عبد الكريم برشيد بنقصان

كيف قدم عبد الكريم برشيد فنا بروح معاصرة؟.. كيف أمكن لمونودراما «الناس والحجارة» أن تمارس الترحال والهروب.. أن تنقلع من تربتها وتنغرس في أتربة أخرى؟.. كيف يقيض لنص مسرحي أن ينتمي إلى عصرنا ولو أنه كتب منذ أربعة عقود ماضية في ظل ظروف وأوضاع أخرى؟.. كيف لعرض مسرحي معاصر أن يولد من إخفاقات التمثل كما من ضياع الهويات ومحوها؟..
تلك بعض من الأسئلة التي ظلت تلح على بالي وأنا مقبل على قراءة مونودراما «الناس والحجارة» التي صدرت مؤخرا عن إيدسوفت.
تمنحنا البنية المرجعية لمونودراما عبد الكريم برشيد كثافة تأويلية مذهلة، تحتاج فقط إلى إعادة النظر في بعض معطياتها الأسلوبية ومنظوراتها الجمالية بالحذف أو التعديل. كل ذلك طبعا، مع مزيد من التعمق في الموضوعة الأساس للنص الأصلي، التي تدور في اعتقادي حول العزل وليس العزلة. إن لموضوعة «العزل» بعدين أساسيين:
– بُعد المراقبة المتمثل في سلطة الإديولوجيات الشمولية، التي تعمد إلى تشييئ الناس وقولبتهم ومسخهم نسخا جامدة متكررة؛ وفي حالة مقاومتهم – لنلاحظ بأن المقاومة سمة متأصلة في البشر–تعمد إلى عزلهم بين الجدران الميتة لقتل الآدمية فيهم..
– ثانيا بُعد الحجز، إذ أن إلغاء الحواجز والأسوار التي تحول دون التقاء الناس وتعايشهم بعضهم مع بعض أمر ملح لبناء التجربة الإنسانية الكونية. أردنا للعالم في هذه التجربة أن يتراءى باعتباره فضاء مفتوحا ومنفتحا على التلاقي والتعايش، دونما اعتبار لأية جدران أو حجارة أو حدود أو أسوار قد تعزل الآخرين عنا أو تعزلنا عنهم. ما كان يثيرني في عبد الكريم برشيد، هو قدرته الدائمة على طرح الأسئلة المنهجية والجوهرية. أما الحلول التي كان يقترحها لهذه الأسئلة فقد كنا لا نخفي اختلافنا معها أحيانا، وفي أحايين كثيرة كنا نصل إلى عكسها تماما. وهذا شيء مهم ومحسوب لصالح عبد الكريم برشيد، لا لصالحنا، لأنه في النهاية يظل هو الفعل، ونظل نحن رد الفعل.
يحاول برشيد في هذا العمل أن يستشرف تجريبا توجهه بوصلة السعي نحو تحقيق لغة حيوية تجبرنا جميعا منجزين ومتقبلين، على الإبداع الذي يعني بكل بساطة: التلاقي.. متوسلا لتحقيق ذلك بحس تجريبي يشمل كل عناصر الإنتاج: (كلمة / فضاء / حركة / صوت / ضوء / صورة… )، مما يحدد الكفاءة التجريبية للعمل المسرحي ككل. هذا هو سر التجريبية كما يشرحه جيل دولوز Gilles Deleuze قائلا: «ليست التجريبية إطلاقا رد فعل ضد المفاهيم، ولا هي دعوة إلى التجربة المعاشة، إنما تسعى على العكس من ذلك إلى إبداع المفاهيم الأكثر جنونا، والذي لم نره أو نسمع به من قبل.. إلا أنها تعامل المفهوم كموضوع لقاء، وكـ «هنا – الآن».. لا وجود إلا للتجريبي الذي يمكنه أن يقول: المفاهيم هي الأشياء عينها. ولكن الأشياء في حالتها العفوية والمتوحشة وراء (المحمولات الإناسية). أنا أصنع مفاهيمي وأعيد صنعها وأهدمها؛ انطلاقا من أفق متحرك، ومن مركز مزاح دوما عن مركزه، ومن محيط متنقل دوما يكررها ويخالف بينها». (2)
لقد ارتأى الكاتب أن يكون التجريب مصدر طاقة إبداعية متجددة تسعى نحو الشمول والخلق.. تعرف جيدا من أين تبدأ، وعلى ما تقف.. لكنها أبدا لا تدري متى وإلى أين ستنتهي.. لأن ذلك بيد الطرف الآخر: الجمهور تجاوزا. وهنا، سيتحقق ما ندعوه بالجمال التجريبي..

*هناك لاشك ممكنات أخرى للتجريب في هذا النص في شكل فراغات مفقودة بتعبير كلود ريجيClaude Regy .. فراغات واسعة.. حرة.. عارية.. فراغات يتعين على الجمهور بكل فئاته أن يجتهد لملإها حتى يتحقق الالتقاء والتوحد. وعلينا كمبدعين أن نساعده ونحفزه على تحرير طاقاته الإبداعية الكامنة لديه حتى يساهم معنا في هذا التلاقي الذي يهدف إلى الإدهاش الجمالي والإثارة الحسية. لقد كنت في بداياتي الأولى أفضل تسمية الاحتفال على العرض وذلك بتأثير من بيانات عبد الكريم برشيد التي كان لها الفضل في تشكيل متخيل جيل بكامله، والآن أدرك بأنني كنت أقرب إلى حقيقة هذا السحر المسمى مسرحا، والذي لا يرتهن دائما إلا إلى لحظة التلاقي الإنساني: تلاقي المحتفلين / المبدعين والمحتفلين / المشاركين… وإن كان علي الاعتراف بأنني دائما ما كنت أفشل في تحقيق هذا الحفل بشكل مادي.
في مونودراما «الناس والحجارة»، يسعى برشيد نحو مسرح يكون محطة من محطات بحث لا نهائي عن جديد نابض بالحيوية.. مسرح يكون فضاء للتعارف واللقاء والحوار والتعايش، واختبار التجارب لإيجاد استراتيجيات مبتكرة للتعايش الجماعي..
شخصيا، جعلني برشيد أعتقد جازما أن معجزتنا أن نظل مؤمنين ونحن وسط الرماد، بضرورة وأهمية ابتكار فن مستقل تغيب فيه بيروقراطية التراتبية الإدارية، لتحل محلها سلطة الإبداع الجماعي التي تختلف وتتمايز، لكنها تتلاقى حول منظور مبتكر للفن، يرقى عن استعماله الاستهلاكي المتداول. شبيه الفن الذي حنطنا وعلبنا وقتل فينا طاقاتنا. إننا جميعا في حاجة إلى مسرح مذهل.. مدهش.. يحررنا من مكبوتاتنا وإذعاناتنا اليومية، ليحيي فينا قيمنا الإنسانية التي تكاد تنمحي. والتي، كانت تتأسس دائما على قيم الحوار والتلاقي وتبادل الخبرات.. إننا اليوم في أمس الحاجة إلى مثل هذا المسرح الذي يركز على مثل هذه الطقوس الاحتفالية، حتى ولو أعاد فينا بعض سماتنا البدائية التي انمحت فينا بمجرد ما استوينا عموديا. إن المسرح الاستهلاكي السائد اليوم ـ بالقوة ـ في فضائياتنا العربية، قد تسبب ـ لسعيه الساذج وراء جذب الجماهير باسترضاء نزواتها الساذجة ـ في نتيجة عكسية مؤداها: إبعاد الجماهير بمختلف فئاتها عن ارتياد المسارح..
– ولم سنكلف أنفسنا عناء ذلك إن كان ما سيقدمه هذا المسرح باهتا. باردا. ميتا؟.. وكانت الدراما التلفزيونية قادرة على عكسه بشكل أكثر تفوقا من المسرح؟
لقد أفضى هذا المسرح الباهت الذي ـ للأسف ـ انساقت حكوماتنا العربية وراء دعمه إعلاميا بشكل غير مشروط، في لحظات معينة اتسمت بشروط صراع سياسي معروفـ، إلى قتل المؤسسة المسرحية في العالم العربي، فلم تعد تؤدي الدور الحضاري والإنساني المنوط بها. إن المسرح المستقل ـ وأهم ما فيه أنه مشروع معرفي وحضاري مستقل عن كل بيروقراطية ـ قد يتجلى اليوم كملكة من الممكن أن تجعل من مسرحنا طاقة إبداعية قادرة على تحريرنا من صنميتنا وجمودنا.. أن تضفي الحياة على مدننا الجامدة، وأن تحول قاطنيها من ساكنة ميتة لا هم لها سوى التسابق على اكتساح مقاعد المقاهي، إلى مواطنين فاعلين في تنمية مدنهم. وأي مواطنة حقة بلا احتفاليات: المسارح؛ دور السينما؛ المكتبات؛ المهرجانات؛ عروض الشارع؛ فنون الوقعة… وأهم من هذا وذاك، أن هذه الملكة قد تساعدنا بالتأكيد على تطوير تجاربنا في محاورتنا للآخرين.. قد تزيح عنا بعضا من عصبياتنا القاتلة.. قد تلغي مشروع تحويلنا إلى إرهابيين، نثير الرعب والجزع في أنفسنا قبل أن نثيرهما في غيرنا..
إننا في أمس الحاجة إلى هذا المسرح الحر والمستقل الذي تجسده بامتياز مونودراما «الناس والحجارة»، مادمنا في قميص الإنسان!!.. هذا أكيد…
هامش

1 – قدمت هذه الورقة في حفل توقيع مسرحية «الناس والحجارة» لعبد الكريم برشيج في إطار الفعاليات الثقافية الموازية للدورة 18 للمهرجان الوطني للمسرح (تطوان بتاريخ 1 دجنبر 2016)
2 – جيل دولوز (الاختلاف والتكرار) ترجمة: د. وفاء شعبان. المنظمة العربية للترجمة، بيروت- أبريل 2009. ص:41

بقلم: د. يوسف الريحاني

Related posts

Top