بيان اليوم تنشر النص الكامل لتقرير المكتب السياسي المقدم أمام الدورة الخامسة للجنة المركزية للتقدم والاشتراكية

نبيل بنعبد الله يؤكد أن الفساد السياسي يستلزم رجة مجتمعية

الرفيقات العزيزات، الرفاق الأعزاء، أعضاء اللجنة المركزية؛ نساء ورجال الإعلام الوطني؛ الحضور الكريم؛
ها نحنُ، اليوم، نَختتم سنة 2024 الحافِلة بالأحداث، التي لمْ يَتَوانَ حزبُنا عن التفاعلِ معها من خلال المواظبة على اتخاذ المواقف والمبادرات، بِعقدِ الدورةِ الخامسةَ للجنتنا المركزية، بعد الدورة الرابعة التي كانت التأمتْ في يونيو الماضي تحت شعار “مُعارضةٌ تقدمية في مُواجهةِ الإخفاقاتِ الحكومية”.

1/ أوضاع دولية معقَّدَة بعنوان اللايقين والصراع حول النفوذ

في هذا التقرير، لن نُعيدَ تحليل الأوضاع الدولية من منظور حزبنا، حيث يُمكن بهذا الصدد الرجوعُ إلى التقارير السابقة للجنة المركزية. غيرَ أنه من الـــمُــــفِــــيدِ، بالنظر إلى كوْنِ بلادِنا جزءًا من هذا العالَم، يتأثر بتطوراته ويُؤثِّــــرُ فيها، وبالنظر إلى أننا حزبٌ يَنشغل أيضاً بالقضايا الأممية، الإشارةُ إلى استمرار اللايقين وتَفَاقُمِ تعقيداتِ الوضع العالمي وتقلباته الحادة، أساساً من خلال استمرار النَّـــــزَعَات الإمبريالية الهيمنية، وسيادة المراكز المالية العالمية، وبِفِعلِ تَوَسُّعِ النِّــــزَاعَــاتِ المشتعلة، والصراعاتِ الجيو سياسية حول مواقع النفوذ، بما يهدد السلم العالمي، وبما يَفتَحُ، أيضاً، احتمالاتِ انبثاقِ عالَمٍ بموازين قوى جديدة.
ومن مؤشراتِ ذلك: النُّزوعُ نحو إعادة رسم الحدود في بعضِ مناطق العالم، كما هو الشأن بالنسبة لما يحدثُ من هجومٍ إمبريالي صهيوني غير مسبوق بالشرق الأوسط؛ ولِتَوَاصُلِ الحربِ الروسية الأوكرانية دون قُدرةٍ على الحسم؛ ولِتصاعُدِ التوتر والحرب التجارية بين أمريكا والصين، خاصةً مع الصُعودِ من جديد للإدارة الأمريكية المقبِلَة، مع سعيِ أوروبا إلى أن يكون لها موقعٌ في هذا الصراع.
أمام كلِّ ذلك، نلاحِظُ كيف أنَّ القرارَ العالمي الحالي، الاقتصادي والمالي والسياسي، من خلال الهيئات والمؤسسات الدولية كما هي الآن، لا يَــــزالُ يَخضعُ في الـــمُجمَلِ إلى هيمنةِ القوى الرأسمالية الكبرى بقيادة أمريكا، في ظل خلافاتٍ لا تفتأُ تتعمقُ مع تكتلاتٍ مثل البريكس، وقوى وبلدان صاعدة أخرى، وذلك في ظل التعطيل عملياًّ لأيِّ تأثيرٍ وازِنٍ لمجلس الأمن ولباقي الهيئات الأممية.
ولذلك فالنظامُ العالميُّ الحالي، رغم زَخَمِ ما يتمُّ اعتمادُهُ في محافل ومنتديات دولية متعددة، ليس فقط عاجزاً عن معالجةِ الأزماتِ والنزاعات والحروب، والفقر والجوعِ وتفاوتاتِ مستوى العيش بين الشعوب، وآثارِ تغيُّرات المناخ، وتفاقُمِ ديون الدول الأقل نمواً، وغيرها من الآفات العالمية، كالإرهاب والهجرة، بل إنه سببٌ من أسبابِ إنتاج هذه الأزمات أو تعميقِها.
وما يزيدُ من صعوباتِ ومخاطر هذه الأوضاع هو الصُّعود المتواتِر لليمين المتطرف وللنيُوفاشية وللنزعات الشعبوية، في بلدان متعددة، مما يطرحُ تحدياتٍ أكبر على قوى التقدُّم واليسار عبر العالَم، لكي تستجمع قِواها وتُوَحِّدَ مبادراتِها وتُجدِّدَ مُقارباتها، بغاية التجسيد الفِعليِّ للبديل القائِم على بناء عالَمٍ يَسُودُهُ السلمُ والتعايش والاستقرار والتعاون والتضامن، واحترامُ إرادة الشعوب وتحقيقِ تطلعاتها نحو الكرامة والديموقراطية والازدهار، بعيداً عن التدخل في شؤونها واستنزافِ خيراتها.
ومن الطبيعي أنَّ حزبَنا ينظر إلى مختلفِ هذه التحديات من منظورٍ يقومُ على مرجعيته وهويته الفكرية، التقدمية والديموقراطية، وأيضاً على الموقعِ الأكثر تَقَدُّمًا الذي نطمحُ إلى أن يتبوأه المغربُ في خِضَمِّ كلِّ هذه التقلبات.

2/ القضية الفلسطينية أمام محاولات التصفية وجرائم الحرب الصهيونية

الرفيقات والرفاق، الحضور الكريم؛
في هذا السياق، لقد تجاوزَتْ كُلَّ الخطوطِ جرائمُ الحربِ والجرائمُ ضدَّ الإنسانية التي يقترفُها الكيانُ الصهيوني في حقِّ الشعبِ الفلسطيني الذي يعيشُ منذ أكتوبر 2023 أحْلَكَ اللحظات المــــــُرَوِّعَة، وخاصة في غزة، من تجويعٍ وتعطيشٍ وتهجير، ومن اغتيالاتٍ وإعدامات لقياداتٍ سياسية مُقاوِمَة، ومن اضطهادٍ، وتقتيلٍ، وهدمٍ وتدمير، ومنعٍ للمساعدات الإنسانية، ومن غزوٍ بريٍّ وجوِّي وبحري، وقصفٍ وإحراقٍ للأطفال والنساء والشيوخ والمدنيين الأبرياء وهمْ أحياء في الخيام وساحاتِ المستشفيات والمدارس الــــمُدَمَّرَة، بما حَوَّلَ غزة إلى ما يُشبِهُ مقبرةً جماعية، تُنهَشُ فيها جثامينُ الأبرياء، في كارثةٍ إنسانية وسياسيةٍ وقانونية وأخلاقية مُهولة لم يَشهد لها العالَمُ مثيلاً منذُ الحربِ العالمية الثانية، لا يمكن نهائيًّــا تبريرُها أو التعايشُ معها.
إزاءَ ذلك، لا بدَّ من الإشادة بالمواقف المشَرِّفَة لبعض الدول بهذا الصدد، خاصة في أوروبا وأمريكا اللاتينية وإفريقيا. فيما أننا نَرفُضُ أنْ تجري كلُّ تلكَ الجرائم الصهيونية في ظلِّ تواطُؤِ ودعمِ جزءٍ من العالَم بقيادة أمريكا وأتباعها، وصمتِ جُــــزءٍ ثانٍ، وعَــــجْزِ جُــــزءٍ ثالثٍ.
وفي جميع الأحوال، فإنَّ جرائمَ السَّعي المقيتِ نحو إقبارِ قضية الشعب الفلسطيني، وإنكارِ حقوقه، وطمسِ هويته، ومَحْوِ وجوده، وحربَ التطهير العرقي والإبادة الهمجية والوحشية التي يتعرض لها، تَظلُّ وصمةَ عارٍ تاريخية على جبين كلِّ العالَم، حيثُ انكشفتْ، بالخصوص، أقنعةُ كلِّ أولئك اللذين طالما حاولوا الإيــــهامَ، بأُستاذِيَـــةٍ زائفةٍ، أنهم يُشكِّــــلُونَ “العالَمَ الحُــــرَّ المدافعَ عن الديموقراطية وحقوق الإنسان”، بينما بعضُهُم يدعَمُ الكيانَ الصهيوني دعماً لا مشروطاً بالمال والسلاح والدعاية وبتوفيرِ الغطاءِ السياسي وتقديمِ المساعدةِ على الإفلات من العقاب.
لكن، في وَسَطِ كلِّ هذه العَــــتْـــمَة، لا يَسَعُنا سوى أن نُوَجِّهَ التحيةَ إلى كلِّ الضمائر الحية، وإلى جميعِ المبادراتِ والمظاهرات الشعبية المتصاعدة والحاشدة، وطنيا ودوليا، الـــمُـــــعَبِّــــرَةِ عن التضامنِ مع الشعب الفلسطيني، وعن التنديدِ بالكيان الصهيوني، وبطبيعته الإرهابية، وبجرائمه الشنيعة.
في هذا السياق، لا بد من الإشادةِ بالمبادراتِ الأخوية الملموسة للمغرب، الذي يضعُ القضية الفلسطينية في مرتبة قضيةٍ وطنية، إزاءَ الشعبِ الفلسطيني، وبمواقفه الرسمية المُشَرِّفَة، والتي تمَّ التعبيرُ عنها في أكثر من مَحفَلٍ ومن مناسبة، كما هو الشأنُ بالنسبة للرسالة التي وجَّهَها جلالةُ الملك محمد السادس إلى رئيسِ اللجنة المعنية بممارسة الشعب الفلسطيني لحقوقه غير القابلة للتصرف، بمناسبة اليوم التضامني العالمي مع الشعب الفلسطيني.
من جهة أخرى، فإننا نجدد نداءَنا إلى كافة دول العالَم، من أجل السعي الجدِّي نحو تنفيذِ القرارِ الشجاع للمحكمة الجنائية الدولية، القاضي بإصدار مذكرتيْ اعتقالٍ في حقِّ مُجرميْ الحرب، رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو ووزير دفاعِهِ السابق يوآف غالانت.
ويتعين، كذلك على المجتمع الدولي، العملُ من أجل توفيرِ الحماية للشعب الفلسطيني وإيقافِ المجازر المرتَكَبَة في حقه؛ ومن أجل تجميدِ عضوية الكيان الصهيوني المارق في الأمم المتحدة، وفرضِ عقوباتٍ مشدَّدَةٍ عليه، ووقفِ الدعم العسكري والإعلامي والمالي عنه؛ وإقرارِ المقاطعةِ التجارية والاقتصادية والديبلوماسية ضده؛ ووقفِ جميعِ أشكالِ التطبيع معه، إلى أنْ يتمَّ إيقافُ حربِ الإبادة الجماعية في فلسطين، وإقرارُ كافةِ الحقوقِ الوطنيةِ المشروعة للشعب الفلسطيني، والكفُّ عن الاعتداءاتِ الوحشية تُجاهَ الشقيقتيْن سوريا ولُبنان.
ولتحقيق ذلك، تُـــوجَـــدُ بلدانُنا العربية، ومنها بلادُنا، أمام مسؤولياتٍ خاصة، إذ نجدد نداءَنا إليها، من أجل أنْ تُبادِرَ إلى التحرك المشترك والقوي، لممارسة ما يلزمُ من ضغطٍ دولي، بغايةِ وقف العدوان الإجرامي، والتخلي عن أيِّ شكلٍ من أشكال التطبيع مع العدوِّ الصهيوني الذي لا يُقيمُ أيَّ اعتبارٍ سوى لمصالحه ومخططاته الهيمنية والتوسعية العنصرية.
وستظل مساندتُنا، في حزبِ التقدم والاشتراكية، للشعب الفلسطيني قائِمةً وراسخةً، حتى انتزاعِ جميعِ حقوقِهِ الوطنية، المشروعة والمهضومة، وفي مقدمتها حقه في الوجود، وفي التحرر والسلام والكرامة والعدالة، وحقه في العودة، وفي بناءِ دولته المستقلة والقابلة للحياة وعاصمتها القدس.
ثم إنَّ مساندةَ حزبِنَا للشعب الفلسطيني لا يُضاهي قُـــوَّتَـــهَا سوى صدقُ مناشدتنا كافةَ القوى الفلسطينيةِ المناضلة من أجل وحدةِ الصفّ، في كَـــــنَـــــفِ السلطة الوطنية الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية، تمتيناً للجبهة الداخلية، ومن أجل قطع الطريق أمام المحاولات الصهيونية لخلط الأوراق واللعب على حبل الخلافات غير الــــمُجدية.

3/ لبنان الشقيق أمام تحدي السيادة الوطنية الرفيقات والرفاق؛

إنَّ المخططاتِ الصهيونية الإمبريالية لا تَقِفُ عند حدود فلسطين، بل تتجاوز ذلك إلى محاولاتِ صُنعِ شرقِ أوسطٍ لا كَـــــلِــــمَـــــةَ تَــــــعْــــــلُــــــو فيه على كلمةِ إسرائيل. وذلك ما يتَّضِحُ جليًّا من خلال الهجومِ الصهيوني الذي استغرق شهوراً على لبنان، دون أن يُحقِّـــقَ أهدافه الدنيئة، مما يفسر الخرقَ السافر والمتواصل لاتفاق وقف إطلاق النار الذي لم يُبْرِمْهُ الكيانُ الصهيوني سوى على سبيلِ الحسابات التكتيكية دون أيِّ نيةٍ في الالتزام باحترامِ سيادة لبنان وسلامةِ اللبنانيين.
وهذه مناسبة، ليؤكد حزبُ التقدم والاشتراكية على ضرورة تقيُّدِ الجميع بصَوْنِ سيادة الدولة اللبنانية، ووحدتها الترابية والوطنية، وبِحفظِ أمن لبنان وسلامة الشعب اللبناني.

4/ التطورات في سوريا: فُرص البناء في مقابل مخاطر خارجية وداخلية

في السياق ذاته، يُتابِعُ حزبُنا، بانشغالٍ بالغ، التطورات المتسارعة للأوضاع في سوريا الجريحة، حيث سَقَطَ نظامُ القمعِ والاستبداد الذي نَـــكَّــــلَ بالسوريين وارتكَبَ في حقِّهِم أبشعَ الجرائم.
ولقد حدثَ هذا السقوط في إطارِ صفقةٍ شاركت فيها عددٌ من الدول، بما يَجعلُ الشعبَ السوريَّ الشقيق أمامَ فُــــرصٍ للنهوض والبناء، لكن أيضاً أمام مخاطر خارجية وداخلية كُبرى.
ونؤكد، هنا، على ضرورة احترامِ الجميع للإرادة الحرة للشعب السوري الشقيق ولتطلعاته المشروعة، بعيداً عن أيِّ تدخلٍ أجنبي في صياغة مستقبله، وعلى ضرورة احترام سيادة سوريا ووحدتها الترابية.
وإذ يُشاركُ حزبُ التقدم والاشتراكية الشعبَ السوريَّ الشقيق تعبيراتِه عن الفرحة والارتياح بسقوطِ الحُــــكْــــم الاستبدادِيِّ البائد، فإنه يتطلع إلى أن تعملَ القوى الحيةُ والفاعلة بسوريا على حِفْظِ لُحمَةِ الشعب السوري، وصَوْنِ تماسُكِ نسيجه الوطني، وإلى أن تحرص هذه القوى، بحكمةٍ ويقظة، على إقرار التعددية السياسية والديموقراطية والتنمية وإعادة البناء، اعتماداً على الذات أساساً، وتفادي السقوط في فخِّ الإملاءاتِ والتدخلاتِ والأطماع الخارجية المقيتة، المُـــحدِقَـــة الآن بسوريا، سواءٌ من قِبل بعض بلدان الجوار أو من قِبَل قوى عظمى؛ وتجنُّب أيِّ تشنجاتٍ من شأنها أن تُفضي إلى إذكاء الصراعاتِ الداخلية.

في هذا الإطار، يُندِّدُ حزبُ التقدم والاشتراكية بالسلوك الخبيثِ للكيان الصهيوني، الذي يستغل الوضعية الانتقالية بسوريا، من خلال تكثيفِ ضرباته العدوانية لتدمير قدرات الشعب السوري، وأساساً إمكانياته الدفاعية العسكرية. كما يعملُ على توسيع رقعة سيطرته في محيط الجولان، وعلى التوغُّلِ البري في أجزاءَ واسعةٍ من الأراضي السورية، بشكلٍ يُخشى أن يُصبِحَ دائماً.
ويجري كلُّ ذلك أمامَ صمتٍ مُـــخْــــزٍ للمنتظم الدولي، بل وتَـــوَاطُــــؤٍ مفضوحٍ لعددٍ من الدول العظمى وعلى رأسها أمريكا. وما يزيدُ الأمرَ رِيــــــبَــــــــةً هو صمتُ من أُريدَ لَــهُمُ اليوم الإمساكُ بزمامِ الشأن السوري، والذينَ تَبَدَّلَ، بشكلٍ مفضوح بين عشيةٍ وضُحاها، توصيفُهُم من طرف أمريكا وحلفائها بكونهم “تنظيماتٌ إرهابية”.
في هذا السياق، يتطلع حزبُ التقدم والاشتراكية إلى أن تحتفظ سوريا بدور إقليمي، وفق قرارٍ وطنيٍّ مستقل، لا سيما فيما يرتبط بحاضر ومستقبل تطلعات الشعب الفلسطيني نحو إقرار حقوقه المشروعة في الوجود وفي استرجاع أراضيه وفي الاستقلال.
الرفيقات والرفاق الأعزاء؛
إن التطورات التي نحياها اليوم، في الشرق الأوسط، ليس معزولةً أو وليدةَ اللحظة، بل إنَّ لها أسباباً عميقةً وجذوراً في التاريخ. فالهجومُ الإمبريالي الصهيوني الحالي على المنطقة هو تَــجَلٍّ من تجلياتِ صراعٍ طويلٍ ومخططاتٍ توسُّعية بأبعادَ هيمنية، حيث الأطماعُ الاستعماريةُ لم تتوقف وتتخذ أشكالاً مباشرة أو غير مباشرة حسب سياقاتِ كلِّ مرحلة منذ نهايات القرن 19 وبدايات القرن 20، وتحديداً منذ اتفاقية سايكس بيكو التي كان مَنطقُها هو التجزيءُ والتقسيمُ، بهدف تأبيدِ الهيمنة الإمبريالية للدول الكبرى على منطقةٍ استراتيجية وغنية بالثروات، في مقابل فرضِ التبعيةِ على البلدان المتفرعة عن سقوط الدولة العثمانية بعد نهاية الحرب العالمية الأولى.
ويجبُ ألاَّ ننسى أنَّ هذه الخلفياتِ التاريخية الأساسية وحيثياتها هي ما أدت إلى سعيٍ متواصل من القوى الاستعمارية والإمبريالية نحو القضاءِ على أيِّ دولةٍ بالمنطقة حاولتْ مقاومةَ الهيمنة والاستعمار والاستغلال، بلْ وعلى أيِّ فكرةٍ حاولتْ تبنِّي توجُّهاتٍ مستقلة ومُخالِفة.
في هذا السياق يتعين فهمُ وتحليلُ إحداث الكيان الصهيوني، في رَحِمِ الإمبريالية، كوكيلٍ لها، وكجزءٍ لا يتجزأ منها. وهو الكيانُ الذي يستفيد من هذا الوضع، ويستفيد بالتالي من الحماية المطلقة لأمريكا وباقي حلفائها.

5/ قضية مغربية الصحراء: مكتسباتٌ وتحولاتٌ إيجابية وازنة

الرفيقات العزيزات، الرفاق الأعزاء، الحضور الكريم؛
لا شكَّ في أنَّ قضيتنا الأولى، على المستوى الوطني، تظلُّ هي قضيةُ الصحراءِ المغربية، التي هي مسألةُ تحرِّرٍ وطنيٍّ عادلة، تحظى بإجماعٍ راسخ لكلِّ مكوناتِ الشعب المغربي، ولا تَقْبَلُ أيَّ جِدالٍ أو تنازُلٍ أو مساومة أو تهاوُن.
وهذه مناسبةٌ، لنجدد الاعتزاز بالمكتسباتِ التي تُواصِلُ ديبلوماسيتُنا، الحازمةُ والاستباقية، بقيادة جلالة الملك، حَصدَها على دربِ الطَّيِّ النهائي للنزاع المفتعل والمزمِن حول صحرائنا المغربية، سواءٌ من خلال الاعترافات الوازنة بسيادة المغرب على صحرائه؛ أو من خلال الإقراراتِ المكثفة بوجاهة ومصداقية مقترح الحكم الذاتي كحلٍّ وحيد لهذا المشكل الذي تمَّ افتعالُهُ في سياقاتٍ مُتجاوَزَة أيامَ الحربِ الباردة، منذ زُهَاءِ نصفِ قرن؛ أو كذلك من خلال سحبِ عددٍ من الدول لاعترافِها بجمهورية الوهمِ المزعومة.
ومن المؤكَّد أنَّ مسارَ قضيةِ وحدتنا الترابية، على الساحة الأممية، يَشهدُ تحولاتٍ إيجابية كبيرة، طبعاً من خلال موقف أمريكا ذاتِ الوزن الدولي المؤثِّر، لكن بالخصوص من خلال موقف إسبانيا، ثم موقف فرنسا، بالنظر إلى وزنهما الدولي أيضاً، وإلى ارتباطاتهما التاريخية بالمنطقة ومعرفتهما الدقيقة بأصل وحيثيات وخلفيات ومساراتِ هذا النزاع المفتعل.
وفي مقابل المشروعية القانونية والحقائق التاريخية؛ وفي مقابِلِ سياسة اليد الممدودة مِن بلاِنا تُجَاهَ الجارَةِ الشقيقة الجزائر، يُصِرُّ حُكَّامُ هذه الأخيرة على التحليقِ المتعنِّتِ في عالَمٍ آخر من الأوهام، وعلى مُعاكَسَة إرادة شعوبِ المغرب الكبير في البناء المشترك، وعلى مُعاداةِ كلِّ ما هو مغربي، وعلى الاستفزاز وحِياكَة المؤامرات والمناورات ضد بلادنا ومصالحها، وعلى بثِّ سُمومِ كراهيةِ المغرب وشعبِهِ ومؤسساته في الوجدان العام للشعب الجزائري.
كلُّ ذلك يُقْدِمُونَ عليه بحُمْقٍ ورُعُونَة، ويُنفِقون عليه، بِطَيْشٍ وسَخاء، عوض الانكبابِ على معالجة القضايا والمشاكل الداخلية للشعب الجزائري الشقيق.
أمام هذه التصرفات، فإنَّ بلادَنا ستُواصل تَوطيدَ مكانتها والارتقاءَ بمكتسباتها، على كافة الواجهات والأصعدة، أمميا وإقليميا، وكذلك قارياًّ من خلال التوجُّه الإفريقي البارز والرائد لبلادنا.

6/ الأوضاع العامة ببلادنا: أعطابٌ عميقة في العمل الحكومي

الرفيقات والرفاق؛
جديرٌ، هنا قبل الشروع في تحليل الأوضاع وطنيا، التأكيدُ على أنَّ المقاربة النقدية من حزبنا لأوضاع بلادنا داخليا، ونضالَ حزبِــنا من أجل توطيد مسارنا الوطني الديموقراطي والتنموي في إطارِ جبهةٍ داخلية متينة، لا يتنافى أبداً، بل يتكاملُ، مع دفاعِـــنا المستميت، من كل المواقع وفي كل المحافل، عن مكانة بلادنا ومصالحها العليا، وعن مشروعية وعدالة قضيتنا الوطنية الأولى.

6.1/ مقاربات حكومية متغولة ومتجاهِـــلة للأوضاع الصعبة للمغاربة

هكذا، فمنذ الدورة الرابعة للجنة المركزية، وكعادته على الدوام، حرِصَ حزبُنا على تتبعِ كافة تطوراتِ الأوضاع على الصعيد الوطني، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا. ودأبَ على إصدارِ المواقفِ إزاءَ كلِّ القضايا المستجدَّة، ارتكازاً على مبادئه وهويته ومرجعياته، واستناداً إلى أدواره الدستورية، وانطلاقاً من موقعه في المعارضة التي يمارِسها بشكلٍ بنَّاءٍ ومسؤول واقتراحي، من خارج البرلمان، ومن داخله عبر فريقه النيابي الذي يقوم بأداءٍ متميزٍ، نُنَوِّهُ به، أهَّلَهُ لاكتسابِ موقعٍ رياديٍّ في صفوف المعارضة البرلمانية.
وفي تقريرِ الدورة الأخيرة للجنة المركزية، الذي تَضمَّنَ الرسالةَ المفتوحة رقم 2 التي كان وجَّهَهَا حزبُنا إلى السيد رئيس الحكومة، تتذكرون، من دون شك، أنَّ حزبَنا كان قد تناول، بالتفصيل، مختلفَ أوجُهِ إخفاق الحكومة، في شتى المجالات، بعد مرور نصف ولايتها.
كما تتذكرون، ولا شك، أنه بناءً على ذلك نادَيْنا الحكومةَ، بصدقٍ ومسؤولية، وبغيرة وطنية وحسٍّ مُواطناتي، إلى تغييرِ المسار في اتجاه إصلاحاتٍ حقيقية، من قبيل: إعطاء نَفَسٍ ديموقراطيٍّ للفضاء السياسي وحمايته من غزوِ المال والفساد؛ والرجوع إلى توصيات النموذج التنموي الجديد؛ ومعالجة اختلالات الورش الاجتماعي؛ وتنقية مناخ الأعمال؛ وتقوية الاقتصاد الوطني؛ ودعم المقاولة المواطِنَة؛ ومحاربة البطالة.
لكن الحكومةَ اكتفتْ بإجراءِ تعديلٍ حكوميٍّ غَـيَّـرَ بعضَ الوُجُوهِ وأضافَ وُجوهاً أخرى، دون تغييرِ عُمقِ السياسات ومضمونِـها. بل أكثر من ذلك أثار التعديلُ المذكور مخاوفَ أكبر، لدى الرأي العام الوطني، بخصوص مصير المرفق العمومي، وبخصوص مخاطر تعمُّقِ مظاهر تضارُبِ المصالح. وذلك بالإضافة إلى ما طرحهُ هذا التعديل الحكومي من تساؤلاتٍ عريضةٍ حول قُدُراتِ بعض الوجوه الجديدة على حَمْلِ هكذا مسؤوليات.
كما أصرَّتِ الحكومةُ، بِــتَـعَـالِـيهَــا المألوف، على تَجاهُلِ أيِّ صوتٍ آخر. واستمرت في اعتمادِ خطابِ الارتياح والرضى المفرط عن الذات، وعلى عدم الاهتمامِ بمعاناة المغاربة وأوضاعهم الاجتماعية المتدهورة، وخاصة الفئات المستضعفة في الحواضر والقرى والطبقة المتوسطة والشباب، ولا بأوضاع المقاولة المغربية.
وواظبتِ الحكومةُ، كذلك، على غيابها السياسي المُــدَوّي، وعلى ضُعفِ حُضورها التواصلي، كَمَا على عجزِهَا عنِ استباقِ الاحتقانات الاجتماعية، والبُطءِ في مُعالجتها، كما هو الشأنُ، بعد أزمة التعليم، بالنسبة لأزمة كليات الطب والصيدلة التي استمرت لموسمٍ جامعيٍّ كامل، بما خلَّفَ تداعياتٍ سلبية يَصعُبُ جداًّ استدراكُها.
وتجرأتِ الحكومةُ، أيضاً، بشكلٍ غيرِ مسبوق، على التهجُّمِ على مؤسسات رسمية مهامُّها إبداءُ الرأي وتعزيزُ الحكامة ونشر قيم النزاهة والوقاية من الفساد وإنتاج وتجميع وتحليل المعطيات الإحصائية، كالمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، والمندوبية السامية للتخطيط، والهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، فقط لأنها تقوم بواجبها، كما فعلت مع حكوماتٍ سابقة، وتُصدِرُ تقارير وآراء وتوصيات.
إنه سلوكٌ خطيرٌ من هذه الحكومة التي تتصرف، في مغربِ الدستور والمؤسسات، وكأنها تريدُ إخراسَ أيِّ لسانٍ لا يَمدَحُ إنجازاتِها المزعومة أو يكشِفُ نقائصَ عملها أو انحرافَ توجُّهاتِها، بِما يصلُ أحياناً إلى استعمالِ أسلوب التهديد والوعيد، المرفوض والـــــمُدان.
والأخطرُ من ذلك أنَّ هذه الحكومة تتصرف على هذا المِنوالِ الغريبِ والــــمُتغوِّل مُتحجِّجَةً بأنها تتوفر على الأغلبية العددية التي تمنحها تفويضاً لكي تفعلَ ما تشاء، وقتما تشاء، وبالطريقة التي تشاء، وكأنَّ الدستور يُلغي أدوارَ كلِّ ما هو خارجَ الأغلبية الحكومية، من مؤسساتٍ ومعارضةٍ برلمانية وأحزاب سياسية ومكوناتٍ مجتمعية لها مكانةٌ وأدوارٌ يُـــــقِرُّها الدستور.
وإذا كان بديهياًّ أنَّ هذا الفهمَ التسطيحي والقاصِر للديموقراطية هو في الحقيقةِ بعيدٌ كلَّ البُعدِ عن الدستور المغربي رُوحاً ومنطوقاً، فإننا نُذَكِّرُ أيضاً بأنَّ الاستخدامَ الفاحشَ للمال، والأساليبَ الفاسدةَ التي استُعمِلت في انتخابات 2021 على نطاقٍ واسعٍ وخطير، هي أساليبٌ لا تؤهِّلُ أبداً الحزبَ الأغلبيَّ، على وجه التحديد، لادِّعاءِ أيِّ امتدادٍ شعبيٍّ، وبالأحرى الحديثِ عن “تفويضٍ شعبيٍّ مفتوح”.

6.2/ غلاء فاحشٌ للأسعار في مقابل تدابير حكومية انتقائية أو محدودة الأثر

هذا من حيثُ المقاربة. أمَّــا من حيثُ المضمون، فقد جاءتِ الحكومةُ بقانونٍ ماليٍّ رابع لسنة 2025، يُكرِّسُ نفسَ سياساتِ واختياراتِ سابِقِيهِ الفاشلة، ولا يَرقى أبداً إلى معالجة مظاهر الفقر المتزايد؛ والقدرة الشرائية المتدهورة؛ وصعوبات المقاولات المغربية التي تختنق. كما أنه لا يَرقى إلى حجم الانتظارات فيما يتعلق بضمان السيادة الاقتصادية؛ ولا فيما يرتبط بالقدرة على معالجة التراجع الخطير للتشغيل والارتفاع غير المسبوق للبطالة.
ولذلك، عارضنا، في مجلس النواب، هذا القانون المالي، طالما أنه يَــــغِيبُ عنهُ النَّفَسُ الديموقراطيُّ والإصلاحيُّ، ويَفتقدُ إلى إبداعِ الحلول السياسية، ولا يُجَــسِّدُ جواباً شافياًّ عن الأوضاعِ الاجتماعية والاقتصادية، ولا على تراجُعِ الثقة والمصداقية. كما أنه لا يَــــفِـــي حتى بالتزامات البرنامج الحكومي، فبالأحرى بالإصلاحات المتضمَّنَة في وثيقةِ النموذجِ التنمويِّ الجديد التي اتخذتها هذه الحكومةُ مرجعاً لها في تصريحها المعلَن، قبل أنْ تتخلى عنها عملياًّ بشكلٍ نهائي.
طبعاً، الحكومة قائمةٌ وتشتغِل، وفي عملها بعضُ الإيجابياتِ المعدودةِ على رؤوسِ الأصابع، مع ما يَعتري معظَمَها من شوائب ونقائص، كما هو الحال بالنسبة لاعتمادات الاستثمار العمومي؛ وللإنجازات في بعض القطاعات كالماء، والرفع من المُخَصَّصَاتِ المالية المرصودة لها؛ وارتفاع الموارد المالية؛ واستمرار دعم الكهرباء وبعض المواد الأساسية؛ وإدراج كلفة الحوار الاجتماعي؛ والرفع من حصة الجماعات الترابية من حصيلة الضريبة على القيمة المضافة من 30 إلى 32%.
لكن معظمَ تدابيرِ الحكومةِ تظلُّ جزئية، أو محدودة الأثر، أو مُصَاغَة على المقاسِ لضمان استفادة البعض على حساب عموم الشعب المغربي.
كما أن خطابَ مكونات الحكومة، على عادته، لا يَكُفُّ عن التحجج بإرثِ ماضٍ هي جزءٌ من إيجابياته ومن سلبياته. وهو خطابٌ يعتمد، كذلك، على تبرير الأوضاع بالتقلبات الدولية، ويتجاهل الفرص المتاحة، كارتفاع المداخيل الجبائية أساساً بسبب الغلاء والتضخم، أيْ من جُــيوبِ المواطنات والمواطنين؛ وارتفاع عائدات مغاربة العالَم ومداخيل السياحة؛ وانتعاش الاقتصاد العالمي نسبيا بعد جائحة كوفيد 19.
نعم، لقد تمت مراجعة أشطر الضريبة على الدخل وتمَّ إقرارُ زياداتٍ في الأجور. لكن هذيْن الإجْراءَيْن، على إيجابيتهما، فهما لا يدعوان إلى كلِّ هذا الانشراح الحكومي المفرط، لأنهما إجراءان لا يُعَوِّضان أبداً فارقَ التضخم وغلاء الأسعار والتدهور الخطير للقدرة الشرائية.
وحتى عندما تأتي الحكومة لتقول بأن معدل التضخم قد انخفض، فإن احتسابَ هذا الانخفاض يتمُّ على أساس الأسعار بعد ارتفاعها الصاروخي حيث بلغ التضخم معدلات قياسية من رقمَيْن بالنسبة للمواد الاستهلاكية، وليس على أساس الأسعار الأصلية التي كانت قبل مجيء هذه الحكومة.
ومن المؤكد أن هذا التلاعب بالأرقام لا يَنْطَـــلي على الناس الذين يكتوون بلهيب أسعار كل شيء، بما في ذلك أسعار المحروقات، التي حتى وإنْ انخفضتْ أثْـــــــمانُـــــــها في الأسواقِ الدولية، فإنَّ ذلك لا يَنعكِسُ بنفْسِ القدْرِ على السوق الوطنية، مما يؤكد استمرار التفاهماتِ غير المشروعة التي أقرَّ بوجودها مجلس المنافسة، وأدت إلى مُراكمة عشرات الملايير من الدراهم، كأرباحٍ خيالية، من طرفِ الفاعلين في هذا المجال الذي يحتاجُ إلى تنقيته من التواطؤات والممارسات غير القانونية التي تُضرُّ بالقدرة الشرائية للمغاربة وتؤثر سلباً على المقاولات المغربية، وذلك في ظل تعنُّتِ الحكومة وإصرارها (لِــحاجةٍ في نفس يعقوب) على رفضِ إعادة تشغيل مصفاة لاسامير ذات الأدوار الاستراتيجية في خفض الفاتورة الطاقية، وفي التخزين والتكرير، وبالتالي في ضمان السيادة الطاقية لبلادنا (استوردت بلادُنا في 2022 نحو 153 مليار درهماً، وفي 2023 حواليْ 122 مليار درهماً، من المواد الطاقية).
إن هذا الارتفاع الفاحش والمتواصل في أسعار معظم المواد الاستهلاكية والخدماتية هو الذي يفسر انزلاقَ 3.2 مليون مغربي نحو عتبةِ الفقر والهشاشة، وهو الذي يُفسِّر تَدَهوُرَ مستوى معيشة أكثر من 80% من الأسر المغربية. وذلك في الوقت الذي وعدتْ فيه الحكومةُ بتوسيعِ دائرةِ الطبقة المتوسطة.
وفي مقابلِ عجزِ الحكومة عن المراقبة الحقيقية للأسواق والمحاربة الحازمة للمضاربات والاحتكارات؛ ورفضِـــهَا الممنهج لاتِّــــخاذِ أيِّ إجراءٍ لتسقيفِ أسعار الغازوال والبنزين، أو تخفيضِ هوامش الربح، أو الرفع من الضرائب المفروضة على قطاع المحروقات إلى 40%؛ وفي مقابل رفضها لتسقيفِ أسعارِ المواد المستفيدة من الدعم العمومي السخي؛
في مُقابل كل ذلك، ودون أيِّ أثرٍ إيجابيِّ يُذْكَر على القدرة الشرائية للمغاربة، ولا على أسعار النقل، ولا على أسعار اللحوم، ولا على أثمنة أضاحي العيد، عَمَدَتِ الحكومةُ إلى تقديمِ دعمٍ ماليٍّ ضخم لأرباب النقل، كلفتُهُ الإجمالية 8.6 ملايير درهماً. كما لجأتْ إلى تقديمِ امتيازاتٍ مالية انتقائية، على طبقٍ من ذهب، إلى بعضِ مُستوردي الأبقار والأغنام، كَلَّفَ الخزينة العامة إجمالاً أزيدَ من 13 مليار درهماً، في شكلِ إعفاءاتٍ من رُسومِ الاستيراد ومن الضريبة على القيمة المُضافة، عِلاوَةً على الدعم المالي المباشر لبعض هؤلاء المستوردين.

6.3/ الارتفاع غير المسبوق للبطالة: النقطة الأكثر سواداً ضمن إخفاقات الحكومة وخاصة في المجال الاقتصادي

من جهة أخرى، في الوقت الذي وعدت فيه الحكومةُ الشعبَ المغربي بإحداث مليون منصب شُغل، ها هي تُواصِلُ إنتاجَها للبطالة بشكلٍ غير مسبوق، حيث في الفصل الثالث من السنة الجارية 2024:
* بلغ عدد العاطلين 1.683.000 شخصاً؛
* وانتقل معدل البطالة إلى13,6%، و17%بالوسط الحضري، و39,5% وسط الشباب، و20,8% في وسط النساء، و19,8% بالنسبة لحاملي الشهادات؛
* وارتفع حجمُ الشغل الناقص بـ 60 ألف شخصاً، ليبلغ مليون و66 ألف شخصاً؛
كما قفز عددُ الشباب الذين يُوجدون خارج فضاءات التعليم والشغل والتكوين إلى 4.3 مليون شابًّا.
إنها أرقامٌ دالَّةٌ تؤكد تَــــفَاقُــــمَ البطالة، كنقطةٍ سوداء في عهد هذه الحكومة، بما يُبرهِنُ على فشلِ مقارباتِها الاقتصادية، وعجزها البيِّن في تطويرِ قُدراتِ المقاولات المغربية، وفي اعتماد تطويرٍ حقيقي لتصنيعٍ حديث.
ثم إنه فشلٌ ذريعٌ لا يمكن للحكومةِ أن تفسرهُ فقط بالجفاف، بدليل أنه ما بين الفصل الثالث من سنة 2023 ونفس الفصل من سنة 2024 لم يَخلُقْ قطاعُ الصناعة بما فيها الصناعة التقليدية سوى 23 ألف منصبَ شُغل. كما لا يساهم القطاع الصناعي سوى بنسبٍ ضعيفة في الناتج الداخلي الخام (حواليْ 15%)، ونستورد جلَّ المواد المُصَنَّعَة، بما فاقَمَ العجز التجاري أكثر وأكثر. فهل هذا هو التصنيعُ الذي وعدت به الحكومةُ!؟
طبعًا، نُسجِّــــلُ إيجاباً، من باب الموضوعية، التقدُّمَ الحاصلَ في توطينِ شركاتٍ كبرى لصناعة السيارات، وفي صناعة الطيران، وفي صناعة الأدوية. لكن للتصنيع القويٍّ والحديث مستلزماتٍ أخرى أساسية، تغيبُ عن عمل هذه الحكومة، تناولناها بالتفصيل في عددٍ من وثائق حزبنا الاقتراحية التي يمكن مراجعتها، وذلك من قبيل القدرة على الرفع من القيمة المضافة ومن نسب الإدماج المحلي، والقدرة على نقل التكنولوجيا والمهارات، وعلى تطوير القدرات التصنيعية الفعلية في قطاعاتٍ ومجالاتٍ متنوعة وواعدة.
وفي مقابل تَعَهُّدِ الحكومة بتحقيق نسبةِ نمو 4%، فإنها لا تحقق عملياًّ ســــوى ما بين %1 و%3. وأفلست آلافُ المقاولاتِ (27 ألف مقاولة ما بين 2021 و2023) في عهد هذه الحكومة التي تدَّعِي كفاءةً مزعومةً في الجوانب الاقتصادية، في حين أنها أفرطت في الاقتراض، إذ وصلت نسبة الدين العمومي الإجمالي حواليْ 86% من الناتج الداخلي الخام (وليس 69% كما تقول الحكومة التي لا تحتسبُ سوى ديْنَ الخزينة فقط، بشكلٍ انتقائي).
كما يُسَجَّلُ تَواضُعٌ كبيرٌ في القدرة على جذب الاستثمارات بجميع أصنافها. وعَجزت الحكومةُ في جعل الاستثمار الخصوصي يُشكِّــــلُ ثُــــلُـــثَـــيْ الاستثمار الإجمالي الوطني. ولم تلتزم ببلورة التعاقد الوطني حول الاستثمار من أجل تعبئة 550 مليار درهماً من الاستثمارات الخصوصية لإحداث 500 ألف منصب شغل.
وحتى تلكَ الاستثماراتُ الخصوصية المُعلنِ عنها فإنها تعاني من سوء التوزيع المجالي، ومن ضُعفِ تتبُّعِ مدى إنجازها الفعلي، وأيضاً من ضُعفِ مردوديتها على مستوى التشغيل.
أما بالنسبة للمشاريع المستفيدة من مختلف أشكالِ الدعم، سواء منه الأساسي أو في صيغة امتيازات متفاوَض بشأنها، في إطار ميثاق الاستثمار، فإن هناك مخاوفَ جدية، نجدد التنبيه إليها، بخصوص مدى شفافيتها وحكامتها، ومحاذير حقيقية بشأن تَحَوُّلِّها إلى مَـــــرتَعٍ آخر للريع ولتضارب المصالح. وما يُرجِّحُ هذا التوجُّه هو أن الحكومة، لحد الساعة، تتلكأُ، على وجه التحديد، في إخراج النصِّ التنظيمي المتعلق بأنظمة دعم المقاولات الصغيرة جدًّا والصغرى والمتوسطة.
وأمام هذا العجز الاقتصادي والاستثماري، المُــــفْـــضِي إلى تعمُّقِ أزمة البطالة، اكتفت الحكومةُ بالإعلانِ عن برامجَ ضبابيةٍ وغير دقيقة، وأخرى متواضعة الأثر، كبرنامجيْ فرصة وأوراش، اللذيْنِ أحدثَــــتْ بهما الحكومةُ زوبعَةً في فنجان، وخلقَتْ بهما انتظاراتٍ واسعةً، قبل أن يَـــتَـحَوَّلَا إلى مصدرِ إحباطٍ كبير للشباب.
لكن الفشلَ الاقتصاديَّ للحكومة لا تتوقفُ مؤشراتُهُ وتداعياتُهُ عند أزمة البطالة فحسْب، بل يتعدى ذلك إلى العجز عن تحقيق السيادة الاقتصادية، أساساً في الميدان الطاقي كما قلنا سابقاً، وبالخصوص في المجال الغذائي، حيث تفوق القيمةُ المالية لوارداتنا الفلاحية قيمةَ صادراتِنا (في سنة 2023، بلغت وارداتنا الغذائية 90 مليار درهماً مقابل 77 مليار درهماً فقط كصادرات)، حيثُ تنطوي السياسة الفلاحية، المتمثلة في مخطط المغرب الأخضر ثم الجيل الأخضر، على استنزافِ مَـــواردِنا المائية الضعيفة أصلاً بالاعتماد على الزراعات التصديرية على حسابِ الحاجيات الفعلية للمغاربة، وعلـــى الإعفاءاتِ الضريبية لفائدة كبار الفلاحين، دُونَ أيِّ اهتمامٍ بالفلاح الصغير، ولا بالأوضاعِ البائسة للعالَم القروي، ولا بالفلاحة التضامنية والأسرية، بما أدى إلى تفاقُمِ الهجرة القروية وتدهور أوضاع المزارعين الصغار، وإلى اضطرارنا لاستيراد عددٍ كبيرٍ من حاجياتنا الغذائية الأساسية كالحبوب واللحوم والزيوت والقطاني.

6.4/ اختلالات ورش التغطية الصحية

الرفيقات والرفاق؛
من جهة أخرى، تَــــدَّعِّـــي الحكومةُ أنها أنهت ورشَ تعميم التغطية الصحية. لكن أرقاماً رسمية تُكَذِّبُ ذلك، حيث حسب المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، لا يزالُ 8.5 مليون مغربية ومغربي خارجَ الاستفادة من هذا الورش الاجتماعي الهام. وفرضتِ الحكومةُ، من خلال عتباتٍ مُجحِفة، أداءَ الاشتراكِ على ملايين الأسر غيرِ القادرة على ذلك.
كما فشلت الحكومةُ في خلق الجاذبية لضمان اشتراك المهنيين المستقلين والعمال غير الأجراء الذين يظلُّ معظمُهم غيرَ مسجَّلين أو لا يُـــؤَدُّونَ الاشتراكاتِ المفترَضة (معدل تحصيل الاشتراكات لا يتجاوز 36% حسب أرقامِ الحكومةِ نفسِــها)، بما يهدد في العمق استدامةَ تمويلِ ورشِ التغطية الصحية.

وفوق هذا وذاك، فإنَّ المسجَّـــلين في أنظمةِ التغطيةِ الصحية يؤدون عمليا أزيد 50% من مصاريف العلاجات والأدوية بسبب اختلالات التأمين. مع العلم أنَّ متوسط تحمُّل ملف صحي في مصحة خصوصية يَفُوقُ نظيرَهُ في المستشفى العمومي ب 5 مرات.
والأدهى من ذلك، أن هذه الحكومة، التي تَـــتَســـتَّـــرُ على طبيعتِهَا المنتصرة للوبيات المال بالرفع الزائف لشعار «الدولة الاجتماعية»، جعلتْ ورشَ التغطية الصحية في خدمة مصالح القطاع الصحي الخصوصي على حساب المستشفى العمومي.
وبالأرقام: فإنَّ معظم نفقات التأمين الصحي الإجباري الأساسي يستفيدُ منها القطاعُ الصحي الخصوصي (95% بالنسبة لأجراء القطاع الخاص CNSS؛ و80% بالنسبة لأجراء القطاع العمومي CNOPS؛ و%57 بالنسبة ل»أمو تضامن»). وهذا بالضبط ما يفسرُ تناسل المصحات الخاصة، مثل الفِطْر (439 مصحة في نهاية 2023).
وبالإضافة إلى كل ذلك، فإننا نُــــنَـــبِّــهُ الحكومةَ إلى اختلالاتِ التوازنات المالية لمعظم أنظمة التغطية الصحية التي تعاني، أو ستعاني قريباً، من عجزٍ مالِــيٍّ. ممَّا يَــطرحُ فعلاً مسألةَ الاستدامةِ المالية بحدة.

6.5/ نقائص الدعم الاجتماعي المباشر واتساع دائرة الفقر

أما على مستوى الدعم الاجتماعي المباشر، الذي كان يرفضُهُ، إلى عهدٍ قريب بالمطلق، الحزبُ الذي يترأس اليوم الحكومة، فإن هذه الأخيرة، بمـــنطـــــقٍ محاسباتي صِرف، تسعى نحو الالتفافِ على هذا الورش لخفضِ الكُـــلفــــــــــة الفعلية، من خلال إعمالِ مؤشرٍ إقصائي بمعايير غريبة. مما أدَّى إلى حرمانِ مئاتِ آلافِ الأسر من الاستفادة، وإلى إيقاف تقديــمِ هذا الدعم على عددٍ من الأسر شهوراً قليلة بعد بدايته.
وذلك مع العـِــلْـــمِ أنَّ الحكومة تخلَّـــت تماماً عن التزامها بتوفير مدخول الكرامة لكبار السن. كما حذفت برامج اجتماعية سابقة، بمبرر التجميع، لكن تبيَّنَ في الواقع أن عدداً من المواطنات والمواطنين فقدوا استفادتهم من برامج كتيسير، ودعم الأرامل، ومليون محفظة، والتماسك الاجتماعي، دون الاستفادة نهائيا من الدعم المباشر، أو الاستفادة بمبالغ أكثر هزالةً من السابق.
وإذا كانت الحكومة تتبجَّــحُ بأنها صارتْ تُـــقَــدِّمُ الدعمَ المباشر (غالبا في حدود 500 درهماً)، فإن ما يجب الانتباهُ إليه هو أن رقم 4 ملايين أسرة تقريباً hZ ـــشماعي المباشر ية مي. تستفيد من هذه الإعانات العمومية، يعني أنَّ نحو 14 إلى 15 مليون مغربية ومغربي يعيشون من غير أيِّ مورد عيشٍ ذاتي، تحت عتبة الفقر. وهذا أمرٌ خطير يدلُّ على اتساع دائرة الفقر في عهد هذه الحكومة التي لا تقولُ للرأي العام كيف ستقوم بواجبها في إدماج هؤلاء الملايين اجتماعيا واقتصاديا وإخراجهم من رقعة الاحتياج.

6.6 تضخيم الحكومة للأرقام المعلنة في مقابل تواضُع الإنجاز دليل على اتخاذها “الدولة الاجتماعية” مجرد شعار

إن “الدولة الاجتماعية” ليس شعاراً للاستهلاك أو للدعاية التضليلية، بل هو مفهومٌ واقتناعٌ فكريٌّ وسياسيٌّ، يتعين أن يَـــتْـــلُــوَهُ إنجازٌ ملموسٌ وَوُلُوجٌ فعليٌّ وعادلٌ إلى الخدمات العمومية الأساسية، في إطار المساواة والعدالة الاجتماعية، وليس فقط إطلاقُ التصريحات والإعلانُ عن مبالغَ ماليةٍ خيالية ومُضَخَّمَة دون الالتزامِ بها، كما تفعل هذه الحكومة.
ولذلك، نُصِرُّ، في حزب التقدم والاشتراكية، على مُطالبَةِ الحكومة بإحداث “قانونٍ لتمويل الحماية الاجتماعية”، بهدف ضمان الاستدامة والشفافية، وحتى تتَّـــضِحَ للرأي العام المَبالغُ المالية التي تُصرفُ فعلياًّ على هذا المستوى، وحتى نتفادى خلقَ انتظاراتٍ عريضةٍ تنتهي بخيْــباتِ أملٍ في صفوف أوسع الفئات المستضعفة.
وللبرهان على مفارقاتِ الأرقام التي تعلنها هذه الحكومة مع مُنجزها المتواضع في الميدان، سنكتفي بإعطاءِ مثاليْن اثنيْن فقط:
* أولاً: أعلنت الحكومة أنها ستخصص 24 مليار درهماً سنويا، على مدى 5 سنوات، لتنفيذ برنامج إعادة تأهيل المناطق المتضررة من زلزال الحوز، في حين أن ما تمَّ إنفاقهُ فعلاً إلى غاية نهاية أكتوبـــر 2024 لا يتجاوز حواليْ 9.5 مليار درهماً. بما يؤكد التعثرات التي يعرفها تنفيذُ هذا البرنامج الهام الذي يتعين تسريعه وضمان نجاعته وحكامته، كما ينبغي توسيعه ليشمل كافة المناطق الجبلية ببلادنا.
* ثانيا: أعلنت الحكومة تخصيصَ حواليْ 9.5 مليار درهماً سنويا، لدعم اقتناءِ السكن بصورة مباشرة، في حين أن المنجز الفعلي لا يتراوح سوى ما بين 2 و2.5 مليار درهم في هذه السنة. ناهيك على أن 3 جهات فقط تستحوذ على 80% من مجموع الاستفادة من هذا البرنامج، الذي ندعمه مبدئيا، لكنه يحتاجُ أساساً إلى محاربة ظاهرة “النوار”، وإلى توفير شروط إقبال المنعشين العقاريين على إنتاج ما يلزم من عرضٍ سكني، مع ضرورة تحريك الأدوات العمومية لتوفير هذا الصنف من السكن بشكلٍ متكافئ وعادل في كافة مناطق بلادنا.

6.7/ مخاطر حقيقية تهدد المرفق العمومي في عهد هذه الحكومة الرفيقات والرفاق الأعزاء؛

يُواجِهُ المرفقُ العمومي والخدماتُ الأساسية، فعلاً، مخاطر حقيقية مع هذه الحكومة. وهو ما يقتضي منَّا كاملَ اليقظة.
وإذا كنا، قبل قليل، بارتباطٍ مع موضوع التغطية الصحية، قد ذَكَرنا بعضاً ممَّا يؤشِّرُ على عدم اهتمام الحكومة بالمستشفى العمومي، رغم المجهود الذي بدأ منذ سنواتٍ في بناء وتأهيل عددٍ من المستشفيات الجامعية والإقليمية، ورغم التشريعات الجديدة التي صدرت، فإنَّ هذه المستشفيات العمومية، بكافة أصنافها، تُعاني من قلة الموارد البشرية، ومن هجرة الأطر الطبية والتمريضية نحو الخارج أو نحو القطاع الخصوصي، بالنظر إلى ضعف جاذبية ظروف ممارسة المهنة في القطاع العمومي، ومن ضُعف التجهيزات، وسوء توزيع الخريطة الصحية على التراب الوطني، ومن ضُعفِ جودة الخدمات العلاجية، ومن الغلاء الفاحش للأدوية.
وكل ذلك هو ما يدفعُ أغلبَ المغاربة اضطراراً للاتجاه نحو المصحات الخاصة، والتي عددٌ منها تسود فيه ممارساتٌ لا علاقة لها بأخلاق الطب، ومنها “النوار وشيكات الضمان”. وفي مقابل ذلك تتحجج الحكومةُ بأنه ليس لديها ما يكفي من الإمكانيات للتدخل والمراقبة والضبط.
إنها مقارباتٌ حكومية تدلُّ، بالملموس، على أنَّها تتجه ضمنياًّ نحو الإجهاز العملي على الخدمة العمومية في الصحة. ومن الأدلة على ذلك إخضاعُ عددٍ من المستشفيات، ضمن منشآتٍ عمومية أخرى، إلى التفويت تحت قناع “التمويلات المبتكرة”، وبشكلٍ يفتقدُ إلى الشفافية اللازمة.
ولمعرفة خطورة المسألة وعُمقِها فإنَّ عائداتِ التمويلات المبتكرة في السنوات الثلاث الماضية بلغت حواليْ 80 مليار درهماً. وكانت هذه الموارد المؤقتة، التي لا تتسم بطابع الاستدامة والبنيوية والشفافية، من أسبابِ التراجُعِ غير الحقيقي، بل الحسابي فقط، لمعدلاتِ عجز الميزانية المعلنة.
أما المدرسةُ العمومية فهي لا تخرجُ عن هذه التوجُّهات الحكومية، حيث أنه رغم المعالجة “الاضطرارية” نسبيًّا لبعض مطالب نساء ورجال التعليم في النظام الأساسي الجديد، ورغم بعض المجهود المبذول في عهد الوزير السابق، خاصة على مستوى اعتماد مدارس الريادة كتجربةٍ تحتاجُ إلى التقييم والتقويمِ والتطوير، إلاَّ أنَّ الحكومة عموماً تبتعدُ أكثر فأكثر عن تحقيق مدرسة الجودة والتميُّز وتكافؤ الفرص التي التزمت بها.
هكذا، لم تتم مباشرةُ تفعيل القانون الإطار، ولم تتم مُباشرَةُ إصلاح البرامجِ والمناهج. ولا يزالُ المستوى العام للتلاميذ بالتعلُّمات الأساسية في مؤخرة التصنيفات البيداغوجية المتخصصة. والكتابُ المدرسي تشوبُهُ اختلالاتٌ عميقة على مستوى تداوله التجاري وعلى مستوى محتوياته، كما وقف على ذلك مجلسُ المنافسة.
ولا تزالُ الحكومةُ تعلنُ، بشكلٍ عجيب، أنها غيرُ قادرةٍ على مراقبة وضبط الممارساتِ غير القانونية السائدة في عددٍ كبير من مؤسسات التعليم الخصوصي، التي تؤدي خدمةً أساسيةً طابَــــعُـــــهَـــا عموميٌّ بامتياز، ولا سيما منها فرضُ الأسعار والرسوم كيفما تريد وبالقدر الذي تريد، وفرضُ التدريس وفق كتبٍ مدرسيةٍ غير معتمَدة رسميا وباهظة الثمن.
وفوق كل ذلك، تعاني الأسر المغربية من الغلاء الفاحش في أسعار مستلزمات الدراسة. ويزدادُ الأمرُ تفاقُماً في المجالات الترابية القروية وفي ضواحي المدن والمناطق النائية، حيث تعاني آلافُ المدارس العمومية من غيابِ أبسط المرافق، ومن غياب النقل المدرسي، وضُعف خدماتِ الداخليات، بما يفسر الحجم المهول للهدر المدرسي، وخاصة في صفوف الفتيات، حيث أنَّ عدد الذين يُغادرون سنويا مدارِسَنا يُناهز 300 ألف من التلميذات والتلاميذ، بما يُغَذي الحجم المخيف لLes NEET.
إنَّ تجاهُلَ الحكومةِ لأوضاع المدرسة العمومية ومستلزماتِ إصلاحها، لَهُوَ أفضلُ دليلٍ على التهديد الحقيقي الذي يَطالُ المرفق العمومي في ظل هذه الحكومة. وذلك في الوقتِ الذي لا يمكنُ أبداً تحقيقُ مجتمع المعرفة من دون تعليمٍ عمومي جيد، ومن دون مَحوٍ حقيقي للأمية التي لا تزال تمسُّ رُبْعَ المغاربة البالغين من العمر أكثر من 10 سنوات، وثُـــلثَ النساء، و38% من ساكنة العالم القروي، وذلك حسب نتائجِ الإحصاء العام للسكان والسكنى الأخير.
ونحنُ بصدد الحديث عن المخاطر التي تتهدد المرفق العمومي، فإنه لن يفوتَنا التنبيه، من جديد، إلى ضرورة صَوْنِ أسعارِ وجودة خدماتِ الماء والكهرباء وتطهير السائل، والإبقاء عليها كخدماتٍ عمومية حيوية لا يمكن تفويتُها، أخذاً بعين الاعتبار المخاوفَ المعبَّر عنها مجتمعياًّ من مسار ونتائج التخلي عن المكتب الوطني للكهرباء والماء الصالح للشرب لفائدة الشركات الجهوية المحدثة.
في هذا الإطار، نُجدد التأكيد على ضرورة بلورةِ مخططٍ اقتصاديٍّ يُكَرِّسُ الاستثمار العمومي الفعال، مع معالجة اختلالاته، وجعل الإنسان في قلب التنمية، والتقيُّـــد بالحفاظ على الموارد الطبيعية.
كما نؤكد على وُجوبِ الحفاظ على الدور الاستراتيجي للدولة الــــــمــــُـــــــنَــــــــمِّــــــيَّـــــة كقاطرة، لا سيما في القطاعات الحيوية، إلى جانبِ قطاعٍ خصوصي مسؤول ومُكَمِّل، وعلى ضرورة صَوْنِ المرفق العمومي، وإجراء الإصلاحات اللازمة على القطاع العام، في اتجاه ضمان جودته ونجاعته وتحديثه وديموقراطية تدبيره وحكامته الجيدة، وفي اتجاه ضمان الولوج المتكافئ والعادل والفعلي إلى الخدمات التي ينبغي أن يوفرها. وسيظل حزبُنا مُتَحَلِّياًّ بأقصى درجات اليقظة السياسية دفاعاً عن هذه الرؤية والمقاربة.

6.8/ إصلاحات جوهرية غائبة عن العمل الحكومي

وإلى جانبِ كل النقائص والاختلالات المسجلة في عمل الحكومة، وأمام خطابٍ حكومي يدَّعِـــي زُوراً وبُهتاناً إنجازَ كلِّ شيء وبشكلٍ غير مسبوق، لا بد من التذكير بأنَّ هذه الحكومة تُغيّبُ إصلاحاتٍ أساسية، بعضُها واردٌ في النموذج التنمويِّ الجديد:
* فَلَمْ تُباشر الحكومةُ الإصلاحَ الجبائي، بشكلٍ شاملٍ وعادل، وفق القانون الإطار، ولم تعمل لا على توسيع الوعاء الضريبي، ولا على مكافحة الغش والتملص الضريبي، ولا على الحدِّ من الإعفاءات والامتيازات الجبائية غير المجدية، أو إعادة تقييمها، وهي التي استنزفت في سنة 2024 وحدها نحو 32 مليار درهماً؛
* ولم تُدمِج الحكومةُ القطاع الاقتصادي غير المهيكل في الاقتصاد الرسمي، وهو الذي يشكل نحو 30% من الناتج الداخلي الخام، حيث كان منتظراً منها الإدماج التحفيزي للقطاع غير المهيكل المعيشي، ومكافحة اقتصاد الظل؛
* كما عجزتِ الحكومةُ عن إصلاح صندوق المقاصة لضمانِ الاستفادة الحصرية للمحتاجين فعلاً إلى الدعم من هذا الصندوق؛
* ولم تعملْ بعدُ على إصلاح قطاع المؤسسات والمقاولات العمومية الذي يستنزف سنويا في حصيلةِ علاقته مع الميزانية العامة حواليْ 50 مليار درهما؛
* ولم تقترب الحكومةُ، كذلك، من إصلاح صناديق التقاعد المهددة بالإفلاس، في مقابل سعيِها نحو دمج cnss و cnops، بشكلٍ ضبابي، وخارج مؤسسة الحوار الاجتماعي، بما يثير تخوفاتٍ مشروعةٍ لدى الأجراء. تخوفات تنضاف إلى التحفظات المشروعةِ إزاءَ أيِّ صيغةٍ تضييقية لقانون الإضراب؛
* أما التحول الإيكولوجي والاقتصاد الأخضر فيظلان خطاباً أجوفَ لدى الحكومة، من دونِ أيِّ تفعيلٍ ملموس؛
* كما لم تجتهدِ الحكومةُ، بالشكل المطلوب، في الحد من نزيفِ هجرة الطاقات والكفاءات المغربية، ولا في الاهتمام الكافي بقضايا مغاربة العالم، لضمان مشاركتهم بصورة أقوى في بناء المسار التنموي والديموقراطي الوطني. وهي مناسبة لكي ندعو الحكومة إلى التسريع بإعادة هيكلة المؤسسات المعنية بقضاياهم، كما ورد ذلك في الخطاب الملكي السامي بمناسبة الذكرى التاسعة والأربعين للمسيرة الخضراء.

6.9/ تضارب المصالح والفساد الاقتصادي في قلب الحكومة ومحيطها

الرفيقات والرفاق الأعزاء؛
لا شكَّ في أنَّ ما يعيشُهُ المغاربة مع هذه الحكومة هو أحدُ تجلياتِ الصراع الطبقي، وهو قائمٌ فعلاً، ويتخذ أشكالاً متعددة، ويجري في فضاءاتٍ متنوعة.
وصحيحٌ أنَّ مظاهر الأزمة الاجتماعية والصعوبات الاقتصادية هي نتيجة الطبيعة الطبقية لهذه الحكومة التي تصطف في صفِّ لوبيات الريع والمال، رغم محاولاتِ إخفاءِ هذه الطبيعة وراءَ خطابٍ اجتماعي بصورةٍ تضليلية.
أحياناً، نقول مجازاً إنَّ هذه الحكومة ليبرالية. لكن الواقع يجعلنا نقول “يا لَيْتَهَا فعلاً كانت كذلك”. فعلى الأقل كانت لِتحترِمَ حينَها المنافسةَ الشريفة والنزيهة، وكانت لِـــتعتمد، بشكلٍ أمثل، على منظومة الحق والقانون في مجال الاقتصاد وفي عالَمِ الأعمال.
فإذا كُنَّا مقتنعين، في حزب التقدم والاشتراكية، بأنَّ للقطاع الخصوصي، المسؤول والمنتِج والتنافسي، أدواراً أساسية في النهوض الاقتصادي لبلادنا، فإنَّ الواقع يُبَيِّنُ أنَّ هناك أزمةً حقيقية تَشوبُ ثقةَ المقاولين والمستثمرين في مَناخ الأعمال وسلامته.
ولسنا نحنُ وحدنا من يقولُ ذلك، بل يتعين الإنصاتُ إلى معاناة الفاعلين في الميدان، كما يمكن الرجوع إلى آخر تقريرٍ سنوي للهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها.
فبالفعل، لقد تراجعت بلادُنا، في السنوات الثلاث الأخيرة، رغم المجهود المبذول منذ أعوامَ طويلةٍ، في معظم المراتِبِ والمؤشراتِ ذاتِ الصلة بالحكامة، بما فيها تلك المرتبطة بالنزاهة العمومية، وإدراكِ الفساد ومخاطره، ومؤشر الرشوة، ومؤشر الفسـاد في السـلطة التنفيذيـة، وفي القطاع العمومي، وفي تطبيق القانون، ومؤشر الحكومة المنفتحة، ومؤشر التنافسية والحرية الاقتصادية، مع تراجُع مؤشر قدرة المجتمع المدني، بما فيه الصحافة، على المراقبة.
إن تعمُّقَ الفساد، في عهد هذه الحكومة، ليس له تداعياتٌ على الحكامة فقط، بل له أيضاً كلفة اجتماعية باهظة تؤديها غالباً الفئاتُ المستضعفة، وكلفة اقتصادية ثقيلةٌ نؤديها من الناتج الداخلي الخام لبلادنا.
وعوض أن تعمل الحكومةُ على معالجة هذا الوضع المختل وتنقيته على مستوى حكامة وشفافية مناخ الأعمال، ومُحاربة الفساد والريع، فإنها تُصِرُّ على عدم التعاون والتفاعل مع مؤسسات الحكامة، بل ولجأت إلى التهجم عليه، كما قلنا، لا لسببٍ إلا لأنها تقوم بأدوارها.
وأقدمت الحكومةُ، كذلك، على السقوط المتكرر في شُبْهَاتِ مَــــنحِ الامتيازات والدعم العمومي والمعلومة الاقتصادية لأشخاص مرتبطين بالفضاء الحكومي وبالحزب الأغلبي. كما تابع الرأيُ العام كيف أنَّ الحكومة لا تتورَّعُ عن إقرار أو اقتراح تعييناتٍ لمقربين من الحزب الأغلبي على رأس قطاعاتٍ أو مؤسسات أو صناديق عمومية، بعيداً عن المعايير الموضوعية اللازمة.
والغريبُ، بهذا الشأن، في سلوكِ هذه الحكومة أنها تختزل “مكافحة الفساد” في تبسيط المساطر الإدارية فقط، في حين أنها سحبت من البرلمان مشروع القانون الخاص بالإثراء غير المشروع، ولم تستجب إلى النداءات الداعية لفتح النقاش بأفق بلورةِ قانونٍ متعلق بتضارب المصالح تفعيلاً للدستور.
والواقع أنَّ هذا التوجُّهَ الحكومي ينسجمُ تماماً مع طبيعتها، ومع ممارساتها التي يعتريها تنازُعُ المصالح، بشكلٍ صارَ معلناً وصريحاً، يُدافعُ عنه رئيسُ الحكومةِ على الملأ أمامَ البرلمان. وفي هذا الأمر غير المسبوق خطورةٌ مؤسساتية ومجتمعية ليس بعدها خطورة. كما أنه يتنافى مع الدستور وخاصة الفصل 36 منه.
إن الحكومة تسعى نحو ترسيخ التطبيع مع تضارُب المصالح في صفوفها وفي محيطها. فبعد التفاهمات غير المشروعة في سوق المحروقات، التي أكدها مجلس المنافسة، جاء الدورُ على محاولاتِ تحويل ميثاق الاستثمار الجديد، وأنظمة الدعم والامتيازات التي أقرَّها، إلى منبعٍ جديدٍ للريع والفساد.
وها هو الرأي العام، اليوم، بدأ في اكتشافِ سببِ كلِّ هذا التأخر في إخراج نظام دعم المقاولات الصغرى والمتوسطة، في مقابل الإصدار السريع لنظام دعم المشاريع التي تُصَنَّفُ استراتيجية.
هكذا، برزت فضيحةُ صفقة محطة تحلية مياه البحر بالدار البيضاء، بامتيازاتها المفترضَة، والتي لا ينفي رئيسُ الحكومةِ أنه حازَ عليها، دون أدنى خجل، علماً أنَّ الأمر حتى لو كان قد مُرِّرَ وفق المساطر الجاري بها العمل لحد الآن، فإنه ينطوي على محاذير أخلاقية وسياسية خطيرة لم يسبق لمسؤولٍ حكوميٍّ على هذا المستوى أن وَقَعَ فيها بهذا الشكل الصارخ والفاضِح.
تأسيساً عليه، فإن الوقتَ قد حان لأجل مراجعة منظومتنا التشريعية، حتى تتلاءم مع الدستور، ولا سيما من خلال المنع النهائي للجمع ما بين سلطة السياسة وتدبير الشأن العمومي، من جهة، وما بين سلطة المال والاشتغال في حقل المنافسة الاقتصادية والسعي نحو نيْل طلبياتٍ عمومية من جهة ثانية، سواء من موقع التسيير المباشر أو غير المباشر لأعمال خاصة.

6.10/ الفساد السياسي يستلزم رجة مجتمعية

الرفيقات والرفاق الأعزاء؛
تعلمون، كما يعلمُ الرأي العام، أن حزبَنا لم يتوقف عن المناداة بالنفَسِ الديموقراطي الجديد، لإحداث أجواء التعبئة الاجتماعية وتحرير الطاقاتِ والمبادرات المجتمعية، وللرُّقِـــيِّ بالمُـــشاركةِ الفاعلة والواعية للمواطنات والمواطنين. كما نادى حزبُنا، ولا يزال، بالحركة الاجتماعية المواطِنة، لتجميع مختلف نضالاتِ المجتمع في إطارٍ ديموقراطي وتقدمي.
ويتخذ الحزبُ هذه المواقف اقتناعاً راسخاً منه أنَّ التنمية لا تستقيمُ إلا بتوطيد البناء الديموقراطي والمؤسساتي.
لكن، للأسف، لا حياةَ للحكومة التي نُـــنادي، حيثُ أسهمت هذه الأخيرةُ في تردِّي مكانة وصورةِ الأحزاب السياسية، وتجرأت على المساس بمبدأ استقلالية الصحافة، ولم تُحَـــرِّكْ ساكناً أمام حالات الاعتداء على حرية التعبير، على الرغم من الاختلالات التي قد تشوب ممارسة هذه الحرية أحياناً. كما انحسرَ النقاشُ العموميُّ في عهد هذه الحكومة كما لم يسبق أن حَــــدَثَ من قبْل.
وعموماً، فإن الأبعاد الديموقراطية والحقوقية غائبة عن أجندة هذه الحكومة، اللَّهمَّ تلك الاستثناءات التي تؤكد القاعدة، كما هو الحال بالنسبة لقرار تصويتِ بلادنا إيجاباً على القرار الأممي بالإيقاف العالمي لتنفيذ عقوب الإعلام، والذي أَشَـــــدْنَــا به في حينه.
وفي الواقع، فإن تجاهُل الحكومة، التي تدعي أنها سياسية، للبُعد الديموقراطي، يعني أنها غيرُ معنية لا ببلورة الدستور، ولا بقضايا الحريات والمساواة، ولا بالنهوض باللامركزية والارتقاء بأدوار الجماعات الترابية والمنتخبين، ولا بمصالحة الشباب مع الشأن العام، ولا بمعالجة أعطاب الفضاء السياسي، ولا بمعالجة التراجع والركود في الفضاء السياسي والحقوقي، ولا باستعادة ثقة الناس في الحقل المؤسساتي والحزبي، بدليل نسب المشاركة الكارثية وغير المسبوقة، بل والمخيفة، في مختلف الانتخابات الجزئية الأخيرة، والتي تراوحت في غالب الحالات بين 6% و10%.
كما يعني ذلك أن الحكومة غيرُ مكترثة بفقدان ثقة الشباب في بلادهم، بدليل ما جرى في أحداث الفنيدق من محاولةٍ للهجرة الجماعية والعلنية، بما يسائلنا جميعاً كمؤسساتٍ ووسائطَ مجتمعية، وبما يُسائل في العمق سياساتنا العمومية، ومدى ارتباط الأجيال الصاعدة بالوطن وبمشروعه المجتمعي.
الرفيقات والرفاق؛
قبل قليل، تناول هذا التقرير الفساد الاقتصادي. ونعتقد أنَّ هناك علاقةً جدلية بينه وبين الفساد السياسي، الواحدُ منهما يُغذي الآخر ويتغذى منه.
فكما أكدت على ذلك الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، فإن التراجع العام في مختلف مؤشرات النزاهة يؤكد الترابطاتِ الموضوعية بين منظومة الحريات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبين تنامي الفساد، الأمر الذي يؤثر حتماً على مبدأ تكافؤ الفرص وعلى المساواة في الولوج إلى وسائل الإنتاج، ويؤدي إلى حصر تراكم الدخل وفرص خلق الثروات على فئة قليلة من المجتمع، ويساهم في توسيع دائرة اقتصاد الريع وتناسل مظاهر الاقتصاد الخفي.
وأمام هذا الوضع الخطير، الذي يهدد بالفراغ في تأطير المجتمع، نسجل ما يُشبه ارتياحَ الحكومة إزاء إغراق المؤسسات المنتخبة بالفاسدين والمفسدين، وكثيرٌ منهم مُتابَعُ على خلفية قضايا جنائية شخصية أو مرتبطة بتدبير الشأن العمومي.
كما أن الفضاءَ السياسي والانتخابي ينحو إلى أن يصير خاضعاً أكثر فأكثر لسلطة المال ولهواجس المصالح الذاتية، وإلى أن يبتعد أكثر فأكثر عن المصلحة العامة وعن التنافس بين البرامج والأفكار.
إن هذه المظاهر وغيرها هي التي تؤدي إلى العزوف عن المشاركة السياسية، الفعلية والمباشِرة للشباب، وإلى نُفور الطاقات المجتمعية النزيهة من الممارسات السائدة في الحقل الانتخابي.
وهذا ما يَصبُّ تماماً في مصلحة المفسدين الذين يَسْعَوْنَ، بكل ما أوتُوا من قوة، إلى جعل المؤسسات المنتخبة فارغةً من المحتوى، وفاقِدةً لأيِّ قدرة على المراقبة الحقيقية أو على إنتاج القواعد المعيارية النزيهة أو على إرساء الممارسات الفضلى في الفضاء العمومي.
هكذا يخلو الجَّوُّ للمفسدين، لكي يمارسوا فسادهم الاقتصادي والمالي كما يحلو لهم، ثم يُنفقوا بعضاً من غنائمهم الفاسدة على شراء الذمم في الانتخابات، بهدف إبقاءِ السيطرة على المؤسسات المنتخبة، وهكذا دواليْك. ليظل الخاسر الأكبرُ هو الوطن والمواطِن، هو المسار التنموي، هو المسار الديموقراطي، وهو البناء المؤسساتي الذي بناهُ المغربُ والمغاربة عبر عقودٍ من التضحيات.
لذلك، لا خيار أمامنا سوى الاستمرار في النضال، وفي جعلِ محاربة الفساد أولويةً قصوى، وفي النداء إلى المشاركة العارمة للنزهاء، والطاقات والمثقفين والشباب والنساء، في المعارك السياسية والانتخابية.
تأسيساً على ما سبق، وكما ورد ذلك في مضامين وخلاصات الجامعة السنوية الناجحة التي نظَّمها حزبُنا مؤخراً حول موضوع “السياسة أولاً.. لإنجاح المشروع الديموقراطي التنموي”، فإننا أمام أزمة السياسة التي تعيشُ محنة ومأزقاً حقيقييْن، من مظاهره الانفصالُ ما بين المؤسسات وما بين المجتمع. ونحن أمام مخاطر تحوُّل المؤسسات المنتخبة إلى مجرد واجهةٍ لتأثيث المشهد الديموقراطي.
وإذا كان من الضروري الإقرارُ بالمسؤوليات المتفاوتة، بما فيها مسؤولية جزءٍ من الفاعلين السياسيين الذين فرَّطَوا في المبادرة الذاتية وفي استقلالية القرار، فإنه يتعين، اليوم، بناءً على ذلك، تجاوُزُ المعيقات التي تواجِهُ استنهاضَ هِــــمَــمِ القوى الديموقراطية والتقدمية، لتجميع قواها وتوحيد عملها.
ولذلك نجدد نداءنا إلى كل القوى والفعاليات الوطنية الديموقراطية والتقدمية، لأجل بدء صفحةٍ جديدة في النضال المشترك وتجسيد البديل القادر على مواجهة مختلف التحديات.
فالمخاطر المحدقة بمسيرتنا الديمقراطية من قِبل فِـــئةٍ تَستعمل كل الوسائل الفاسدة للهيمنة الكاملة على مختلف فضاءات الفِعل العمومي، السياسية والاقتصادية والإعلامية وغيرها، اعتمادًا على ثرواتها المكدَّسَة من عائدات اقتصاد الريع، هي مخاطر جدية تتطلب رَجَّةً مجتمعية ورَدَّ فعلٍ قويٍّ من طرف جميع قوى المجتمع الرافضة لهذا التوجه النكوصي.
لذلك يتوجه حزبُنا إلى جميع القوى الحية الغيورة على مكتسباتِ الشعب المغربي، التي حققها بفضل النضالات والتضحيات، لكي تنخرط وتُسْهِمَ في انبثاقِ حركةٍ اجتماعية مواطِنَة، بغايةِ التصدي لأي تراجعات، وفرضِ البديل الديمقراطي التقدمي.
في هذا السياق، فإنَّ بلادَنا في أمَسِّ الحاجة، اليوم، إلى إجراءِ وقفة تقييمية للمسار الديموقراطي، يمكن أن تتخذ شكلَ حوارٍ وطني يكون من أهدافه توفير الشروط الكفيلة بحماية وتحصين البناء الديموقراطي، باعتباره بناءً شاملاً يتضمن الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإيكولوجية.
كما نجدد نداءنا إلى الحكومة من أجل فتحِ النقاش العمومي والمؤسساتي حول ظروف الانتخابات المقبلة، إذ ينبغي إصلاحُ وتخليق الفضاء الحزبي والسياسي والانتخابي والمؤسساتي، منذ الآن ومن المنبع، بما يضمن الثقة في الأحزاب، ويضمن تأثيرها الاجتماعي والسياسي، ويَحمي الانتخابات من الممارسات الفاسدة.
هذا هو ما سنعمل إليه، إلى جانب كل الغيورين على حاضر ومستقبل الوطن. ونحن على يقينٍ أنَّ هذه الأهداف النبيلة ستتحقق، بفضل العمل والنضال، حتى نقطع الطريق أمام أولئك الذين يُراهنون على أن تمرَّ انتخابات 2026 بالطريقة المخجلة نفسها التي مرت بها انتخابات سنة 2021.

6.11/ تنظيم كأس العالم فرصة لتوطيد المسار التنموي والديموقراطي

الرفيقات والرفاق؛
طبعاً، ونحن ننتقد العمل الحكومي، بهذه الحدة التنبيهية التي لا نلجأ إليها تَعَسُّفًا، بل تفرضها علينا الأوضاع، فإنه يجبُ ألاَّ يَغيبَ عن ذهننا أننا حزبٌ موجودٌ بالأساس ليفتح آفاقَ وأبوابَ الأمل أمام شعبنا، فالمناضل بطبعه متفائل ومن مناهج عمله الارتكازُ على المكتسبات.
وها هي تَـــــلُـــــوحُ أمامَ بلادِنا فرصة تنظيم كأس العالم لكرة القدم في 2030، أي بعد خمس سنوات فقط.
يتعين، إذن، أن يكون هذا الحدثُ، حيث سنكون تحت مجهر العالم، فرصةً للاعتزاز بالمنجز في البنيات التحتية والانتصارات الرياضية، لكن يجب أن يَكون أيضاً مناسبةً لإعطاء صورةٍ حقيقية عن مغربٍ قوي اقتصاديًّا، وعادِل اجتماعيًّا، ومتميِّز سياحيًّا وحضاريًّا وثقافيًّا، ومُجَــدِّد بيئيا، ومتقدم ديموقراطيا وعلى مستوى ممارسة الحريات وحقوق الإنسان.
لذلك، يستلزم الأمرُ أن يَشمَلَ المجهودُ التنموي كافةَ المجالات الترابية ببلادنا، بما فيها المناطق النائية ذات الخصاص التنموي، جنباً إلى جنبٍ مع المدن والجهات التي ستحتضن هذه المنافسة الرياضية العالمية.
كما يقتضي الأمرُ تمتين قدراتنا الإنتاجية لخلق فرص الشغل؛ وتأهيل الانسان المغربي، والعناية بكرامته ووُلُوجِهِ العادل إلى خدمات اجتماعية جيدة.
فلنُشَمِّر على سواعدنا، ولنستنهض الهمم، لنكون في موعد هذه الرهانات الكبرى. فالمغرب والمغاربة أهلٌ للتحدي … وقادرون عليه.

7/ تقوية الأداء الحزبي هدف لمخطط عمل برسم سنة 2025

الرفيقات والرفاق؛
لا ريْبَ في أنكم تلاحظون كيف أنَّ حزبَنا له حضورٌ سياسيٌّ قوي، بالمواقف والمبادرات، رغم الظروف السياسية العامة غير الملائمة.
وعليه، فإنَّ إحدى أهم مهام المرحلة، التي سنعرضُ عليكُم بصددها مخططًا للعمل برسم سنة 2025، هي الحفاظُ على هذا الحضور السياسي وتعزيزه، لا سيما من خلال مواصلة إنتاج المواقف المشرِّفة، والاستمرار في تطوير الاقتراحات والبدائل.
بالموازاة مع ذلك، ولأننا لسنا ناديًّا للتفكير، بل أداةً مجتمعيةً للتغيير، فإنه من الحيوي الارتقاءُ بأساليبنا التواصلية الحديثة، حتى يصل صوتُ حزبنا إلى الجماهير، لتوسيع دائرة التأثير في مجتمعنا.
أيضاً، لا بد من تعميق انصهار فروعنا ومنظماتنا وقطاعاتنا مع قضايا المواطنات والمواطنين، وحمل آلامهم وآمالهم، والترافع والدفاع عنها بكل الوسائل النضالية الممكنة.
لذلك، ينبغي علينا أن نُطَوِّرَ تنظيمات حزبنا، وأن نكيِّفَ بمرونةٍ بنياتِ الاستقبال مع الواقع والخصوصيات كيفما كان نوعها، في اتجاه مزيدٍ من العمل والتجديد والفعالية والمردودية، وفق منهجية الأهداف والتقييم، مع الحرص الدائم على الانفتاح على طاقاتِ مجتمعنا التي لها رغبةٌ في الالتحاق بصفوف الحزب، وهي موجودة وكثيرة؛ وربط كل ذلك بالتكوين.
ولأننا بدأنا العد العكسي لانتخابات 2026، وبالنظر إلى الأهمية البالغة لواجهات النضال المؤسساتي، ولأن حزبَنا يستحق مكانةً انتخابية توازي حضورَهُ ووزنَهُ السياسي القوي؛ فإنه من اللازم الشروع، منذ الآن، في جعل التحضير للانتخابات المقبلة بُعداً محوريا في كافة أعمالنا وأنشطتنا ومبادراتنا.
فلنكن في مستوى هذا الحزبِ الوطني الديموقراطي التقدمي، الذي يمتد تاريخه الكفاحيُّ المشرق إلى 81 سنة، بالعمل، ثم العمل، ثم العمل.
وقبل الختام، أعرض عليكم، الآن، مشروع مخطط عمل الحزب برسم سنة 2025، قصد المناقشة والإغناء والمصادقة.

Top