معالم وآثار من عمق المغرب من سجلماسة إلى قصور تافيلالت

يزخر المغرب بتراث غني يعكس تعاقب الحضارات على أرضه، من شماله إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه. مآثره المتنوعة ومعالمه الفريدة تحكي قصص أمجاد وتاريخ حافل شكل ملامح مغرب اليوم.
في هذه الزاوية الرمضانية، تأخذكم بيان اليوم في رحلة عبر الزمن، نستكشف فيها معالم بارزة ومآثر متميزة، ليس فقط بجمالها وتفردها، بل أيضًا بما تحمله من دلالات تاريخية وثقافية. في كل حلقة، نسلط الضوء على جزء من الموروث المغربي الأصيل، بين عمران يعكس عبقرية البناء، وتقاليد تصوغ هوية الوطن، وصفحات من التاريخ صنعت أمجاد هذا البلد العريق.

مع بداية اختفاء معالم سجلماسة في نهاية القرن 14 في عهد المرنيين، كان إرث كبير في هذا الموقع الأثري الذي استقطب العلماء والمفكرين والتجار والحرفيين قد بدأ في التفكك بشكل ما يزال يطرح الكثير من الاسئلة لدى الباحثين.
فسجلماسة كمركز اقتصادي وتجاري ومركز اهتمام من قبل العلماء من المشرق والتجار من أقطاب عديدة في العالم وحرفيين من المسلمين واليهود، وغيرهم، لم تعد بتلك الثقل الحضاري والثقافي الذي جعل محطة لصراع سياسي مرير بين دول عديدة، حيث تعاقبت عليها القبائل وسيطر عليها المرابطون، ثم الموحدون ثم المرينيون، وربط حكامها علاقات مع المشرق ومع السودان وقلب إفريقيا في حركة تجارية فريدة.
هذا التنوع والغنى الذي جعل منها رمزا ثقافيا وإشعاعيا وتعاقبت عليها حضارات تركت بصماتها التاريخية على المدينة، خصوصا في التطور المالي بالنظر إلى سك الأموال بهذه المدينة التاريخية، إلا أن كل هذه المظاهر من التطور اندثرت فجأة، ولم يعد لها أي تأثير أو تطور كما هو الحال لعواصم عديدة.
ولمعرفة مصير ما يمكن أن نسميه “مكتسبات” هذه المدينة من التطور، يقول الدكتور لحسن تاوشيخت في مقال عنونه بـ “سجلماسة من المدينة إلى القصور”، إنه بالرغم اندثار مدينة سجلماسة؛ فإن أنشطتها الاقتصادية ودورها التاريخي (السياسي) لم يتوقفا، بل انتقلا إلى أهم القصور الكبيرة.
ويذكر أستاذ التعليم العالي تاوشيخت ثلاث قصور رئيسية “أولها يسمى تانجيوت وعدد سكانه نحو ألف كانون وبه بعض الصناع والثاني يسمى تابو عصامت وهو أكبر منه وأكثر حضارة وفيه عدد كبير من التجار الأجانب، واليهود المشتغلين بالصناعة والتجارة. والقصر الثالث يسمى المأمون وهو أيضا كبير حصين كثير السكان خصوصا منهم التجار اليهود والمسلمين”.
ويشير الأستاذ تاوشيخت إلى أن قصر تابو عصامت الذي لا زال صامدا من الممكن أنه شيد بين سنتي (795) هـ / 1393م)، و (802هـ / 1400م) في جنوب المدينة الأم والذي كان بمثابة المركز التجاري والحرفي ودارا لضرب العملة إلى غاية القرن الثالث عشر الهجري التاسع عشر الميلادي).
ويضيف تاوشيخت في مقاله أن القصران الآخران المأمون وتانجيوت اندثرا ولم يبق لهما أثر، ويطلق اسم “تانجيوت” على مقاطعة أو مشيخة بكاملها والواقعة في شمال شرق تافيلالت ومن قصورها مزكيدة أولاد يوسف والقصر الفوقاني.
ويشير صاحب المقال المنشور في مجلة كان التاريخية المحكمة في عددها الثامن والعشرون الصادر في يونيو 2015، إلى أنه كان لكل من تانيجيوت وتابو عصامت والمامون في القرن العاشر الهجري السادس عشر الميلادي أمير يدير شؤون القصر ويعمل على حمايته من غارات الأعراب.
كما يشير إلى أن هذه القصور استقر بها الحرفيون والتجار المسلمون واليهود كما كان بكل منها دار سكة تضرب بها مثاقل خفيفة من الذهب الرديء ونقود من الفضة”، مضيفا من خلال عدد من المصادر التي اعتمد عليها أنه ابتداءً من القرن العاشر الهجري السادس عشر الميلادي بدأ اسم سجلماسة الذي يعني المدينة، ينمحي من النصوص التاريخية واستبدل في بعض المرات باسم إقليم سجلماسة قبل أن يعوض نهائيا باسم تافيلالت.
ويربط الكثير من الباحثين بين اندثار سجلماسة وازدهار القصور بمنطقة تافيلالت، بين من يعتبرها انتقالا لمراكز السياسة والتجارة والثقافة من مركز سجلماسة إلى قصور تافيلالت، وبين من يعتبرها مجرد امتداد، وهو التساؤل الذي طرحه الأستاذ تاوشيخت وهو هل اندثرت المدينة، أي سجلماسة، بكاملها أم أنها احتفظت ببعض معالمها ولو على شكل قصور كما هو الشأن بالنسبة لقصر الريصاني، والذي قال إن البعض يرجعه اعتمادًا على بعض البقايا الأثرية إلى العصر المريني.
ومن عوامل تحول مدينة سجلماسة إلى قصور وقصبات يقول تاوشيخت إن مدينة سجلماسة ظلت تابعة رمزيا على الأقل للحكم المركزي المريني بفاس، لكن وضعها بدأ في التدهور الفعلي منذ فترة حكم أبي الحسن خلال منتصف القرن الثامن الهجري الرابع عشر الميلادي، قبل أن تندثر نهائيا في عهد أبي العباس أحمد مع نهاية هذا القرن حوالي سنة 802 – 795هـ بعد أن عانت من الثورات والتمردات بين حكامها وبين هؤلاء وسلاطين بني مرین فتشتت سكانها في قصبات خاصة بهم بالضواحي.
وينقل تاوشيخت أن محمد بن الحسن الوزان أشار إلى أن المرينيين عهدوا بحكم إقليم سجلماسة إلى أقرب الناس إليهم وخاصة أبناءهم . وظل الأمر كذلك إلى أن مات أحمد ملك فاس. فثار الإقليم وقتل أهل البلد الوالي وهدموا سور المدينة، فبقيت خالية حتى يومنا هذا، وتجمع الناس فبنوا قصورا ضخمة ضمن الممتلكات ومناطق الإقليم، بعضها حر والبعض الآخر خاضع للأعراب، وهي عوامل مباشرة ساهمت في اندثار سجلماسة وبروز قصور وقصبات تافيلالت.
كما لفت تاوشيخت إلى العوامل غير المباشرة لهذا الاندثار التي قال إنها تبقى جد مترابطة ويمكن تلخيصها في أربعة أساسية هي:العامل الأول يتمثل في هيمنة القبائل العربية وما سببته من قلاقل، مما أثر بشكل سلبي على الحياة الاقتصادية للمدينة. ثم العامل الثاني المرتبط بتحول مسالك التجارة الصحراوية نحو موانئ المحيط الأطلسي ونحو المناطق التي كانت أكثر أمنا مثل تلمسان وإفريقية ودرعة. أما العامل الثالث فيرتبط، حسب الدكتور بسياسة سلاطين بني مرين أنفسهم تجاه سكان مدينة سجلماسة، أما العامل الرابع فحدده في الظروف المناخية الصعبة التي عصفت بالمدينة وتوالي الجفاف والأوبئة.
وهكذا انهارت مدينة مركزية كانت مركزا اقتصاديا وسياسيا وثقافيا ودينيا، لكن بالمقابل انبعثت العديد من القصبات والقصور التي تعد هي الأخرى إرثا مرتبطا بتاريخ سجلماسة الغني على كافة المستويات، وهو ما سنتتحدث عنه في حلقات لاحقة، خصوصا ما يتعلق بعديد من القصبات والقصور التاريخية.

< إعداد: محمد توفيق أمزيان

Top