التجربة التشكيلية للفنانة نادية عبادي.. الذاكرة والحلم المنفلت

يقضي المرء فترة طويلة من عمره وهو يجتهد في وظيفته، وأمام تزايد حجم مسؤوليات الأسرة، قليلا ما ينتبه إلى هواياته، ومن ثم لا يعمل على تنميتها وتطويرها، وهذا شيء طبيعي، لأنه لا يسعنا تأمين قوت حياتنا اليومية بـ”الهواية”، إلا إذا كنا نمارسها بشكل احترافي وبشروط معينة.

مناسبة هذا الحديث، هو تجربة سيدة قضت أزيد من 34 سنة في مهنة التعليم، وبعد تقاعدها،ستفاجأ الذين من حولها بموهبة لم تخطر على بال أقرب الأقربين إليها، ويتعلق الأمر بنادية عبادي (Nadia ABBADI) التي ولجت عوالم الرسم التشكيلي، مؤخرا، وبالضبط شهر يناير من سنة 2021.

وحكت نادية عبادي التي ازدادت بتاريخ 20 شتنبر 1959 بمدينة الرباط، (حكت) لجريدة بيان اليوم قصة ولادتها من جديد، عقب إسدال فترة من حياتها وهبتها لتعليم أبناء المغاربة، أو أبنائها كما تحب أن تصفهم، لأن هذه المربية والمعلمة لم تميز يوما بين بنتيها وأبناء الأسر المغربية التي أشرفت على تدريسهم، بل تعتز بالمسار الذي سلكوه فيما بعد.

وإذا كان البعض يتطلع إلى إحالته على التقاعد من أجل الراحة وقضاء العمر المتبقي في سكينة ورخاء، بعيدا عن الضغط وضوضاء الروتين اليومي للمهمات في مكان العمل، فإن نادية عبادي كسرت هذه الصورة النمطية والإكليشيهات المجتمعية تجاه “المتقاعد” و”المتقاعدة”، هذه الأخيرة التي يحكم عليها القدر أحيانا، بالعناية بأحفادها، حيث فكرت بشكل جدي في ممارسة أي نشاط يجنبها شبح الفراغ والملل القاتل.

بعد أخذ ورد مع أفراد عائلتها بشأن الموضوع، ستقترح عليها الفنانة التشكيلية نعيمة زمرو مرافقتها إلى ورشات تعليم الرسم، يشرف عليها الفنان التشكيلي رضا إجير(Reda IJER) بالقنيطرة، ولأن نادية عبادي متحمسة إلى خوض غمار أي تجربة جديدة في هذه الحياة، لم تتأخر في تلبية الدعوة، وعقدت العزم على بداية هذا التكوين، الذي فكرت فيه في صمت، لكن بحكم استقرارها بمدينة القنيطرة، كانت تجد صعوبة في إيجاد تكوين من هذا القبيل، على عكس مدن أخرى كالرباط، الدار البيضاء، طنجة ومراكش التي يقيم بها فنانون تشكيليون مغاربة وأجانب.

 

اللقاء الأول باللوحة

في أول لقاء بين السيدة نادية عبادي، والفنان التشكيلي المحترف رضا إجير، أعجب هذا الأخير بالشغف والحب الذي تبديه للفن التشكيلي، ولم يتردد في اختبارها منذ أول حصة، بعدما قدم لها مجموعة من الشروحات المفصلة، بشأن أسماء ووظائف الأدوات واللوازم والمعدات التي يحتاجها الفنان التشكيلي في عمله، وهكذا، اقترحت عليه رسم رأس حصان، بحكم الحب الذي تكنه للخيول.

  أعجب رضا إجير بما رسمته تلميذته في الدرس التطبيقي الأول، تقول نادية عبادي، وتحدث طويلا وبإسهاب معها عن سر الإبداع الذي بسطته على اللوحة، وبدأ يتساءل عن سنوات ضياع هذه الموهبة التي لم تكتشف إلا في وقت متأخر من الزمن.

انطلاقا من هذه البداية الموفقة، شرعت الأستاذة نادية عبادي في رسم اللوحات التشكيلية التي وصل عددها اليوم إلى 31 وحدة، مختلفة الأحجام والأشكال والألوان والمواضيع، وإن كانت أكثر ميلا إلى رسم العوالم الطبيعية التي تعتبرها سرا ربانيا فوق الأرض.

بيد أن هذه الموهبة التي نتحدث عنها، لم تنشأ من العدم واللا شيء، وإنما كانت بفعل ما تخزنه الذاكرة البصرية لنادية عبادي، التي اكتشفت الرسم منذ صغر سنها، كيف لا وهي التي نشأت بين المنازل الفسيحة للرباط، المزخرفة والمنمنمة والمورقة والمرصعة بالزليج البلدي، والجبص، والخشب، ناهيك عن اكتشافها لفن الهندسة المعمارية الكولونيالية بشوارع العاصمة الإدارية، التي تبرز جمالية ورونق الأحياء والأزقة.

واسترجعت نادية عبادي في حديثها للجريدة، أولى رسوماتها فوق الثوب، لا سيما وأن نساء الرباط، كن يمارسن فن نسج الزرابي، والطرز “الفاسي” و”الرباطي”، سواء على الملابس المعدة للارتداء، أو التي تزين الأفرشة وستائر نوافذ المنازل (الخوامي).

ولا يسع من عاشت بين نساء مبدعات في شتى أنواع الصناعات التقليدية، إلا لتكون مبدعة أيضا، ليس لتحقيق الربح المادي، كما قد يتبادر لذهن البعض، وإنما لتخليد الأثر والذكريات بين أفراد العائلة، وهو ما كانت لا تتردد في القيام به جدتها ووالدتها وخالاتها وعماتها وجميع نساء عائلة نادية عبادي، اللائي لم يتعبن من إعداد أثواب مطرزة لبناتهن وحفيداتهن مع كل مناسبة فرح.

إلى جانب ذلك، كانت نادية عبادي، تخربش على الورق أشكالا مختلفة منذ ولوجها إلى المدرسة، واستمرت على هذا المنوال خلال تربية بنتيها وأحفادها، علما أنها ظلت مهووسة باقتناء أدوات الرسم، رغم أنها لم تجرب يوما الرسم بالشكل المتعارف عليه في الورشات الاحترافية.

وتربت عين نادية عبادي على ملاحظة كل ما هو مختلف في الخارج منذ الصغر، فوجودها في الفضاءات العامة مع الجماعة، لا يثنيها عن استراق البصر للنظر إلى ما تزخر به الأرض والسماء من ألوان وأشكال تتجدد فيها الحياة كل يوم.

وهذه المعرفة المسبقة بفن الرسم، والاهتمام الواسع بالفن بجميع أشكاله، ساعدها بشكل كبير خلال متابعتها للدراسة في الجامعة، سلك الدراسات الفرنسية (الإجازة والدراسات العليا المعمقة)، وتحديدا مجزوءة الأدب الفرنسي المقارن، التي تعرفت فيها على مجموعة من أسماء كتاب وشعراء ورسامين مرموقين من قبيل هنري ماتيس (Henri Matisse)، يوجين فرومنتان (Eugène Fromentin) وجاك ماجوريل (Jacques Majorelle)، وغيرهم، إلى جانب انفتاحها على كتب نقدية متحت منها أسلوب قراءة اللوحات البصرية.

واهتمت نادية عبادي باللوحات في المرحلة الجامعية أكاديميا، حيث امتلكت الأدوات الأساسية لتحليل الأعمال التصويرية، وهو ما سمح لها فيما بعد، بعقد المقارنة بين الأعمال المغاربية والفرنسية والأجنبية عموما، مؤكدة أنها لم تجرب الرسم قط، باستثناء ما كانت تخطه، وقتها، على أوراق دفاترها بين الفينة والأخرى.

وإذا كان العامة من الناس، أكثر اهتماما بملذات أشكال الحياة في استهلاك اللباس والأكل وكثرة الكلام في الفضاءات الواقعية والافتراضية، فإن نادية عبادي دائمة البحث عن الريشة والألوان ومعدات الرسم، التي تمنحها معنى في الحياة، ولا سبيل لتحقيق هذه المتعة إلا بالإبداع التشكيلي. وتجربة نادية عبادي ليست وصفة جاهزة يمكن تحقيقها مع أي شخص آخر، بل هي حاصل شغف وحب وتراكم سنوات من العمر.

 

نوستولجيا الماضي

تتحسر نادية عبادي اليوم عن هدر كل هذا الزمن من حياتها بدون ممارسة الرسم الذي كان سيضفي شيئا جميلا ليومياتها، التي وهبتها لتربية الناشئة والمطالعة، واقتفاء أثر الأفكار في الأعمال القصصية والمسرحية والحكائية والروائية، التي كانت تعيد تقاسمها مع الأجيال التي تعاقبت على تدريسها.

لكن كل هذا المسار المعرفي والمهني الذي خطته نادية عبادي، وخبرتها الشخصية في الحياة، تبرز اليوم في اللوحات التي ترسمها، ذلك أنها تختلي كل يوم في مرسمها أو محرابها، لتتأمل وتتدبر وتفكر في موضوع يشغل بالها، قبل أن تمر إلى مرحلة البحث في الكتب والمواقع عن الأشكال والألوان القابلة للتحقق على عملها، لتباشر رسم لوحات، تصفها بـ”أبنائها الجدد”.

وتهتم نادية عبادي برسم كل الأشياء التي طبعت طفولتها في الماضي، والتحدي الذي ترفعه اليوم هو إعادة إحياء النوستالجيا عبر الفرشاة والألوان، خصوصا الأشياء الثمينة التي فقدتها من منزل جدتها كـ”المرآة الشخصية” على سبيل المثال. وبهذه المناسبة كشفت عبادي، احتفاظها بأشياء ثمينة لوالدتها وجدتها كأقراط الأذن (حلقات) يبلغ عمرها 140 سنة، وكذا قفطان لجدتها يتجاوز 100 سنة، وتفكر مليا الآن في رسمهما حتى لا يفقدا جمالهما مع توالي السنون، بصيغة أخرى، إعطائهما حياة وعمرا جديدا، إنه تحدي تأسيس ألبوم تشكيلي خاص بالعائلة.

وتشكل تجربة نادية عبادي هذه، استثناء داخل أسرتها الكبيرة والصغيرة، ما جعلها تصبح في الآونة الأخيرة تحت أنظار أفراد عائلتها، ومحط حديث كل من حولها، لا سيما وأن المجتمع تعود على تمثل الموهبة في الصغر، وكأن التقدم في العمر يعادي اكتشاف الإبداع الذي بداخلنا.

واللوحة لدى الأستاذة عبادي، ليست مصدرا لاسترجاع ذاكرة الطفولة والعائلة فحسب، ولكن كذلك، فرصة للقبض على الحلم المنفلت الذي لم يتحقق، والتطلع للمستقبل الذي يعني لها الشيء الكثير، فهو الأمل والسمو والصفاء والنقاء والحياة والحب والنور، إنه الجمال اللا متناهي..وأشارت نادية عبادي إلى أن طقس الرسم يمر لديها، أولا وقبل كل شيء، عبر التفكير بكتابة نصوص قصيرة، تطلق عليها اسم “تفكير نادية عبادي” (La pensée de Nadia ABBADI)، وهي نافذتها الأولى للولوج نحو قماش الرسم (Toile Peinture) بخلطة الألوان الخاصة بها. و”الشغف”، هي الكلمة المفتاح في تجربة نادية عبادي، ذلك أن القلم لم يعد يفارقها في النهار كما في الليل، لكتابة كلمة أو مقطع أو جملة ملهمة، قابلة لأن تبلور أكثر وتصبح عملا فنيا بصريا.

وأوضحت نادية عبادي أنها مازالت على تواصل مع رضا إيجر، رغم تأسيسها لمرسم خاص بها في المنزل، ذلك أنه لا يبخل عليها في تقاسم الجوانب التقنية التي تهم المجال، لأن موسوعة الإبداع والخيال تبقى شأنا شخصيا وذاتيا خاصة بكل فرد.

وظلت تحبذ نادية عبادي طيلة هذه السنوات التي بدأت فيها ممارسة شغف الرسم، عدم المشاركة في المعارض التي تنظم على المستوى الوطني، بذريعة أنها تحتفظ لنفسها بهذه اللوحات التي لم تفكر يوما في بيعها، رغم أن منزلها أصبح شبيها بالمتحف أمام حجم اللوحات الذي بات يتضاعف عددها شهرا بعد آخر.

وبفعل إصرار صديقاتها وأفراد عائلتها على ضرورة الخروج إلى العلن، وعرض إبداعاتها أمام العموم وتقاسمها مع الجمهور، اهتدت نادية عبادي إلى المشاركة لأول مرة في مسارها الفني، في معرض جماعي لـ IMAGALERIES، بشراكة مع مؤسسة مسجد الحسن الثاني بالدار البيضاء، تحت عنوان: “التنوع المختزل في الريشة الإبداعية”، والذي ينظم من 15 إلى 30 أبريل 2024.

وكشفت بأن المنظمين رحبوا بها أيما ترحيب، بعد الاطلاع على نماذج من أعمالها، ومن ثم ستشارك بخمس لوحات، سيكون لزوار المعرض بالمكتبة الوسائطية لمؤسسة مسجد الحسن الثاني بالدار البيضاء، فرصة الاطلاع عليها.

وعبرت نادية عبادي عن سعادتها بهذه المشاركة التي تأمل أن تقدم لها شيئا جديدا في المجال، على اعتبار أنها فرصة للقاء الجمهور المهتم بالفن التشكيلي، وكذا النقاد والفنانين التشكيليين من مختلف الفئات والمدارس، بل لقاء كل من يحب الفن والحياة وعيش اللحظات الجميلة.

وسيشد انتباه من يحاور نادية عبادي، حبها للحياة وكل ما هو جميل، ولا يمكن لمن تحب الحياة والجمال إلا أن تبدع وتبرز الأشياء الجميلة في لوحاتها. صحيح أن التجربة الفنية لهذه المبدعة جديدة بالنسبة لمن يقيس الأشياء بمنطق السنوات، لكن لا يختلف اثنان على أنها موهبة ستغني بأعمالها أرشيف المغرب في حقل الفن التشكيلي.

بقلم: يوسف الخيدر

Top