تستمر الحرب على أوكرانيا من لدن الجيش الروسي، ويتابع العالم كله هول المأساة وبشاعة ما يتعرض له الشعب الأوكراني…
كل القوى المناصرة للسلام لا يمكن إلا أن ترفض الحرب مبدئيا، وأن تدين كل اعتداء على الدول والشعوب، وأيضا أن تتطلع إلى حل الخلافات بينها بالحوار والطرق الديبلوماسية، وأن يجري احترام حدود الدول ووحدتها واستقلالها.
في مثل الظرفيات الحالية يكون التذكير بالمبدأ ضروريا وواجبا، وذلك بدل بعض الكلام التبسيطي والعاطفي الذي يقوم على أن العداء لأمريكا يبرر الدوس على المبادئ وسحق الشعوب واحتلالها.
في مقابل ما سلف، يجدر التنبيه إلى أن الحرب الروسية الأوكرانية الحالية لها خلفية تاريخية، وتروم تحقيق أهداف ومصالح استراتيجية بالنسبة لكل الأطراف.
من المفهوم جدا أن يتعاطف الكثيرون مع الخطوة الروسية لمجرد أن موسكو تواجه أمريكا وحلفائها في»الناتو»، ولكن روسيا، بدورها، لا تخوض هنا حربا ايديولوجية أو لفائدة الشعوب المتضررة من السياسات الأمريكية والغربية، ولكنها تخوض حربا للدفاع عن مصالحها القومية وأهدافها الإستراتيجية، ومن أجل امتداد وتمتين نفوذها.
نعرف أن التوترات وجدت دائما بين روسيا وأوكرانيا منذ قرون، ولديهما معا جذور ضمن السلافية الشرقية، أو ما كان يسمى دولة: (كييف روس) التاريخية، أو دولة: (روسيا الكييفية) كما تسميها بعض الترجمات العربية.
وبرغم التقارب الواضح في اللغة وفي الثقافة، فذلك لم يمنع من بروز لغة أوكرانية إلى جانب اللغة الروسية، كما أن روسيا استطاعت أن تكبر وتتحول إلى إمبراطورية، عكس بلاد الأوكران، وأجزاء من أراضي أوكرانيا الحالية كانت تاريخيا تابعة لتلك الإمبراطورية، ولم تستقل عنها إلا في:1917، ثم ما لبثت أن عادت إلى شمل جمهوريات ما كان يسمى الاتحاد السوفييتي، وذلك إلى غاية:1991، وعند انفراط عقد الاتحاد السوفييتي، شكلت روسيا حينها ما سمي: (رابطة الدول المستقلة) مع أوكرانيا وبيلوروسيا، لكن ذلك لم ينجح، لكون كييف كانت دائما تتطلع نحو الغرب وحلف (الناتو)، وبرزت الخلافات والمشاكل منذ ذلك الوقت، وكان يؤججها الغرب باستمرار.
وبرغم كل ما حدث منذ ذلك الوقت، لم يحدث التوتر بين موسكو وكييف طيلة تسعينيات القرن المنصرم، بسبب أزمات الاقتصاد الروسي حينها، وبسبب انشغال موسكو بحرب الشيشان في 1997، ثم بعد ذلك وقعت الأحداث مع جورجيا، تماما كما يجري اليوم، ووقعت أحداث جزر القرم، وبالموازاة جرت العديد من المباحثات والمفاوضات طيلة سنين بين روسيا والولايات المتحدة وأوروبا حول العلاقات الروسية الأوكرانية، لكنها كلها لم تفض إلى أي نتائج عملية.
روسيا اليوم تنشغل بمصالحها الحيوية من خلال حدودها المشتركة مع أوكرانيا، وتراقب استهتار واشنطن وحلف (الناتو) بمخاوفها الأمنية جراء توسع الحلف نحو الشرق، وضم أوكرانيا ودول مجاورة أخرى إلى صفوفه، وكل هذا من حقها، كما أن كل الوقائع والخطط تؤكد أن (الناتو) يعمل من أجل محاصرة روسيا وتطويقها عسكريا وأمنيًا، والسعي إلى خنقها اقتصاديا واستراتيجيا عبر محيطها الحيوي، علاوة على إبعادها الكلي عن أي سياسة أمنية أو استراتيجية للقارة الأوروبية، وهو ما يضعها أمام مخاطر حقيقية على هذا المستوى.
المشكلة اليوم في طريقة دفاع روسيا عن مصالحها، وفي اختيارها الحرب المباشرة لإفشال مخططات (الناتو) وأمريكا، كما أن واشنطن وحلفائها، بدورهم، مسؤولون عن دفع روسيا إلى هذا المآل، وذلك من خلال مواصلة الاستهتار بتخوفاتها، واللامبالاة بمصالحها.
اليوم، يتطلع العالم لكي تنتهي الحرب أولا، ولكي يستعيد الشعب الأوكراني السلام والأمن والاستقرار، وأيضا لكي تنتصر الأخوة بين الشعبين الأوكراني والروسي، ومن أجل ذلك، يجب أن تتاح الفرصة للحوار والتفاوض….، وللعقل.
التلويح بالعقوبات ضد روسيا وقادتها لن يفضي إلى أي نتيجة كما يؤكد ذلك عدد من الخبراء والعارفين، كما أن خطوة ألمانيا بتزويد الجيش الأوكراني بالسلاح والصواريخ لن يزيد الأمر سوى تعقيدا، خصوصا إذا استحضرنا الرمزية التاريخية لألمانيا في ذاكرة الشعب الروسي منذ الحرب العالمية…
ما يجري اليوم يبين أيضا فشل آليات الأمم المتحدة وباقي المنظمات الإقليمية والدولية في تحقيق السلام وحماية الشعوب من الحروب، كما يبين حاجة العالم المعاصر إلى رؤى مغايرة في قضايا: الأمن والحدود والمصالح الثنائية، وربما في الخلفية تطرح كذلك مشكلات: (الدولة القطرية المعاصرة)…
الحرب الجارية اليوم بين روسيا وأوكرانيا هي ربما تثير بعض الشعارات والمسوغات التي نعثر عليها في جغرافيات أخرى عبر العالم، لكنها، في الخلفيات والأهداف، تبقى مختلفة، وتقوم على تطلع روسي من أجل مصالح استراتيجية مقابل سعي غربي لأهداف استراتيجية كذلك، ومن ثم لن يتحقق الحل إلا ضمن اتفاق جماعي حول المصالح الاستراتيجية لكل طرف، ومراعاة المخاوف الأمنية الروسية.
أما بالنسبة لأوكرانيا وشعبها الطيب، فهي تستحق العيش في حرية وأمن وسلام، وبما يوفر لها شروط الاستقرار والتقدم، علاوة على أن المأساة الحالية أبانت للعالم كله كيف أن الإغراءات الأمريكية لم تصمد لما بدأت الحرب، وبقيت واشنطن بعيدة، ووحده الشعب الأوكراني يواجه اليوم النيران…
محتات الرقاص