تأملات سينمائية -الحلقة 11-

تعتبر السينما من بين أشكال التعبير الفني الأكثر انشغالا بقضايا الإنسان. هذا الإنسان الذي ظل قلقا بشأن كينونته، إنه لا يكف عن تجريب كل الوسائط لترويض الطبيعة ثقافيا، بحثا عن الانتماء الآمن للمشترك الجمعي.

ووسط الصخب البصري والحوارات “الشفافة” التي أصبحت تغمر وسائط التواصل الاجتماعي وتطبيقات التراسل الفوري، تتزايد الحاجة إلى السينما بوصفها فنا يحكي بـ”ذكاء” و”عمق” وبشكل “بسيط” هموم الكائن البشري، بانتقاء سلسلة من المشاهد البصرية المكثفة رمزيا، والحوارات المشبعة بالمعاني والدلالات.

وفي هذا الصدد، اخترنا في جريدة بيان اليوم الوقوف في هذه الزاوية طيلة شهر رمضان عند بعض الأعمال السينمائية، التي اهتدى مخرجوها إلى معالجة مواضيع اجتماعية وسياسية وثقافية، برؤى فنية وتصورات فكرية مختلفة تعكس اهتمامهم بمشاكل الإنسان.

قد يبدو في الظاهر، أن بعض الأفلام تصور تجارب أشخاص أو جماعات تنتمي لبيئات في مناطق جغرافية أخرى بعيدة بآلاف الأميال، إلا أنها رغم ذلك، تنقل ضمنيا انشغال الذات الإنسانية بوجودها كفرد أو بانتمائها إلى الجماعة.

أن تشاهد فيلما سينمائيا، معناه أن تحجز تذكرة لرحلة سفر جميل واستثنائي، يمثل فرصة للتأمل والتفكير، ولإعادة النظر في الكثير من الأشياء التي قد تبدو مع مرور الزمن من البديهيات، لاسيما في عصر يتسم بالإسهال في “الإنتاج”، إنتاج “اللاشيء” في الكثير من الأحيان.

إننا لا ندعي في هذه الزاوية، تقديم قراءات نقدية عميقة أو أكاديمية، بقدر ما نتوخى الوقوف عند بعض الأعمال الفنية التي حظيت بإعجاب النقاد والمتتبعين.

فيلم INTO THE WILD للمخرج الأمريكي شون بن

الــتــمــرد الــقــاتـــل

ما أهمية الشهادات العلمية؟ لماذا الحاجة إلى العمل؟ هل يعتبر اقتناء سيارة جديدة أمرا ضروريا؟ ما الغاية من الزواج؟ ألا يمكن العيش بدون القوالب التي وضعها النظام الرأسمالي لدفع الناس وكل الناس إلى استهلاك نموذج معين في الحياة؟
كثيرة هي الأسئلة التي طرحها الشاب كريستوفر جونسون ماكاندلز، سنة 1990، بشكل مباشر أو غير مباشر، حيث قرر بعد تخرجه من جامعة إيموري، التوجه للعيش في البراري الطبيعية للولايات المتحدة الأمريكية، بدل الموافقة على عرض مواصلة الدراسة في جامعة هارفد، بل إنه سيعترض على فكرة والده والت ماكندلز (ويليام هيرت) ووالدته بيلي ماكندلز (مارسيا غاي هاردن)، باقتناء سيارة جديدة بعد نجاحه المستحق.
وحدها البرية كانت تغري كريستوفر ماكاندلز (فبراير 1968- غشت 1992) بالعيش، لهذا سيحرق كل وثائق الهوية، وسيشد الرحال “إلى البرية” (INTO THE WILD)، وتحديدا جبال ألاسكا التي ظل يرغب في قضاء بعض الوقت فيها، تمردا على كل القوانين، والقواعد، والأعراف الاجتماعية التي “يجب” أن يتخندق فيها الأفراد.
تعتبر قصة كريستوفر ماكاندلز مجنونة وغريبة، لكنها حقيقية، وما زالت تثير إلى اليوم، الخوف، والتوجس، والتساؤل، نظرا لصعوبة تنفيذها على أرض الواقع، لهذا ستحقق قصة هذا الشاب المتمرد الشهرة لاسيما بعد صدور كتاب يحمل عنوان INTO THE WILD (إلى البرية)، سنة 1996، للكاتب والصحافي الأمريكي جون كاراكور.
ونالت هذه السيرة الغيرية نجاحا كبيرا، بفعل طبيعة القصة التي كانت نهايتها أليمة، ومأساوية، وحزينة، وفي هذا الصدد، سينقلها المخرج الأمريكي شون بن (Sean Penn) إلى الشاشة سنة 2007، في عمل سينمائي يحمل الاسم نفسه.
وحاول شون بن في INTO THE WILD أن يعيد تركيب أجزاء هذه الحكاية، بإسناد دور البطولة للممثل إميل هيرش الذي أدى دور كريستوفر ماكاندلز، من خلال سرد غير خطي، اعتمد فيه على تقنية “الفلاش باك” في سرد الأحداث.
لقد أعلن كريستوفر ماكاندلز ولادته من جديد، سنة 1990، بعد ولادته الأولى بتاريخ 12 فبراير 1968، بحثا عن هوية جديدة تمنحه الحرية، وتعفيه من كل القيود التي لا يقدر أحد على تكسيرها وتخطي جدرانها، بفعل بنية النظام الاجتماعي والاقتصادي، وهكذا سيتبرع بالأموال التي كافأته بها الجامعة واذخرها طيلة سنوات دراسته، واستعار لنفسه اسم: ألكسندر سوبرترامب (Alexander Supertramp).
ولا يمكن قراءة تجربة “البراري” لكريستوفر مكاندليز بمعزل عن محيطه الأسري الذي كان يتسم بـ”التفكك” و”العنف” بين والديه، ما يعني أن نشأته كانت في محيط مضطرب، مع وجود استثناء في طبيعة العلاقة الجيدة التي كانت تجمعه بأخته كارين ماكندلز (جينا مالون)، والتي لعبت دورا كبيرا في إخراج سيرته إلى الوجود بعد وفاته، كما ساعدت المخرج شون بن بكل الوثائق والمعلومات لتصوير هذا العمل.
وقادت الرحلة الطويلة كريستوفر ماكاندلز، الذي كان متعلقا بأقوال كتابه المفضلين، وتحديدا، صمويل جونسون، وهنري ديفد ثورو، وليو تولستوي، إلى اللقاء بمجموعة من الشخصيات التي لكل منها تجربتها في الحياة، والتي رفضت، بالمناسبة، قراره بشأن التخلي الراديكالي عن عائلته، وأهدافه، وأحلامه، على سبيل تحقيق الفكرة الغريبة، أي العيش في البراري، وليست أي براري، إنها براري ألاسكا المرعبة والموحشة.
ورغم كل التحذيرات التي تلقاها هذا المراهق المندفع، من قبل الزوجين جان بوروز (كاثرين كينر) ورايني (براين ديركر)، وصاحب المزرعة واين ويستربرغ (فينس فون)، والمسن رون فرانز (هال هولبروك) الذي عرض عليه التبني، وغيرهم، إلا أنه بقي متشبثا بما كان يدور في ذهنه، حيث استطاع أن يصل إلى ألاسكا، بداية شهر ماي 1992، وقرر الاستقرار في الحافلة المهجورة رقم 142، حيث ستحتضن رغبته في العزلة والوحدة، علما أأن هذا المنفى الاختياري سيصبح فيما بعد قاتلا، لهذا سيلجأ للكتابة كفعل يحفظ أثره من النسيان.
وكان حضور الشخصيات الثانوية في فيلم INTO THE WILD قويا، ومكن كريستوفر مكاندليز من فهم بعض العوالم الاجتماعية، والثقافية، والإنسانية، كالتواصل الجيد الذي حدث بينه وبين وين ويستربرغ الذي قدم له الكثير من التوجيهات حول الخطة الواجب إتباعها في رحلته نحو ألاسكا، إلى جانب السماح له بالاشتغال في مزرعته، ثم الزوجان جان ورين باعتبارهما أظهرا له الحنان والحب الذي افتقده في بيته العائلي، ناهيك عن رون فرانز الذي ظهر أكثر نضجا وحكمة في تصرفاته وأقواله، علما أنه لم يتردد في دعوة الشاب “الذكي” و”المغامر” إلى المكوث معه في المنزل.


واحترم شون بن مضمون المؤلف الأصلي الذي يقول بوفاة كريستوفر ماكاندلز، بعد حوالي أربعة أشهر من تواجده في الحافلة (منتصف شهر غشت 1992)، بسبب نقص الغداء الذي دفعه إلى تناول بذور “بطاطس الدب البرية” السامة، رغم تضارب الآراء بهذا الشأن، لكن المؤكد هو أن الفتى المغامر فقد القدرة على مقاومة قسوة أشكال الطبيعة، خصوصا في فضاء بعيد لا يقترب منه أحد، بل لا يمكن تخيل زيارته حتى.
واستخدم شون بن مجموعة من التقنيات السينمائية للتعبير بداية عن الحرية في براري الطبيعة، ثم قسوتها وصعوبة العيش فيها، وتحديدا في فصل الشتاء حيث تصبح أكثر توحشا، فضلا عن اعتماده على التصوير المتداخل بين الحاضر والماضي، الذي يرمز إلى التخبط والصراع النفسي الذي يعيشه البطل، معززا ذلك بالموسيقى التصويرية التي أضفت شاعرية خاصة على العمل، فضلا عن اختيار بعض المقاطع الموسيقية للفنان إيدي فيدير.
وحاول كريستوفر ماكاندلز، أن يدافع بـ”عزلته”، عن أطروحة تلخيص النظام الرأسمالي للتجربة الإنسانية فيما هو مادي فقط، لأن هذا النموذج يوجز ويقزم الفرد في الدراسة، والعمل، والزواج، والاستهلاك، ذلك أن الذات لا يتحقق وجودها إلا بتوافر الشروط المادية للفرد والأسرة، بيد أن هذا الوعي المتقدم لديه، وهو لا يتعدى 24 سنة، كان مخاطرة، لأن حماس وقلق المراهقة له ثمنه، رغم كل الشجاعة التي يمكن التحلي بها في الوقوف أمام الآراء المسبقة للعائلة، والمسكوكات الجاهزة للمجتمع.
والهروب من الواقع، لا يمكن أن يكون الحل النهائي، لأن الحاجة إلى الآخر، تبقى، دائما، قائمة، لهذا ظل كريستوفر ماكاندلز، مستعدا إلى العودة لبيئته الثقافية الطبيعية رغم كل ما تحمله من سلبيات، فالعيش في البراري، يصبح صعبا ومستحيلا مع مرور الزمن، لهذا حاول الإنسان القديم أن يطور من وسائل عيشه، ليضمن لنفسه حياة صحية وعمرا أطول.
وسيعبر كريستوفر ماكاندلز بشكل صريح عن حاجة الإنسان إلى الآخر، عندما كتب عبارة أن: “السعادة لا تكون حقيقية إلا عندما نتقاسمها مع الآخرين”، ويعد الفيلسوف جون بول سارتر من بين المدافعين عن فكرة أن الإنسان لا يمكنه أن يعرف نفسه أو أن يحقق ذاته إلا من خلاله تفاعله مع الآخر، فالوجود البشري في تصوره تشكل عبر نظرة الآخر.
وتظهر تجربة كريستوفر ماكاندلز، أن الطبيعة التي هربت البشرية منها في البداية، لا يمكن أن تجيب عن أسئلته، علما أن هذه الطبيعة استغرقت وقتا طويلا من الإنسان ليروضها، ويجعلها صالحة للاستقرار، حيث لا يمكن أن يطيق المرء قساوتها وضراوة كائناتها.
وظهر كريستوفر ماكاندلز أكثر انتباها لمضمون الحوارات التي جمعته بأشخاص الغرباء، وهو ما جعله يخلص، بشكل متأخر للأسف، إلى فكرة أن التواصل والتعايش مع الآخر، أمرا ممكنا، بصرف النظر عن كل الاختلافات الحاصلة، وهو ما تأكد له عبر الاستقبالات الحارة التي كان يحظى بها من كل الأشخاص الذين صادفهم في رحلته “الأليمة”.
بصيغة أخرى، تبقى الذات في حاجة إلى الآخر مهما حاول العقل والفكر البشري أن يدافع عن العزلة وإمكانية العيش خارج المجتمع، فبالرغم من تمتع كريستوفر مكاندليز بالحرية في الطبيعة إلا أنه ظل سجينا للحافلة المعطلة، وكأنه أراد بالزمن أن يتوقف به “هنا”.
قد يظهر للبعض أن شون بن، يدافع عن فلسفة وتجربة كريستوفر ماكاندلز، لكن لا يمكن بالضرورة أن يكون “ناقل الكفر بكافر”، خصوصا أن هذا العمل الدرامي، هو “توثيقي” في الآن نفسه (مع التحفظ عن هذا التحليل)، غير أن الملاحظة التي يمكن تسجيلها عن فيلم INTO THE WILD هو أنه كان طويلا في مدة العرض (148 دقيقة)، حيث أن التخلي عن بعض المشاهد، كان ممكنا، بدون أن يخل ذلك بالمعنى وببنية النص السردي والبصري.

***

شون بن

شون بن (Sean Penn)، ممثل ومخرج ومؤلف أمريكي، من مواليد 17 غشت 1960 في سانتا مونيكا (كاليفورنيا). فاز بجائزتي أوسكار. إلى جانب تميزه كممثل في أفلام مثل “نهر غامض” 2003 و”هارفي ميلك” 2009، أثبت شون بن نفسه كمخرج سينمائي ناجح. بدأ مساره الإخراجي عام 1991 بفيلم “العداء الهندي”، ثم توالت أفلامه مثل “حارس المعبر” في سنة 1995، و”التعهد” خلال 2001. في عام 2007، قدم واحدا من أبرز أفلامه “إلى البرية”، الذي لاقى إشادة واسعة بفضل أسلوبه البصري المميز وسرده المؤثر. واصل بن مسيرته مع “الوجه الأخير” خلال 2016، و”يوم العلم” عام 2021، كما أخرج عدة وثائقيات، منها 11 شتنبر في 2002 و”القوة العظمى” خلال 2023. إلى جانب السينما، عرف شوف بن بنشاطه الإنساني، ذلك أنه أسس منظمة للإغاثة بعد زلزال هايتي عام 2010، مقدما مساعدات للمجتمعات المتضررة حول العالم.

الإخراج: شون بن.
السيناريو: شون بن. مقتبس عن كتاب يحمل نفس العنوان لجون كاراكور.
الإنتاج: شون بن، بيل بوهلاد، آرت لينسون.
السنة: 2007.
مدة العرض: 148 دقيقة.
التصوير السينمائي: إريك غوتييه.
المونتاج: جاي كاسيدي.
التشخيص: إميل هيرش، مارسيا غاي هاردن، ويليام هيرت، جينا مالون، كاثرين كينر، براين ديركر، فينس فون، كريستين ستيوارت، هال هولبروك.

إعداد: يوسف الخيدر

Top