنطقة تافيلالت” فإنه من الواضح أن العديد من القصور بمنطقة تافيلالت تتنزل في ذات السياق التاريخي، كما أن اندثار سجلماسة جعل بعض القصور تستفيد من الإرث الحضري الذي كان التجار قد أرسوه بسجلماسة، وأن تفرض نفسها على باقي التجمعات السكنية، بل شكل بعضها صورة مصغرة للمدينة قادت الأحداث التاريخية في تافيلالت.
هذا التحديد الزمني يقول بوعصب لا يمنع من العودة إلى المراحل السابقة للقرن الرابع عشر الميلادي لكون المجال قد احتضن إلى جانب المدينة قصورا اشتهرت بأهميتها وعلاقتها بالمدينة.
ويضيف بوعصب في دراسته وكتابه أن الفترة الأخيرة، أي نهاية القرن العشرين، فشهدت خلالها المنطقة توقفا لعمليةبناء القصور، وظهر إلى جانبها النمط المعماري الحديث، ودخلت القصور في مسلسل متسارع من التدهور، إثر تفكك هياكلها والنظم التي كانت تسيرها وتضمن استمراريتها. وهي الفترة التي بدأ فيها الاهتمام بالتراث المعماري للمنطقة وعرفت عمليات التدخل الترميم القصور.
وعن الإطار المجال لهذا العمران الفريد من نوعه المحمل برمزية تاريخية، فيكشف الباحث أنه تم حصره في منطقة تافيلالت، أي الواحة الموجودة في أقصى الجنوب الشرقي، والتي تكونت بالقرب من مجرى وادي زيز وغريس، والتي احتضنت في الماضي مركز سجلماسة، وتمتد من قصر أولاد الزهراء شمالا إلى جبل بومعيز جنوبا، ومن واد امربوح شرقا إلى وادي غريس غربا.
ويشير الباحث إلى أن هذا التحديد المجالي يخالف مصطلح تافيلالت بمفهومها الواسع، والذي يطلق على مجموع الواحات التي تنتشر على ضفاف نهري زيز وغريس وتحمل كل واحدة اسما خاصا (مدغرة، الرتب تيزيمي الجرف)، أو على إقليم سجلماسة عموما.
وهكذا، ووفق الباحث فإن التحديد المجالي للقصور تجاوز منطقة تافيلالت، إلا أن هذه الأخية عموما كانت من أهم المجالات الواحية احتضانا للقصور والقصبات والمواقع الأثرية والتاريخية، التي تميزت بتراثها وأبنيتها الفريدة من حيث التصميم والتنفيذ والتفاصيل والتي تعكس هوية وحضارة المنطقة.
ويرى بوعصب على أن هذه المآثر كانت بمثابة همزة الوصل والرابط بين ماضي تافيلالت وحاضرها، والدليل الواضح على عراقتها وأصالتها، والذي أعطى للمنطقة أهميتها منذ قرون، فمن خلال تأملات في المظهر العام لعمارة القصور وهندسة بنائها ومكوناتها المعمارية وعناصرها الزخرفية، فإنالمتأمل سيجد نفسه أمام نتاج معماري فريد يتجلى في الإبداع والأصالة والإتقان والبراعة في التخطيط وأساليب التزيين والزخرفة، فضلا عن القدرة على المزج بين هذه العناصر وتحقيق الانسجام التام فيما بينها.
ويشير الاستاذ بوعصب إلى أن القصر اضطلع في هذا الربوع قديما بوظائف عديدة وامتزج بشتى مستويات الحياة، حتى إنه يرى أنه ما من سبيل لفهم المجال الواحي في المغرب والإحاطة بماضيه السياسي والاقتصادي والاجتماعي والعمراني إلا بتمثل ما كان للقصور من أدوار، ووضعها في سياقها الحضاري والإحاطة بمختلف أبعادها الاجتماعية والاقتصادية والمعمارية والثقافية.
ودائما وفق دراسة الباحث بوعصب، فإن الإرث الذي تركته سجلماسة لفائدة القصور والقصبات بتافيلالت يظل بخصائصه الفنية صامدا لفترة طويلة، رغم تغير الظروف والأحوال، لكن عمارة القصور تواجه اليوم، حسب الباحث، مجموعة من الأخطار الحقيقية التي حولت بعضها إلى ركام طيني، وذلكلأسباب حددها بعصب في العوامل الطبيعية والبشرية، وإلى غياب الوعي بأهمية التراث العمراني والسعي وراء التطور الاجتماعي والاقتصادي، تحت مسوغات التحضر والتطور والبحث عن المتانة، دون إدراك ما يترتب عن ذلك من إضعاف وإهمال للموروث المعماري التقليدي.
وهو الأمر الذي قال بوعصب في دراسته إنه يستدعي توثيقه والحفاظ عليه وتأهيله ليتلائم مع ظروف العصر والتحولات الحضارية المستمرة، بطرق علمية مدروسة من حيث استعمال مواد وطرق البناء التقليدية والمحافظة على الطابع الأصيل لهذا المعمار دون تشويه لمميزاته، حفاظا على الذاكرة والهوية من جهة، وتثبيتا الخصوصياته الثقافية والاجتماعية والحضارية من جهة أخرى، لجعلها رافدا للتنمية المحلية.

  إعداد: محمد توفيق أمزيان

Top