يعم الجدل، منذ مدة، حول أصحاب فيديوهات وصفحات في منصات التواصل الاجتماعي، وحول حملات التهجم والتراشق المتبادلة فيما بينهم أو مع آخرين، وتحول الانشغال إلى جعل هذا الكلام المتطاير كما لو أنه هو الصحافة فعلا. من المؤكد هناك أصوات جادة وذات مصداقية تحضر في هذه العوالم الرقمية وتستثمر التقدم التكنولوجي لتطوير محتوى لا يخلو من مصداقية واجتهاد، ومن المؤكد أيضا أن التطور التقني والرقمي صار حتمية ويجب استثماره في مختلف مناحي الحياة، بما في ذلك في الصحافة والإعلام، ولكن، مع ذلك، أغلب ما يلفنا اليوم على هذا المستوى هو تطفل وعشوائية، وهو تعدّ على مهنة الصحافة وعلى الناس وعلى الحقوق وعلى الأذواق وعلى بلادنا وشعبنا. عدد من أصحاب هذه الفيديوهات، التي تبث إما من داخل التراب الوطني أو أساسا من خارجه، طافحة بالجهل، وتتغطى بادعاء وزعم تقديم معطيات غير معروفة وأسرار، ومعظمها لا يعدو كونه تلفيقات أو حكايات متخيلة، كما أن المعجم المستعمل ينطلق من قواميس السباب والشتم والكلام النابي، علاوة على استهداف أشخاص أو هيئات أو مؤسسات، والسعي لتقزيمها أو حتى «قتلها» الرمزي، وممارسة التنمر والتشهير والتعدي في حقها، وكل هذا بلغة شعبوية تستهدف مشاعر المتلقين، كما أنها لا تتردد في اقتراف كل أشكال البلطجة ضد من يكشفها ويفضحها أو ينتقدها… هل كل هذا جاء من فراغ؟ هل هو فقط نتاج تطور التكنولوجيا ويسر الوصول إليها؟ إن من يريدنا التسليم بهذا، واعتبار الأمر عاديا أو من حتميات التقدم التقني وسيادة وانفتاح وسهولة عوالم التواصل الاجتماعي، هو من يستفيد بالضبط من هذا الواقع ويخدم به مصالحه المختلفة، ويريدنا الانشغال بالسرديات المروية والمتخيلة، وذلك بدل الاهتمام بالقضايا الرئيسية وجوهر الأشياء وخلفياتها. النتيجة الواضحة اليوم، جراء كل هذا الذي غمرنا من على شاشات هواتفنا، ومن شطحات عديد وجوه صارت تطل على المغاربة على مدار الساعات والأيام، هو ما بلغناه من سطحية وفجاجة. لا توجد السطحية فقط في أسلوب وكلام هؤلاء «المنشغلين» بإلهائنا وتسطيح أذواقنا ومواقفنا، أو في طريقة عرض الأخبار والقضايا، أو في المعجم واللغة، ولكن كذلك في خلفياتهم ورؤاهم، وهو ما تحول إلى انعكاس على جزء من الجمهور، وعلى فئات من الشباب وغير الشباب، وصارت السطحية سائدة، وفي كل يوم ننزل أكثر بشعبنا ومجتمعنا وشبابنا نحو… الخواء والتدني. منذ سنوات، صرخ عدد من العقلاء بأن أحسن تصدّ لهذا الخواء هو الاستثمار في المهنية وفي الجدية وفي الارتقاء بالأذواق والمستويات، وفي تأهيل الصحافة الوطنية المهنية الجادة والأخلاقية وذات المصداقية، وفي دعم تنمية القراءة. لكن بدل الوعي بأهمية هذا التحدي، جرى العمل بعكسه، ووجدنا من يستدعي أصحاب هذه الفيديوهات لتظاهرات رسمية، ومن يعول عليهم للترويج لاسمه ويدفع لهم الأموال مقابل ذلك، ومن يحاول استغلالهم لتصفية حسابات أنانية صغيرة جدا، أي أن ما بلغناه اليوم لم يأت من فراغ، ولكن بفعل فاعل، وبسبب اختيارات موجهة وممنهجة ومعد لها. اليوم، تنشغل مقاولات الصحافة الورقية مثلا بخطر الانهيار الكامل لمنظومة توزيعها، وهذا وحده يستحق كلاما كبيرا ومفصلا وفاضحا، وتنشغل الصحافة الرقمية بضعف المحيط الاقتصادي العام، والقطاعان معا يعانيان من ضعف إقبال الجمهور على القراءة، ومن عشوائية ومحسوبية واختلالات سوق الإشهار والإعلانات.. وتبعا لهذا، تدنت الثقة في الصحافة الوطنية المهنية نتيجة عوامل كثيرة، وهو ما يهدد بجعل بلادنا، يوما، أو في يوم قريب، بلا صحافة أصلا، وأن نهوي أكثر نحو الخواء، والخواء لا قاع له… سنترك بلادنا وشعبنا حينها بين أيدي وأفواه أصحاب الفيديوهات، وأمام حكايات متوهمة، وخطاب شعبوي فج يقوم على السب والتشهير وتصفية الحسابات مع أي كان. للصحافة قواعد ومبادئ وأخلاقيات وقيم وغايات متعارف عليها في العالم كله، ولها تاريخها ورموزها وأسماؤها وأدوارها في بلادنا أيضا، ولا يمكن قتلها لتعويضها بالعشوائية والتطاول. في الفترة الأخيرة، انشغل الجمهور بالحملات المتبادلة بين بعض أصحاب هذه الفيديوهات أو بينهم وبين الأغيار أو بشأن متابعات ترتبت عن ذلك، وبدا كما لو أن هناك من أعجب بهذه اللعبة وأراد استغلالها لإلهائنا كلنا عن قضايا أخرى في المهنة وحواليها. ما دور السياسة العمومية في قطاع الصحافة والإعلام في كل هذا الذي يحدث؟ أين هي أصلا هذه السياسة العمومية في منظومة التصدي للتفاهة والتدني؟ لماذا هذا التدني صار مسيطرا على عدد من المنظمات المهنية نفسها ولم تعد تستطيع حتى الحوار فيما بينها وتحديد ممكنات العمل المشترك والاتفاق على معالم بناء المستقبل وتحقيق الإصلاح؟ وما دور الحكومة الحالية في هذا التذمر والتنافر بين المهنيين؟. لماذا لم تنجح الحكومة الحالية حتى في الحوار مع المنظمات المهنية وتأكيد إرادتها للنهوض بالصحافة الوطنية الجادة والاستثمار في المهنية للتصدي للدناءة والتدني ولإنقاذ البلاد والمهنة من الخواء؟ كل القرارات التي صدرت عن وزارة القطاع لم تجد ترحيبا وإجماعًا وسط المهنة (المرسوم الحكومي، القرار الوزاري، الدعم العمومي…) لكونها لم تتدارس ذلك مع أحد، وخصوصا مع من يختلف مع ممارساتها الانفرادية؟ مؤسسة التنظيم الذاتي بدورها، ومنذ تحولها إلى لجنة مؤقتة عينتها الحكومة، لم تعد تعرف سوى بمشاكل البطاقات المهنية وتناسل الشكاوى والقرارات والأحكام ضد الصحفيين، وهذا مؤسف جدا، وتتحمل المسؤولية فيه الحكومة وأطراف مهنية معروفة للجميع. ما فائدة مؤسسة التنظيم الذاتي إذا لم تنجح في تهدئة الأجواء العامة داخل المهنة وبين المهنيين وإجراء التصالح والتحكيم اللازمين، وتفادي إثقال القضاء بملفات الصحافة وما تخلفه من إساءة لصورة البلاد؟ اليوم لم يعد المجال وسط المهنة أو في علاقة المنظمات المهنية بالحكومة يتيح نقاشا عقلانيا منتجا، ولكن السطحية وأيضا (السنطيحة) صارت هي الرائجة. لا أحد يريد أن يفهم أن الفصل 28 من الدستور حول التنظيم الذاتي للصحفيين واضح، ويفرض تنظيم انتخابات لتجديد المجلس الوطني للصحافة، ولا يتحمل تأويلا آخر غير هذا. لا أحد يريد أن يفهم أن تعيين الحكومة للجنة مؤقتة شكل ضربة موجعة للصورة الديمقراطية للمملكة. لا أحد يريد أن يفهم أن الدعم العمومي للصحافة هو دعم لتنمية القراءة وللتعددية وللخدمة المجتمعية للصحافة، وليس أداة للإقصاء أو لتصفية مقاولات صحفية صغيرة أو جهوية أو لمطابع صغيرة، ومن ثم فرض الاحتكار وإشعاع الريع. لا أحد يريد أن يفهم أن الدعم العمومي العادل والمنصف لا يعني توقيع عقود دعاية تحت الطاولة مقابل شراء الصمت والولاءات، ولا يعني الالتفاف على المنطق وتوزيع الريع لإعداد الزبائن أو تهيئ أبواق انتخابية في الجهات… كل هذا ليس فقط لا تريد حكومتنا الموقرة أن تفهمه، ولكنها، في الواقع، هي تفهمه وتقر به وبصوابيته، ولكنها لا تريد القبول به، و»تخرج عينيها» في وجه كل من يختلف معها، وتقول له: «اشرب البحر»، وهي لن تبالي باحتجاج أحد أو انتقادات أحد. إن الأمر ليس مجرد اختلاف رأي أو تقدير بين زملاء، صحفيين أو ناشرين، فالجميع اليوم في (الهم سواء)، ولكن المشكلة في رؤية الحكومة ووزارتها المكلفة بالقطاع، وفي السياسة العمومية لبلادنا. هل تريد هذه الحكومة أن تبقى في البلاد صحافة وطنية مهنية جادة وتعددية؟ وكيف تعمل من أجل ذلك؟ هل تريد صيانة الصحافة الجهوية والحفاظ على التعددية وإعلام القرب؟ وكيف؟ هل تريد أن يستمر تميز المغرب وتفرده من خلال وجود منظمات مهنية مستقلة وذات مصداقية؟ وكيف؟ هل تريد استمرار وجود مؤسسة للتنظيم الذاتي وفق منطوق الدستور؟ وكيف تعمل هي من أجل ذلك؟ والأكثر من هذا، هل تفكر في الجمهور، أي الشعب والشباب ومستويات تلقيهم للمنتوج الإعلامي، وسبل التقليل من آثار التدني والتفاهة والتضليل والأخبار الزائفة والتشهير والتشنيع؟ وهل تفكر في تنمية القراءة وسط الجمهور، وتطوير المدارك؟ وهل خطر ببالها يوما تطوير قوانين الصحافة ببلادنا، وتوسيع فضاءات حرية الصحافة وحرية التعبير والنفس الديمقراطي العام بالمهنة والبلاد؟ وكيف؟ ومع من ستناقش ذلك؟ وهل استحضرت المطروح على بلادنا من تحديات في وحدتها الترابية وتموقعها الإستراتيجي ومصالحها، وفي التظاهرات الرياضية وغير الرياضية المرتقب إقامتها لدينا، وما هي الصحافة الوطنية المهنية التي أعددنا لمثل هذه الاستحقاقات؟ كل هذا ليست لدينا اليوم حكومة لتدارسه أو التفكير المشترك فيه؟ ومع الأسف تهجم علينا السطحية والتفاهة من جوانب عدة، ويكثر «تخراج العينين» من طرف الكثيرين، ومنهم من هو متورط في كل هذا التدني ومع ذلك لا يخجل من القول ومن الخروج أمام الناس مقترفا الكذب والتحايل والتحريف. إننا فقط نحذر من هذا الذي يجري، وننبه إلى أن الخواء لا قاع له.