الأوبئة والتاريخ، القوة والامبريالية -الحلقة 6-

يفتح هذا الكتاب القيم عين القارئ على بعض من تاريخ الطب وعلم الأوبئة، وعلاقة الانتشار الوبائي بجشع الإمبريالية والحركة الاستعمارية. ويبين شلدون واتس مؤلف الكتاب، كيف استخدمت قوى الاستعمار مفهوم “مقاومة الأمراض الوبائية” ليسهل أمامها اختراق دول أفريقيا وآسيا والأميركيتين. ولم تكن نشأة المؤسسات الطبية الغربية خارجة عن هذا السياق العام الذي يحكمه منطق القوة وسيطرة القوى الاستعمارية على شعوب العالم. يجد قارئ بيان اليوم في هذا الكتاب تفاصيل مذهلة تؤكد في مجملها ارتباط مفهوم “مقاومة الأوبئة” بغايات استعمارية.

  • انتقال البشر القهري والقسري.. وسيلة أخرى في انتشار الأمراض الوبائية

وكانت الوسيلة الأخرى في انتشار الأمراض الوبائية هي انتقال البشر القهري والقسري، الذي يرتبط بالظاهرة اللاإنسانية وهي تجارة العبيد التي بدأت عام 1930 م. فقد احتاج الإسبان الذين احتلوا الأمريكتين إلى قوى عاملة الزراعة قصب السكر خاصة في أمريكا الوسطى والجنوبية، وهو ما أدى إلى انتقال الحمى الصفراء والملاريا إلى شعوب تلك المناطق، التي لم تكن تعرفها من قبل، وقد شكل هذا وسيلة مناسبة لانتقال مسببات هذه الأمراض إلى مناطق جديدة، فلم يكن البشر هم الذين انتقلوا فقط، بل العوامل المسببة للأمراض قد انتقلت معهم أيضا إلى فضاء جديد. ومنذ سبعينيات القرن السابع عشر حتى نهاية القرن التاسع عشر تم نقل 20 مليونا من شعوب غرب إفريقيا إلى الأمريكتين، ونتيجة لهذا ظهر وباء الحمى الصفراء والملاريا في بربادوس عام 1947، وفي هایتی عام 1990، وفي كوبا عام 1791، وفي البرازيل عام 1800، وفي إقليم لويزيانا الشاسع في شمال أمريكا عام 1804. وقد ظهر وباء الحمى الصفراء في مناطق شاسعة في مدن الجنوب الكبرى في أمريكا الشمالية مثل نيو أوليانز وممفيس وشارلستون منذ عام 1800، فقد ظهر الوباء عدة مرات في أعوام 1878، 1879،1897، وفي أثناء الحرب الأهلية الأمريكية ( 1891 – 1890) مات 307 ألف جندي فيدرالی (جنوبی) بالرصاص أو المرض نتيجة للحمى الصفراء

وقد شكل النشاط الاقتصادي للإمبريالية ومؤسساتها الاقتصادية العملاقة فرصة سانحة لانتشار مسببات الأمراض، وخلق بيئة وبائية ملائمة لها وذلك تحت شعار ” تنمية المجتمعات التي استعمرتها، فعن طريق الشركات العملاقة في غرب إفريقيا تمت إزالة الغابات من أجل إنشاء مساحات واسعة لمحاصيل جديدة مثل القطن وزيت النخيل والفول السوداني.

وقد مولت هذا النشاط الشركات الكبرى، الذراع الاقتصادية للإمبريالية، وهو ما أدى إلى تخريب التربة الزراعية لهذه المناطق. فتربة غرب إفريقيا تختلف عن تربة وادي النيل أو تربة أرض الرافدين. فبدلا من تكونها من طبقة عميقة من التربة السطحية، فقد كانت تتكون من غطاء رقيق من الطبقة العضوية المتحللة فوق طبقة من الصخر الأحمر المسامی وفي المناطق التي أزيلت منها الغابات الكبيرة لزراعة الفول السوداني أو القطن، انكشفت هذه الطبقة الرقيقة من التربة، وأصبحت معرضة للتآكل والتدهور بشكل لم تتعرض له قط تحت نظام التنوع المحصولي الذي عادة ما كان يستخدمه الأفارقة في هذه المناطق.

وأدى قطع أشجار الغابات واستخدامها فلنكات للسكك الحديدية، التي مدت لنقل هذه المحاصيل الجديدة والمعادن من داخل القارة إلى الموانئ – إلى ترك أشجار ضعيفة الجذور مكشوفة لهبات الرياح التي سرعان ما اقتلعتها الرياح، وهو ما زاد من مساحة التربة المكشوفة الرقيقة، ونتيجة لتعرضها للحرارة الشديدة أثناء موسم الجفاف وانهمار الأمطار الغزيرة أثناء موسم الأمطار سرعان ما رهنت هذه التربة الرقيقة فوق قاعدة الصخور الصلبة، مما تسبب في شقوق وحفر مليئة بالماء وفرت وضعا مثاليا لتكاثر البعوض الناقل للحمى الصفراء والملاريا.

كما أدى توسع الشبكات الدولية للتجارة ومراكزها في لندن وأمستردام وباريس ولشبونة إلى التوسع في زراعة المحاصيل النقدية إلى نتيجتين مهمتين وهما : التوسع في استخدام النقود بدلا من نظام المقايضة الذي كان سائدا، وإلى ازدیاد حركة الهجرة الداخلية إلى مناطق السواحل التي يتركز فيها النشاط الاقتصادي الكثيف للأوربيين وذلك في الهند وغرب إفريقيا، والذي كان له تبعاته بالنسبة إلى خلق بيئة جديدة مناسبة لتكاثر البعوض وانهيار نظام المناعة الطبيعي للسكان المحليين .

وتوسعت شركة الهند الشرقية في التركيز على زراعة القطن والشاي في الهند ، وبهذه السياسة نفسها أصبحت أمريكا الوسطى والجنوبية أكبر منتجي السكر، وأصبح غرب إفريقيا أكبر منتجي زيت النخيل وجوز الهند والكاكاو والفول السوداني ، وأصبحت هذه السلع تنتقل عبر شبكة واسعة من المواصلات من مناطق إنتاجه إلى مناطق استهلاكه، التي كانت غالبا في أوربا. وكان من تبعات هذا التوسع في الاستخدام النقدي كقاعدة للتبادل بدلا من المقايضة نتائج كارثية بالنسبة إلى توسع البيئة المرضية، وتوسيع الظروف المناسبة لتكاثر البعوض. فقد أدى استخدام النقود وفرض الضرائب من قبل رؤساء القبائل المتعاونين مع الأوربيين إلى هجرة الآلاف من الأفارقة من المناطق الداخلية للبحث عن عمل في المناطق الساحلية، حيث وفرت الأعمال التي يديرها البعض تشغيل لعمالة ذات الأجر. وقد سافر الآلاف من الأراضي الداخلية في المناطق المحتلة الفرنسية مثل بوركينا فاسو ومالي لمئات الكيلومترات للعمل في السنغال أو جامبيا.

> إعداد: سعيد ايت اومزيد

Related posts

Top