أبطال ومعارك

لقد أيد الله عز وجل دينه بنوعية خاصة من الرجال، اصطفاهم المَوْلى جلّ وعلا واختارهم من بين حفنة من خلقه لنيل شرف المُهمة الجليلة، رجال تغلّغل الإيمان في قلوبهم، وارتقت نفوسهم إلى أعلى عليّين من أجل إحقاق الحق ونصرة الدين، أبطال لم يبق لهم همّة ولا هدف ولا غاية في الحياة إلا خدمة الإسلام ونشره بين الناس وإغاثة المُسلمين المُضطهدين، إنهم رجال آثروا مرضات الله عزّ وجل بدعوة الناس للإسلام على متاع الحياة الدنيا، ودّعوا الراحة والدّعة والسكون، هجروا الفراش والسلامة، تركوا الديار والأهل والأحباب، فصارت ظهور الخيل مساكنهم، وآلات الجهاد عيالهم، وإخوان الجهاد رفاقهم، فلا عجب إذا انتهت حياتهم في آخر بقاع الدنيا، فهذا يموت في بلاد الصين، وهذا في أدغال إفريقيا وفي أحراش الهند وساحات الأقصى وفلسطين، رضوا بهذه الحياة وتوسلوا إلى هذه النهاية التي طالما توّجت حياتهم بأسمى ما يريدون وهي الشهادة في سبيل الله، ليصدق فيهم قول المولى عز وجل : “من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه…. فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ….”

سلسلة من إعداد: معادي أسعد صوالحة*

معركة جليقية.. المنصور الذي أهمله التاريخ

الحلقة 20

يروي لنا الكاتب محمود شاكر في كتابه (موسوعة الفتوحات الإسلامية) في وصفه للمنصور بن عامر فيقول: “… سيظل تاريخ الأندلس مَعيناً لا ينضب، ووادياً لا يَجدب لكثرة ما فيه من الدروس والعبر لدولة الإسلام في الأندلس (اعتبرت أطول دول الإسلام عمراً بعد أن استمرت ثمانية قرون) التي برز من خلالها العديد من الرجال والأبطال فكانوا مليئي البصر والسمع، وبقيت أخبارهم تتردّد في جنبات الأندلس لعصور مُتعاقبة كالقائد الفذ المنصور بن عامر المعافري المنحدر من قبلية عامر التي نزلت الجزيرة الخضراء(حصن الطرش) وقاد العديد من الفتوحات في بلاد الأندلس دون أن يهزمه أحد…”.

حاجب الخلافة الأموية

هو أبو عامر محمد بن عبد الله بن عامر بن أبي عامر بن الوليد بن يزيد بن عبد الملك المعافري حاجب الخلافة الإسلامية والحاكم الفعلي للخلافة الأموية في بلاد الأندلس في عهد الخليفة هشام المؤيد بالله (ولد سنة 327 هجرية/983 ميلادية، وتوفي سنة 392 هجرية/1002 ميلادية) فنشأ في بيت علم ودين في كنف والده العالم عبد الله بن محمد المعافري عالم الحديث والعلوم الشرعية الأخرى، الذي تأثر به محمد منذ الصغر وطلب علمه قبل أن ينتقل إلى قرطبة لدراسة الأدب والشريعة والتتلّمذ على يد علمائها الكبار أمثال أبو علي القالي وابن القوطية وأبو بكر بن معاوية القريشي، وبدأ المنصور بن عامر حياته في سلك القيادة والمناصب وهو شاب صغير حينما افتتح مكتبا بجوار قصر الخلافة الأموية لكتابة الشكاوي المرفوعة للخليفة الأموي، وذلك لتسديد مصاريف الإنفاق على تعليمه بقرطبة، فكان من جراء ذلك أن لفت إليه أنظار القصر خاصة السيدة (صبح) أم ولي العهد هشام المؤيد التي عهدت إليه بعدة وظائف كتابية، كان من أهمها الإشراف على أملاك ولي العهد هشام ثم إدارة الخزانة العامة ودار المواريث لما رأت من عزمه وطموحه وتفانيه في العمل وهو لم يتجاوز بعد السابعة والعشرين من عمره، وفي هذا يروي لنا راغب السرجاني (الأندلس من الفتح إلى السقوط) بالقول: “…بعد أن فتح القائدان الإسلاميان طارق بن زياد وموسى بن نصير دولة الأندلس وقضيا على حكم القوط في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك، قام هذا الأخير بتعيين العديد من الولاة الذين تولوا أمور تسيير الإمارات الإسلامية التابعة للأمويين كهشام بن عبد الرحمن الداخل، وولده الحكم، وعبد الرحمن الأوسط، وعبد الرحمن الناصر وابنه الحكم المستنصر، حتى ظهر منصور بن أبي عامر مؤسس الدولة العامرية الذي حكم لمدة 50 عامًا، ولم يٌهزم في أي معركة ضد الفرنجة والصليبيين أبدا، وحكم بالتالي (كما تفيد الروايات) ما بين السنوات (976/1002 للميلاد) التي قضاها في جهاد دائم لا ينقطع مع ممالك النصارى في الشمال، محافظاً بذلك على حسن إدارة وسياسة وتدبير الدولة على المستويين الداخلي والخارجي حتى أصبحت الأندلس في عهده في ذروة مَجدها..”.

تفويض من الخليفة الأموي

“…ظلّ المنصور مُضطلعاً بالمناصب الهامة والأعمال الجسيمة في الدولة وهو محط أنظار الجميع لجميل صفاته وطيب أخلاقه (يضيف الكاتب)، فتآلفت القلوب من حوله بعد أن استطاع بقوة عزمه وسرعة تصرفه أن يقضي على مؤامرة دبّرت من جانب بعض الصعالقة بالتعاون مع بعض الأمويين الذين هدفوا إلى قتل الخليفة الجديد هشام المؤيد وتعيين ابن عمه المُغيرة (سنة 366هجرية)، فحفظ بذلك دولة الخلافة من السقوط في دائرة الصراعات الداخلية (التي عادة ما تعصف بأساس أي ملك ثابت مهما كانت قوته وثباته)، فقام الخليفة المؤيد بتعيينه وزيرا للدولة الأندلسية وأضحت مسؤولياته أعظم مما سبق بكثير، وهذا ما جعله يفكر كثيرا في وضع الأندلس واتخاذ خطوات جديرة لخدمة دولة الإسلام بعد أن اتضح له ضعف شخصية الخليفة الجديد هشام المؤيد وزيارة الأخطار المُحدقة بالمُسلمين والآتية من ناحية الشمال (حيث إسبانيا النصرانية) وظهور بوادر الانقسامات داخل حظيرة دولة الإسلام بالأندلس (نظرا للأقاليم المترامية هنا وهناك التي أضحت تطالب بالاستقلال عن جسد الدولة الأم)، بالإضافة إلى فساد رجالات الحكم والوزارة وزيادة نفوذ الصقالبة الذين يريدون الانقلاب على الخليفة المؤيد..”.

المُنتصر دائما

أمام هذه التحدُّيات حاول المنصور بن عامر إيجاد طريقة حتمية لمواجهة تلك الأخطار المحدقة، فاهتدى إلى التحرّك وبسرعة لحجز الخليفة الصوري الصبي الصغير هشام المؤيد (لتدبير أمور الدولة بنفسه) وعزل الوزير (جعفر المصحفي) وولده محمد وحاسبهما على أموالهما الطائلة من أين جاءت وكيف تضخمت، وسارع بالقبض على قيادات الصقالبة الأشداء وفرّق شملهم ووزعهم على الأقاليم حتى لا يعودوا للتجمع والتذمر، مُطلقا بذلك شرارة الحملات الجهادية ضد إسبانيا النصرانية التي أسرت أرواح جديدة في قلوب المُسلمين وأشعلت الحمّية في قلوبهم، فتقاطر المُجاهدون المُتطوعون على الأندلس من كل حدْب وصوْب وخاض المنصور أكثر من خمسين مَعركة ضد الصليبيين مُعتمدا على أسلوب الغزوات المُستمرة المُتعاقبة التي رمى من خلالها إلى غاية بعيدة المدى وهي سحق المّمالك الاسبانية الصليبية سحقا تاما، مُفكّكاً عراها التي بدأت بالالتحام والترابط ليجعل منها أرضا إسلامية، ليتم وصفه بالمنتصر دائما بعد دحر الصليبيين في معركة (شنت منكس) في السنة 371 هجرية، التي واجه فيها تحالفاً صليبياً مُكوناً من أقوى أمراء الأسبان، ومعركة برشلونة (أعظم ثغور إسبانيا 375 هجرية) ومعركة جليقية التي حملت ذكراه وخلدّت اسمه واعتبرت من أعظم المعارك على الإطلاق نظرا لكونها واقعة بمدينة “شانت ياقب” التي اعتبرت كعبة إسبانيا النصرانية ومزارها المُقدس، نظرا لتواجد قبر القديس يعقوب الذي يحجه الآلاف من المسيحيين سنوياً، ثم معركة (صخرة جربيرة) سنة 390 هجرية، ليستمر في فتوحاته حتى وصل إلى مدينة برغش عاصمة قشتاله حتى وفاته دون أن يهزم ولو لمرة واحدة، وفي هذا يستطرد راغب السرجاني ومن خلال ما أورده المؤرخ الأندلسي ابن عذاري في كتابه (البيان في أخبار الأندلس والمغرب) “…غزا محمد بن ابن عامر في حياته أربعا وخمسين غزوة لم يهزم أبدا في واحدة منها، بل كان الأغرب من ذلك هو أن يصل في فتوحاته إلى أماكن في مملكة ليون وفي بلاد النصارى لم يصل إليها أحدٌ من قبل كمنطقة الصخرة وغزوة شانت ياقب التي تعتبر من أعظم غزواته على الإطلاق، وتعني سانت يعقوب أي القديس يعقوب، وكانت آخر معاقل النصارى في الشمال الغربي من الأندلس، تمتلك المرتبة الثالثة من المدن المقدسة عند النصارى، فتسبقها القدس وروما، وهم يظنون أن بها قبر مبشر بالدين المسيحي واسمه (يعقوب الحواري)، وضع المنصور خطة برية بحرية، بدأها من مدينة سالم، وقاد جيشه وصولا لنهر دويره الذي أعد به سفن بها موارد، ليمر الجند من خلالها ويأخذوا من مؤوناتها، حتى وصل بفتوحاته تلك إلى فتح المغرب الأقصى عام 375هـ، وانتزاعها من بين أيدي الفاطميين، فكانت الدولة الأموية بالأندلس بزمن الحاجب المنصور في أكبر توسع شهدته طوال زمن بقائها إلى وفاته سنة 392 للهجرة/1002 للميلاد…”.

وفاة ووصيّة ونقش تاريخي

ويستطرد راغب السرجاني في نهاية حديثه عن القائد الإسلامي المنصور بن عامر بالقول: “… لقد شكل لنا هذا القائد المثال الرائد في الاقتداء بسنة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، فبقي مهتديا ومقتديا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول: “وَلاَ يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِى سَبِيلِ اللهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ”، فكان من عادة الحاجب المنصور في جهاده وبعد كل معركة أن ينفض ثوبه، ويأخذ ما يخرج منه من غبار ويضعه في قارورة، ثم أمر في نهاية حياته أن تُدفن معه هذه القارورة؛ وذلك حتى تشهد له يوم القيامة بجهاده ضد النصارى…، ويقول ابن الأثير واصفا لنا المنصور: كان كان المنصور بن أبي عامر عالماً، مُحباً للعلماء، يُكثر مُجالستهم ويناظرهم، وأكثر العلماء ذكر مناقبه، وصنفوا لها تصانيف كثيرة، وكان حسن الاعتقاد والسيرة، عادلاً، حتى باتت أيامه أعياداً لنضارتها وأمنها، وبقي لنا في هذه الصورة الجميلة حتى وفاته في السابع والشعرين من رمضان سنة 392 للهجرة/ الثامن من غشت 1002 للميلاد) ليدفن في مدينة سالم الجزائرية تنفيذا لوصيته التي تقول “دفني في مكان موتي” ويزين قبره بأبيات تعكس صورته وترسم معالم شخصيته تقول:
آثـاره تنبيك عــن أخبـاره حتى كأنك بالعيان تراه
تالله لا يأتي الزمان بمثله أبداً ولا يحمي الثغور سواه

الوسوم ,

Related posts

Top