“إكيدار الأطلس الصغير”.. من أعراف مقدسة إلى تراث مهدور

تعتبر إكيدار جمع كلمة أكادير، وهي التسمية الصحيحة لغويا، فعندما تتغير الأسماء تتغير الهوية والمعاني، وهي كلمة أمازيغية تعني الحصن أو المخزن الجماعي، وتنتشر إكيدار في الأطلس الكبير الغربي وسهل سوس والأطلس الصغير، فأكادير له ارتباط هوياتي بالجبل كون الثقافة الأمازيغية تعطي للجبل دلالات واسعة، كونه يشبه جسد الإنسان أسوة بأكادير الذي يبنى في الجبال، فالطوبونومية الأمازيغية تمتح دائما معانيها من الجبل، وله ارتباط وثيق بالطبيعة والمجال والشمس، فبناء أكادير تتحكم فيه طبونومية المكان، فلابد أن يتعرض للشمس كي لا تتعفن الحبوب، وترتبط وظائف إكيدار عادة بوظيفة التخزين والادخار، كما يطلق عليه كذلك إسم “إغرم” في الأطلس الكبير الأوسط والشرقي والأطلس المتوسط والجنوب الشرقي من تازناخت إلى تافيلالت.
ويمكن أن نعطي تعريفا اجتماعيا لأكادير كونه بناية امتزج فيها التاريخ بالأعراف، والثقافة بالدين، والطقوس بالعادات، هي ذاكرة حاضنة لتاريخ سوس المنسي، إكيدار أيضا ترسيخ لثقافة التضامن الاجتماعي العضوي والعيش المشترك، فعملية تجنيد رجالات القبيلة في عملية تجميع المحاصيل الزراعية (تيويزي) لدليل شاف لانتصار فكرة التضامن، هي بعد ذلك خزان للثروات من حبوب وزيوت وحلي ومجوهرات، ويتم اللجوء إليه في حالة الهجمات الحربية والأزمات الاجتماعية، كما توظف إكيدار منزلا للضيوف أو المهاجرين بمن فيهم اليهود، وعلى العموم فإكيدار مكان آمن وأمين يحفظ فيه كذلك كل ما غلا ثمنه بعيدا عن السرقة والضياع، كما أنه من الأماكن التاريخية المهمة والمشهورة لحفظ الودائع في ربوع سوس بالخصوص، قس على ذلك الدور الدفاعي لهذه البنايات المصممة اعتبارا لوظائفها.
ويتم تسيير مؤسسة أكادير انطلاقا من قوانين عرفية تضعها القبيلة وهذا القانون يسمى “أزرف” ويعني القانون العرفي الأمازيغي، وقد سجلت الأبحاث التاريخية، أن النص الأصلي للأعراف وجد مكتوبا في لوح خشبي بأكادير أوجاريف ويعود تاريخه إلى سنة 1492، ومعظم التفريعات العرفية انطلقت من هذا اللوح الأصلي، وهي ألواح تتضمن 160 إلى 200 بند، وكانت تكتب في البداية على ألواح خشبية، ثم أصبحت تكتب على الكتب بخط مغربي أصيل باستعمال السمخ أو الزعفران الأحمر، ويكتبه الفقيه بحضرة العلماء بلغة أمازيغية عادة أو عربية، وهذه الأعراف مقدسة من طرف أفراد القبيلة لأنها متفق عليها من طرف الجميع عن طريق التفاوض المشترك، وكانت هذه الأعراف لكون سوس دائما بعيدة عن العاصمة، بمعنى أن السلطة بهذه المناطق غير حاضرة بقوة، فغياب هذه المؤسسات بمناطق سوس كان سببا مباشرا لقيام هذه المؤسسات العرفية التي يسيرها إنفلاس عن طريق نظام الأعراف، وهذا لا يعني أنها تعيش علاقة قطيعة مع السلطة المركزية. وتجدر الإشارة أن نظام الأعراف هو قوانين وضوابط تتضمن إجراءات تتعلق بالعقوبات التي يعاقب بها كل من صدرت منه مخالفة تمس بشرف الإنسان أو بدنه أو ماله أو تمس الأمن الداخلي أو الخارجي للقبيلة، وقد بين أزرف كل مظاهر الجريمة مع بيان جزائها في جميع تطوراتها، والأهم في هذه الأعراف أن الأفراد لا يتم سجنهم، بل فقط يتم تغريمهم أو نفيهم، ويبقى المنفي يحمل اسم “أمزواك” أينما حل وارتحل، لذلك نجد الناس في مجتمعات إكيدار يتحاشون السرقة، خوفا على سمعتهم، وليس من حق عائلته الدفاع عنه. ولم يرتبط اسم أمزواك بالجاني فقط بل تنتقل الصفة إلى أبنائه، ومن بين هذه الأعراف كذلك حقوق الطفل، ويتبين ذلك من خلال مخطوط عثر عليه في أكادير إنومار يحمل بندا خاصا بحقوق الطفل، يقول، “ولا شيء على الصبيان، إذا سرقوا ما فيه فائدة كثمرة أو ثمرتين أو ما شابه ذلك”، بمعنى أن الطفل، طفل القرية وليس طفل الأسرة، والمسؤول، عن تربيته هو القبيلة، وفي المجتمعات الإفريقية قديما يقال لتنشئة طفل نحتاج إلى قبيلة، بمعنى أن القبيلة تسهر على تربية أطفالها، وعليه، فإن سلطة الأعراف شاملة ومانعة وساهرة على كل مناحي حياة الأفراد من الاجتماعي إلى الاقتصادي إلى التربوي..، ولكون الصيغة النهائية لهذه الأعراف، يسهر الفقهاء على إخراجها إلى حيز الوجود، فقد حسم علماء وفقهاء سوس في مسألة أن الأعراف لا تتعارض مع الفلسفة الدينية، فرغم أن أكادير تقوم عليه الحراسة المشددة، إلا أن الحراس لا يصطحبون معهم الكلاب في الحراسة، فالكلب لا مكان له داخل مؤسسة أكادير، ولذلك تم اعتبار كل أرضية أكادير صالحة للصلاة بغض النظر عن المسجد المتواجد في مدخل أكادير، وفي مقابل ذلك نجد القط، فلهذا الأخير مكانة جوهرية داخل هذه المؤسسة التنظيمية، وتكمن وظيفته في مطاردة الفئران، التي يمكن بغياب القط أن تهلك الزرع، وكل الغرف داخل أكادير نجد فيها فتحات صغيرة لدخول وخروج القط، ولهذا القط أيضا حقوق، وهي عبارة عن قدر من الشعير تمنحه كل أسرة كتعويض وجزاء للقط على خدماته.
وتجدر الإشارة إلى أن الضابط الفرنسي روبير مونطاني، بدأت مسيرته العلمية مع إكيدار رفقة مرافق جزائري، إبان فترة الاستعمار، فهو أول من كتب عن إكيدار بعد احتكاكه بها، ثم الباحثة جاك مونيي وتحت إشراف روبير مونطاني أيضا، حول المخازن الجماعية بالجنوب، ثم المؤرخ المغربي المعروف، علي صدقي أزايكو، الذي كتب بما تحمل الكلمة من معنى عن مؤسسة أكادير، وأوفاها حقها، وبعده جاءت الدراسات حول إكيدار تباعا.
ونشير بأسف شديد أن هذا التراث المادي الكبير لم يصنف بعد كتراث عالمي، وهذا يعزى إلى غياب الترافع عن هذا الملف الاجتماعي الكبير، رغم ما تملك إكيدار من مقومات معمارية، هندسية، اجتماعية، اقتصادية وانثروبولوجية… تجعل منها تراثا عالميا بسهولة. ويزيد أسفنا هذه الأيام كون أحد الأصدقاء الدائمين لإكيدار يشهد خلال هذه الفترة موتا سريريا، ويتعلق الأمر بنبتة الصبار بفعل الحشرة القرمزية الجاثمة على هذا التراث الطبيعي الذي قاوم لوحده صعوبة المناخ وتغيراته لآلاف السنين.
أود الحديث في سبيل الختم، عن التقصير الكبير الذي لحق هذا التراث الثقافي الاجتماعي المادي العالمي، من خلال عدم توثيق تلك الخبرة الهندسية النادرة، ثم تثمين القيمة المحلية الثقافية لهذه المؤسسات التي أبدعها الإنسان الأمازيغي، كمؤسسات تمتاز ببنيات تنظيمية ظاهرة من حيث الوظائف والأدوار، فإننا ندعو بشدة القائمين على القطاع، بما أن الأطلس الصغير يفتقد لروافد التنمية، فلم لا تكون إكيدرا روافع لهذه التنمية، يتم من خلالها إعادة الاعتبار لها وتكييفها مع التغيرات الحداثية.
إنني لا أدعو إلى العودة إلى الوراء أو إلى تمجيد الماضي، أو النظر في إكيدار بشكل ماضوي متحجر وبعين مشفقة، ولكن لأخذ العبر والاستفادة وإحياء روح تراثنا الغني، وكيف نستطيع أن نمتح منها أشياء قد تكون مفيدة لنا، في ظل الصراع المشهود الآن، والنزاعات التي طبعت كل مناحي الحياة، بالرغم من كل هذا الزخم المؤسساتي والقوانين الوضعية، التي عقدت حياة الإنسان، وأخرجته من هويته الهادئة، فإكيدار ليست فقط جدرانا نقشت من الحجر، بل هي حضارة وثقافة مفتوحة ككتاب تحت الشمس للقراءة والعيش وتدبير العيش المشترك وقيم التسامح وجعل الإنسان في محور الاهتمامات.

< بقلم: إبراهيم أهريش

Related posts

Top