تقرير المجلس الأعلى للحسابات

صدر التقرير الأخير للمجلس الأعلى للحسابات كأول تقرير في العهد الدستوري الجديد، ومن ثم كان طبيعيا أن يتركز النقاش العمومي والإعلامي حول أسلوب التعاطي الحكومي مع مضمون التقرير أكثر من تركيزه على القضايا الأخرى، خاصة أن معطيات هذا التقرير، مثل سابقيه، تمثل رافعات لتحفيز مبادرات وإجراءات الحكومة الحالية في مجال محاربة الفساد، وتخليق الحياة العامة، والتنزيل العملي للمبدإ الدستوري القائم على ربط المسؤولية بالمحاسبة.
إن المعطى الجوهري العام الذي أثبته قضاة المجلس الأعلى للحسابات، يتمثل في أن المغرب يعاني مشكلة كبيرة وحقيقية في حكامة المؤسسات، في التسيير المالي وفي غيره، وبقدر ما يتطلع الناس إلى محاسبة المتورطين فيما أورده التقرير من خروقات ومخالفات واختلاسات، فإن المطروح اليوم على بلادنا أيضا وأساسا هو تفعيل استراتيجيات حقيقية وناجعة لتجويد حكامة وتدبير مختلف مؤسساتنا الوطنية، وإدارة المال العام.
وهنا نشير إلى أهمية تفعيل ما تضمنه الدستور الجديد على هذا الصعيد، والإسراع في إنجاز القوانين التنظيمية ذات الصلة، وإقامة وتقوية الهياكل والآليات المرتبطة بالتقنين والرقابة ومحاربة الفساد، ومن دون هذا العمل الاستراتيجي، فإن نفس الأوضاع والأسباب، لن تقود في النهاية إلا إلى ذات النتائج، وإلى إعادة إنتاج ما كشفه تقرير المجلس الأعلى للحسابات، وما تتضمنه أيضا تقارير المفتشية العامة للمالية، والمفتشية العامة للداخلية وغيرهما.
من جهة ثانية، فإن التقرير الحالي للمجلس الأعلى للحسابات، والتقارير المماثلة الأخرى، لا يجب تلقيها بشعبوية فجة، أو بالتبسيطية القاتلة في تحليل المعطيات، وتكييف الاتهامات، وإنما يقتضي الأمر استحضار القانون، وبالتالي الانكباب من لدن السلطات المختصة على تحليل محاور التقرير بدقة، وفرز المعطيات والتفاصيل، وبعد ذلك تجهيز مختلف الملفات، وإحالة كل ملف به عناصر جرمية على القضاء ليقول القانون كلمته.
يجب الحرص هنا على قرينة البراءة، وتفادي التلويح بالاتهامات ذات اليمين وذات الشمال، لكن في نفس الوقت لا بد من استحضار عامل الوقت، والابتعاد عن التماطل الذي سيجعل الناس تقتنع أن الفساد أبدي في البلاد، وأن المفسدين أكبر من القانون، ومن كل إرادة في الإصلاح.
من الضروري الانكباب إذن على تنزيل كامل متطلبات تطوير الحكامة المالية في بلادنا، وتطبيق ما ينص عليه الدستور الجديد في هذا المجال، بالإضافة إلى أهمية الحرص على تمتين ميكانيزمات المراقبة، وأنظمة العقوبات، ثم السعي إلى إشعاع المعلومة الاقتصادية والمالية وسط الناس بواسطة قوانين ومساطر واضحة ومتاحة.
ولإنجاح كل هذه الرهانات الأساسية، نحن في حاجة كذلك إلى قضاء كفؤ ومستقل ونزيه، وإلى قضاة شجعان بإمكانهم جر قاطرة الإصلاح والتخليق إلى الأمام.

[email protected]

Top