لم يحاول أحد مواجهة الرؤى المختلفة للفلاسفة حول الحب لدرجة أن المرء قد يكتشف مزيدا من العمق في الحديث عن الحب في الأغاني الشعبية عنه عند المفكرين المعاصرين. إذ ثمة فكرة سائدة بأن الفلسفة والحب لا يجتمعان ويقطن كل منهما في غرفة منفردة، منذ العصور الحديثة على الأقل.
فمع كون الحب الظرف القدري للسعادة عند غالبية البشر، والعنصر الدائم لكل أشكال الدراما الأدبية، إلا أن الفلاسفة قد أثاروه بتحفظ يشبه من يدخل إلى قفص الأسد ويخشى أن يؤكل حياً.
فقد نفهم أن الفلاسفة يطالعون تلك العاطفة الغريبة بكثير من التعقل لأنهم مشغولون بتحرير الإنسان من كل أشكال العبودية العقلية، فيما يؤدي الحب بالإنسان إلى الموت كمدا.
هناك العديد من أنواع الحب، نزوة الأيام المعدودة، الاستلاب المقيد، الفتور المستمر، الجموح الخاطف، الاعتياد البارد.. ولم يفلت الفلاسفة من كل تلك الأنواع.
قضية هذا الكتاب لماري لمونييه واود لانسولان ترجمة دينا مندور، محاولة للنظر في هذه النقطة بعدالة، على طريقتهم المرتبكة أو المختالة، واللاذعة في معظم الأحيان، بل والعدائية الشرسة التي انتهجها بعضهم، والحديث عن كل ذلك بلهجة حاسمة فجميعهم في الحقيقة لديهم ما يقولونه لنا عن الحب، وعما يصاحبه من وهم وخلود، وما يولده من معاناة، وعن الطريقة التي نطمح بها لترويضه.
حين أكد مونتاني أن من حق النساء رفض القواعد التي تُفرض عليهن
في حال كانت النساء مفتونات بفضائح نضوجهنَّ السافرة فهن يطالبهن مونتاني بتبرير «الفجور» الذي يتشاركن فيه مع الرجال «بالتنوع والتجديد». بل إن مونتاني أصبح نَسَوياً حين أكد أن من حقهن رفض القواعد التي تُفرض عليهن، لأن هذه القوانين وضعت من دونهن ومن دون موافقتهنَّ، إنما وضعها الرجال. بل كان متعاطفاً معهنَّ أيضاً حين دفع بهنّ إلى أحضان العشيق العابر، واكتفى بنصحهنَّ بالكتمان والتواضع في الكتاب الثالث.
الغلطة نفسها لا تهم طالما اهتممنا بمظهرها ولها طرق تدبير عند «من لا ترغب في إعفاء ضميرها من ثقل ما، بينما ترغب في إعفاء اسمها من هذا الثقل». وبماذا سيرد على التوبيخ ؟. «كل منكن مدللة بداخلها». هذا الأمر منتشر للغاية حتى إنه لن يضير غَض الطرف عنه إذا ما استقصينا وراء شريك حياتنا.
كون كذلك. والأمر يشبه زواجاً بين امرأة عمياء ورجل أصم. لكن مع الحد من حرية الزوجين، كما يريد المجتمع والكنيسة، فإننا نحوّل هذه المؤسسة الجميلة إلى قفص حيث: تيأس العصافير خارجه من الدخول إليه، فيما ييأس من بداخله من الخروج منه.
ولخص مونتاني الفكرة ذاتها التي نستطيع استخلاصها من کتاب الجنس الثاني لسيمون دوبوفوار قائلاً: «أقول إن الذكور والإناث ملقون في القوقعة ذاتها، والفرق بينهما ليس كبيراً، فيما عدا المؤسسة والعادات». ويضيف إن «إدانة أحد الجنسين أسهل من التماس العذر للآخر». لم تكن الكاتبة النسوية ماري دي جورناي صاحبة كتاب المساواة بين الرجال والنساء (1622) على خطأ إذن.
أهو حُبُّ أخير؟
عبقرية عصامية، ومستقلة إلى آخر مدى، إنها ماري دوجار دوجورناي التي أضاءت «الضبابية» القائمة في حياة مونتاني، حين بلغ من العمر خمسة وخمسين عاماً حين ذهب إلى باريس في عام 1588 للتفاوض بشأن اتفاقية عسكرية مع هنري الثالث بطلب من مقاطعة نافار، حينها تعرف مونتاني إلى المثقفة الشابة ذات الثلاثة والعشرين ربيعاً والتي سيطلق عليها سريعاً «ابنته الروحية».
كانت معجبة بشدة بمؤلّف المقالات الذي اكتشفته وقرأته في سن الثامنة عشرة. وحين قابلته في باريس، بعد أن ظل المثل الأعلى لمخيلتها طويلاً، قابلته بعبارات المديح، التي سريعاً ما ردّ عليها بـ«فلنلتق غداً يملأه الرجاء والبشر. بعد هذا اللقاء بقليل، انتقل مونتاني عند الفيلسوفة في بيكاردي، لمدة ثلاثة أشهر من التبادل الروحاني المكثف. ولم يكفّا بعدها عن التراسل. ظلمت هذه السيدة من قبل التاريخ حيث تم تناسيها وتصويرها بشكل سافر كنصابة عجوز رغم أن الفضل يرجع إليها في نشر النسخة الأخيرة من كتاب المقالات التي ظهرت في عام 1595، حيث عكفت على تجميع ملاحظاته لمدة خمسة عشر شهراً عاشتها في هدوء مع فرانسواز في القصر بعد موت مونتاني. وفي المقدمة التي كتبتها وصفت علاقتهما: «عندما استأجرني، تملكته أنا : فأنا معه كيان يختلف كلياً عني من دونه. لم يبق معي سوى أربع سنوات، وهي الفترة نفسها التي قضاها مع لابواتي». كان التوازي كاملاً . في حياة مونتاني إذن فالبداية والنهاية في حياة ميشيل إيكام تأطّرَت بهاتين المحبين الاستثنائيين أو الحبين؟ «بالتأكيد هي حبيبة بالنسبة لي أكثر من كونها ابنة، وتغلفت في عزلتي ووحدتي تلك، كجزء من أهم وأجمل أجزاء نفسي الحميمة، فلم أعد أنظر إلى غيرها في العالم. هذا الإعلان المدوّن في الكتاب الثاني من المقالات يشكل على الأقل اعترافاً مختلجاً بما حققه مونتاني من «صداقة مقدَّسة»، حيث الحرية اللامشروطة قادرة على خلق الارتباط الكامل بامرأة. وربما أنه نجح في إكمال المهمة التي ترجع إلى «نحن كرجال محبطين لا نطلق العنان لأرواحنا كي تستيقظ بفعل حديث الآخر أو مثاله، الذي يتخفى وراء المظهر العادي للانسان». وأن يكسب الحرية المطلقة، تلك التي يحتذيها المرء عندما يخاطر فعلياً.
فجأة، هزُلَ جسد مونتاني الذي كان رقيقاً جداً في هذه المرحلة، فقد انفطر قلبه بفقد صديقه الأقرب لابواتي، وبفعل الألم المتراكم على مدار السنوات، فاستسلم لحلم البدء من جديد، حيث يكون المرء مستعداً للحب أكثر من أي وقت مضى.
>إعداد: سعيد ايت اومزيد