يعتبر المحامي الفرنسي جاك فيرجيس أحد أكثر المحامين قوة، وألمعهم في العالم وأشدهم قدرة على الدفاع وإثارة للجدل. اشتهر بـ”محامي الشيطان”، بسبب دفاعه عن قضايا كبيرة ومثيرة يخشى محامون غيره الاقتراب منها، كما يلقب أيضا بـ “سفاح المرافعات” و”محامي القضايا الميؤوس منها”. دافع وترافع عن الكثير من الشخصيات المثيرة للجدل، منها الفنزويلي كارلوس والناشط اللبناني جورج إبراهيم عبدالله، إلى جانب مجرم الحرب النازي كلاوس باربي والدكتاتور اليوغوسلافي سلوبودان ميلوسيفيتش وقائد الخمير الحمر السابق كيو سامفان، والرئيس العراقي الراحل صدام حسين، والمفكر روجيه غارودي المتهم بإنكار محرقة اليهود. وكان الرجل القصير القامة صاحب الوجه الساخر والنظارات المستديرة والشعر القصير المولع بالسيكار، مقربا من شخصيات سياسية من العالم أجمع وكذلك من سائر المناضلين الذين كانوا يعملون في السر مثل الحركات التي نفذت هجمات في السبعينيات والثمانينيات .
وللوقوف عن قرب على مسار المحامي الفرنسي جاك فيرجيس، أرتأينا نشر مجموعة من الحلقات حول كل ما يتعلق بمساره الشخصي والمهني والنضالي وكيف ناصر القضية الفلسطينية، ووقف ضد بلاده من أجل نصرة القضايا العادلة وفي مقدمتها الثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي.
فيرجيس وأسراره: كما لو أنني عشت ألف سنة!
على خشبة المسرح، تقمص دور “سفاح المرافعات”، وفي قاعات المحاكم كان يُلقّب بـ “محامي الشيطان”. أما هو، فقد كان يقول أن لقبه الأثير هو “النذل اللامع”، الذي أُلصق به حين قلب محاكمة المجرم النازي كلاوس باربي إلى محاكمة للإرث الاستعماري الفرنسي.
لم يكف جاك فيرجيس أن يكون المحامي الأشهر عالمياً، بل كان يحرص دوماً على إحاطة نفسه بهالة من الألغاز والأسرار. على مدى نصف قرن، لاحقته تهم وشبهات وأقاويل كثيرة وغريبة. وكان يحلو له ألا ينفي أيّاً منها: هل كان جاسوساً سوفيتياً، كما ورد في أرشيف «ستازي» (استخبارات ألمانيا الشرقية سابقاً)؟ هل انخرط في تنظيم كارلوس، بعد أن وقع في غرام زوجته ماجدالينا كوب؟ هل قاتل في “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين”، تحت إدارة وديع حداد؟ أم في صفوف “الخمير الحمر” في كمبوديا، إلى جانب صديق شبابه، وشريكه في لقب “السفاح” بول بوت؟ لماذا أصدر الرئيس فرنسوا ميتران أمراً رسمياً باغتياله، سنة 1986؟ وما سببه نفيه من الجزائر بقرار من الرئيس بن بلة الذي كان مستشاراً مقرباً منه؟ ولماذا هدّدت مطلقته جميلة بوحيرد بقتله، إن قابلته ثانية؟
تساؤلات كثيرة تتزاحم في ذهن أي صحافي يجلس قبالة جاك فيرجيس، في مكتبه الأشبه في مغارة علي بابا: كتب بكل اللغات، هدايا وتذكارات من مختلف الدول، وعدد لا يحصى من التماثيل والمنحوتات الإفريقية التي كان يعشق اقتناءها. ومهما حاولتَ أن تتحايل لجرّه إلى لعبة المكاشفة الصحافية، فإنك لن تظفر منه سوى بتلك الابتسامة الساخرة التي اشتهر بها. وإذا تكرّم بالردّ على سؤالك حول هذه التهمة أو تلك الإشاعة التي تطارده، فإنه يفعل ذلك لكي يربككَ أكثر، ويزيد الأمر غموضاً. كان يحلو له أن يكرّر دوماً الجواب الزئبقي والنمطي ذاته: “لا أستطيع الجزم. لكن كل واحد من هذه الاحتمالات التي ذكرتها جديرة بأن أعيشها، ولعلي عشتها بالفعل”! وقد تعوّد أن يكرر هذه الجملة، كلما سأله صحافي عن الوجهة التي اختفى فيها بين 1970 و1978 .
إذا أمعنت النظر في أثاث وديكور مكتبه الفسيح، فإن أبرز ما يشدّك عشرات طاولات الشطرنج من مختلف الأشكال والحجم. ذلك أن الحياة بالنسبة إلى جاك فيرجيس كانت أشبه بلعبة شطرنج سيزيفية، لا نهاية لها. ما إن يخفّ وقع المفاجأة التي تحدثها أي خطوة فضيحة يُقدِم عليها، حتى يفاجأ الجميع ـ من محبيه أو منتقديه على السواء ـ بخطوة جديدة أكثر غرابة وإبهاراً…
عام 2007، سرق الأضواء من نجوم السينما في «مهرجان كان»، حيث فُرش له البساط الأحمر، في مناسبة عرض فيلم “محامي الرعب” المستوحى من سيرته، لصعود سلالم المهرجان المكسوة بالبساط الأحمر، فانبرى بقامته القصيرة وابتسامته الساخرة الشهيرة، والسيجار الهافاني الذي لا يفارق شفتيه، منافساً أشهر النجوم والسينمائيين في توقيع الأتوغرافات، وسط التصفيقات وهتافات التأييد. وفي سبتمبر 2008، فاجأ الأوساط الثقافية الفرنسية، حين قرّر، وهو في الرابعة والثمانين، الصعود لأول مرة على خشبة مسرح “المادلين” الباريسي لأداء دور البطولة في مسرحية من تأليفه، بعنوان «سفاح المرافعاتSerial Plaideur (إخراج ماري نيكولا ولوي ـ شارل سيرجاك…).
لكن الروح الاستفزازية التي اتسم بها فيرجيس لم يكن هدفها استقطاب الأضواء من أجل تحقيق الشهرة. كل خطوة كان يقدِم عليها كانت ذات هدف سياسي. حضوره في “كان” لم يقتصر على الجانب الاستعراضي، بل كان فرصة لشن هجوم شرس ضد “أميركا البوشية”، مقارنا جورج بوش بهتلر. ومغامرته المسرحية كانت مرافعة مدوية ضد الطابع الاستعراضي للقضاء الغربي الذي يختزل المحاكمات في مجرد معارك ليّ أذرع شخصية بين المحامين والقضاة، لافتاً إلى أنّ الخاسر الأكبر في هذا النوع من المعارك القضائية الكاريكاتورية ليس المتهم الذي يُراد إدانته، ولا “المجتمع” الذي تسعى الأنظمة القضائية لحمايته من الجناة، بل هي الحقيقة التي لم تعد قيمة أساسية أو مرجعية للقضاة والمحاكم…
بذلك، كان نص “سفاح المرافعات” امتداداً لعمل نقدي كان فيرجيس قد بدأه بكتابه المدوي “الوجه البذيء للديموقراطية” (2003)، وقبل ذلك في بعض فصول مذكراته، التي أصدرها باكراً، عام 1999، بعنوان “لديّ من الذكريات، كما لو أنني عشتُ ألف سنة” حيث يحس القارئ كأنّها أشبه برواية مغامرات مشوقة من روايات جون لوكاريه.
جاسوس سوفييتي أم فدائي أم مجرد «ضيف على الثورة»؟
قيل الكثير عن سر اختفاء فيرجيس بين عامين 1970 و1978. ومن أبرز الروايات التي تم تداولها ما روّجته تقارير استخبارية قالت أنه استُقطب في تلك الفترة كجاسوس سوفييتي. ورجّحت تلك التقارير أن فيرجيس قضى فترة السنوات السبع المذكورة في التدرب على أيدي الـ “كي جي بي”، في مركز استخبارات الكتلة الاشتراكية في برلين الشرقية، حسب إحدى الروايات، أو في معهد متخصص في موسكو، كما تقول رواية أخرى، بينما تجزم رواية ثالثة أنّ الـ “كي جي بي” قام طوال تلك السنوات بتلقينه تقنيات “التخريب السياسي”، التي استوحى منها نظرية “إستراتيجية القطيعة” التي استعملها خلال محاكمة كلاوس باربي!
وترجّح رواية مختلفة أن فيرجيس قضى تلك السنوات السبع مقاتلاً إلى جانب قائد الخمير الحُمر في كمبوديا، بول بوت الذي تعرّف إليه أيام كانا طالبين في السوربون، وارتبط معه بصداقة قوية، فيما يشير تقرير آخر إلى أن استخبارات الصين استقطبت فيرجيس بينما كان متخفياً في كومبوديا، فانتقل إلى بكين. لكنه لم يلبث أن اختلف مع النظام الماوي، فتم سجنه، مما يفسر بقاءه مختفياً لسنين طويلة.
في المقابل، أشار تقرير للاستخبارات الخارجية الفرنسية إلى أنّ فيرجيس اشترك سراً في صياغة الدستور الجزائري، سنة 1975، مما يعني أنه كان متخفياً في الجزائر. بينما قال جهاز استخبارات فرنسي آخر، هو “دي إس تي”، أن فيرجيس التحق برفاقه الفلسطينيين في شعبة العمليات الخارجية لـ “الجبهة الشعبية”، وعاش متنقلاً بين قواعدها السرية في ليبيا واليمن والأردن. أما الوسائل الإعلامية التي كانت تلهث وراء كشف “سر أسرار محامي الشيطان”، فقد رجح أغلبها أنّه عاش خلال تلك الفترة هارباً من خطر أو تهديد ما، اضطره لأن يحل ضيفاً على الثورة في كوبا أو في فيتنام أو ربما عاش محمياً من قبل الحزب الشيوعي في مسقط رأسه في جزيرة “رينيون”. مات فيرجيس، وبقي السؤال عالقاً: هل سيُكشف يوماً؟ أم أنه سيُدفن مع صاحبه؟
>إعداد: حسن عربي