التفاعلات الجارية هذه الأيام بشأن تشكيل الحكومة، وما يتسرب من حواليها من معطيات تبشر أحيانا بالانفراج وتكشف أحيانا أخرى عن انغلاقات جديدة، تفرض عدم الاكتفاء بالمتابعات الإخبارية البسيطة أو الترويج لمعطيات مناصرة لهذا الطرف الحزبي أو معادية لذاك، وإنما المرحلة باتت تقتضي إعادة التأكيد من جديد على المقدمات الكبرى المؤسسة لكامل ما نحن بصدده، والتفكير بحجم الوطن ومصلحته.
من المؤكد أن تكوين حكومة لا تحكمه فقط مؤشرات عددية، والعملية ليست مجرد تصفيف أرقام ونسب، ولكن يتعلق الأمر أيضا بمسارات تجسد توجهات البلاد وأهدافها وما يطرح عليها من تحديات داخلية وخارجية، يجب، من دون شك، استحضارها.
لكن في الوقت ذاته، العودة للبدايات تبقى ضرورية كي لا ننسى أن البلاد شهدت انتخابات تشريعية، وهذه الأخيرة أفضت إلى نتائج تمثل إرادة الناس، ويجب عدم القفز أو الالتفاف عليها حرصا على ترسيخ مصداقية الدينامية الديموقراطية التي يشهد بها العالم كله ويعترف بها للمغرب.
نحن اليوم نتواجد في عمق ما يتصل بأسس ومفهوم البناء السياسي لبلادنا، وهذا يشمل ليس فقط المؤسسات والسلط والهياكل والبنيات وفصول الدستور والمنظمات والهيئات، وإنما كذلك العلاقات فيما بينها، والسلوك السياسي العام لمختلف الفاعلين، والثقافة السياسية التي تجري مراكمتها، والوعي والقيم اللذين يتم تكريسهما ضمن كامل هذه المنظومة.
إن السلوك السياسي إذن هو جزء جوهري من البناء السياسي العام للمجتمع، وكذلك العلاقات بين الفاعلين والمؤسسات، لأن ذلك هو ما يدعم البناء نفسه، ويكفل، بذلك، استقرار وتقدم المجتمع.
اليوم، يعتبر غريبا عندنا لما تشتعل الشتائم من كل الجوانب، ونتابع تبادل الاتهامات والسباب بين الفاعلين الحزبيين، ورغم ذلك هم يصرون على المشاركة في الحكومة إلى جانب بعضهم البعض.
إن تشكيل الحكومة أو المشاركة فيها يقتضيان بداية التعاطي باحترام مع مكوناتها المُحتملة، وخصوصا مع رئيسها المعين.
وبغض النظر اليوم عن الأشخاص والأسماء والانتماءات الحزبية، فإن المسؤولية تفرض احترام المكانة الاعتبارية والصلاحيات الدستورية لكل الأطراف، وبالتالي استحضار كون البناء السياسي العام لبلادنا وتقدم مسارنا الديموقراطي يعنيان مجموع المؤسسات والعلائق، وأساسا العمل التكاملي بين بعضها البعض، وذلك ضمن دينامية عامة تسعى لتحقيق أهداف ومصالح البلاد.
لقد قرر المغرب إنجاح رهانه الإفريقي الاستراتيجي، وَقاد جلالة الملك عديد ديناميات على هذا الصعيد أمامها اليوم مواعيد والتزامات يجب كسب رهاناتها.
وإن قضيتنا الوطنية كذلك توجد اليوم أمام تطورات تفرض كثير يقظة واستعداد، والانتظارات الاجتماعية والاقتصادية الداخلية هي بدورها تطرح كثير مهمات ومسؤوليات على الفاعل السياسي، كما أن المخاطر الإقليمية والدولية الأمنية والاستراتيجية تستوجب من جهتها الحزم والانتباه ونجاعة ردود الفعل.
وكل هذه المهمات تجعل من غير المسموح لبلادنا اليوم تضييع الوقت أو التيه في المزايدات السياسوية، وهي أيضا تفرض الارتقاء بالأداء السياسي والحكومي والبرلماني والحزبي ليمتلك كل شروط الفاعلية والنجاعة والتفاعل مع الإيقاعات المتسارعة للتحولات التي يواجهها المغرب، ومع الطموحات التي عبر عنها جلالة الملك بشأن كل الأوراش والمبادرات التي أعلن عنها.
هذا كذلك يعتبر من شروط تقوية البناء السياسي العام لمجتمعنا، وليس الأداء السياسي، على كل حال، نقيضا للفاعلية والنجاعة، وإنما هو شرط له.
وفِي مقابل ما سلف، يبقى القفز على نتائج الانتخابات والدفع لتشكيل حكومة بلا مقومات انسجام ومفتقرة لمركزية موقع رئيس الحكومة المعين ولصلاحياته الدستورية والمنطقية، وجعله مغلولا بفخاخ شلل وضغط، هو الطريق نحو جعل مصداقية المسار الديموقراطي المغربي بلا أي مصداقية في نظر العالم كله، وأيضا جعل السياسة والديموقراطية والانتخابات كلها في الدرجة الصفر من الاحترام وسط المغاربة، ومن ثم تفريخ محاضن الخيبة والتذمر والتشدد حتى وسط الأحزاب وداخل المجتمع.
ومرة أخرى يجدر التذكير على أن وضع الأحزاب، قوة ووحدة وإشعاعا أو ضعفا وترهلا وانشقاقا، ينعكس على البناء السياسي العام، وعلى مستوى الثقة التي لا بد أن تكون راسخة وقوية بين الفاعلين، وعلى صعيد مختلف مؤسسات البلاد.
إن الصيغة التي آلت إليها مشاورات رئيس الحكومة المعين مع الأحزاب، والتي رست على تشكيل تحالف حزبي رباعي، تعتبر الأكثر واقعية، كما أنها تمتلك التفاف الأطراف الأساسية، وكل ما يقدم الآن، عبر التصريحات الصحفية وفِي بلاغات بعض الأحزاب، من تبريرات بغاية توسيعها يبقى غير مقنع، ولا يعدو أن يكون مجرد انغلاقات جديدة ستقود إلى بلوكاج آخر.
البلاد في حاجة لاستكمال مؤسساتها، أي تشكيل الحكومة وتفعيل عمل مجلس النواب، وذلك حتى تتفرغ لمواجهة ما يطرح عليها من تحديات واستحقاقات داخلية وإفريقية وتنموية، ووقف إهدار الفرص و… الوقت.
كل الأطراف مطالبة اليوم أن ترتفع بوعيها وسلوكها إلى ما تقتضيه مصلحة البلاد، وأن تحرص كلها على تقوية مؤسسات البلاد وصيانة مكانتها الاعتبارية والدستورية، وحماية مصداقية وصورة النموذج الديموقراطي المغربي في نظر العالم كله.
وبداية هذه الطريق، يجب أن تكون أولا عبر وقف الاتهامات والشتائم والكلام الطائش، ثم الانكباب على إنجاح الصيغة التوافقية التي رسا عليها الحديث، والتي تقوم على تشكيل الأغلبية من أربعة أحزاب مع ما قد يكون لها من إسناد برلماني يزيد عن عدد نواب هيئاتها.
غير هذا سيكون مؤسفا إطالة المنغلق، وتضييع مزيد من الوقت على بلادنا وشعبنا.