عندما ودع الأستاذ عزيز بلال أسرته الصغيرة المكونة من زوجته عفيفة وابنه الصغير يوسف، لم تكن الزوجة الشابة تظن أنها ستستقبله عائدا من آخر رحلاته خارج المغرب في كفن، وأنه لن يكتب لها مرة أخرى معانقته، إذ عاد الرجل جثمانا في تابوت مشمع، عاد من الولايات المتحدة الأمريكية، التي أصيب بها في حريق، وشمل الحريق فقط جناحا من طابق فندق “هيلتون” بشيكاغو، الفندق الذي كان ينزل به عزيز بلال.
لقد أرخ يوم 23 ماي من عام 1982 لموت سيظل غامضا رغم مرور 38 سنة من وقوعه، خصوصا أن من سافروا معه ورافقوه ونزلوا معه في نفس الفندق، من أعضاء الوفد المغربي، عادوا جميعا إلى وطنهم وأهلهم سالمين.
********
بعد أيام من الحادث المميت، ستصل طائرة الخطوط الجوية الملكية المغربية القادمة من مطار أوهير الدولي المصنف في المرتبة الثانية عالميا من ناحية حركة النقل الجوي، إلى المطار الأول في المغرب، مطار محمد الخامس – الدار البيضاء، ومن ضمن منقولاتها تابوت به رجل ميت، لا نقدر درجة تشويه جثمان صاحبه المحروق، إذ لم يتم فتح الصندوق.
تم تشييع جنازة المفكر اقتصادي والباحث الأكاديمي المغربي الكبير من منزله في شارع الجيش الملكي بالدار البيضاء، كان الأستاذ عزيز بلال يقطن بشقة متواضعة تقع بالطابق الثامن من عمارة عالية، توجد تحتها مكاتب شركة الخطوط الجوية الفرنسية “إير فرانس”.
وأغلقت حركة السير والمرور بالشارع، في المقطع الرابط ما بين شركة “إير فرانس” وسينما الريف وفندق روايال المنصور.
وبما أن مكتب الجريدة المحلية “الدار البيضاء” كان على مسافة خطوات وقريبا بنفس الشارع، فقد تابعت مراسيم تشييع الزعيم اليساري، برفقة الزميل عبد الله العمراني (مدير الجريدة)، والزميل حسن العلوي (فريموس). قمنا بتغطية الحدث الجلل، وخصصنا له مساحة مهمة تليق به، تضمنت صفحة كاملة بروبورتاج مصور لمراسيم التشييع والدفن، بعدسة المصور المرحوم عبد السلام الزهوي.
ما أتذكره أننا نشرنا نبذة مختصرة عن الفقيد الوطني الكبير، جاء فيها أن الدكتور عزيز بلال شارك في إصدار مؤلف صدر بفرنسا مع الشهيد المهدي بنبركة وآخرين، وجاء من يرهبنا بكوننا ربما نكون بصدد ارتكاب خطأ سياسي جسيم، حين وصفنا المهدي بنبركة بـ “الشهيد”. لم يكن النظام قد طبع بعد مع صاحب “الاختيار الثوري”، وكان التلفزيون يعمد إلى قص المشاهد التي يظهر فيها بنبركة لما كان إلى جانب محمد الخامس والحسن الثاني. ولم يتم هذا التطبيع إلا سنة 1995، عندما أمر الحسن الثاني وزيره القوي إدريس البصري بترؤس تدشين شارع المهدي بنبركة في الرباط، بحضور عبد الرحمان اليوسفي وعلي يعته ومحمد بنسعيد أيت يدر…
********
ببوابة مقبرة الشهداء تقدمت موكب التشييع امرأة تحاول التماسك والتغلب على حزنها، كانت هي الطبيبة عفيفة الهلالي، أرملة الفقيد، ولم تكن مرتدية اللباس التقليدي الأبيض الذي تلبسه الأرامل في مثل هذه المناسبة، مشت السيدة بين قادة الأحزاب الوطنية وممثلي السلطات الرسمية، تحضن بين يديها صورة كبيرة مؤطرة بالزجاج للراحل عزيز بلال. وهو أمر غير مألوف وغير مسبوق، إذ وفق التقاليد الدينية عندنا يمنع أن تتبع النساء الجنائز، بالأحرى ترؤسها.
قام بالتأبين الأمين العام للحزب وألقى كلمة مؤثرة، كان علي يعته في حالة تأثر شديدة، لم أشاهده عليها إلا يوم تشييع ابنه نادر. لقد غاب فجأة المنظر الإيديولوجي للحزب، واختفى إلى الأبد واحد من أهم دعامات وقادة حزب التقدم والاشتراكية، مفكر عضوي ربط بين النضال الفكري والممارسة الميدانية، مناضل تميز بالتواضع فأحبه الناس، وكان قدوة للشباب، خاصة من طلابه بالجامعة.
لا يختلف أحد أن وفاة الدكتور عزيز بلال أتت مفاجئة واكتنفها غموض كبير، إذ في يوم صادف 23 ماي 1982 توفي بشيكاغو في حريق بفندق “هيلتون”، عندما كان يحضر لتوقيع اتفاقية توأمة بين المدينة الأمريكية وبلدية عين الدياب بالدار البيضاء، التي كان مستشارا بها ونائبا لرئيسها الاتحادي الراحل مصطفى القرشاوي.
عندما تقررت مشاركة مسؤول من بلدية عين الدياب، تم تعيين الاتحادي صالح سعد الله، وهو أيضا من نواب الرئيس، لكن الملك الحسن الثاني اختار أن يذهب بدله الدكتور عزيز بلال. لما تم إخبار المفكر اعتذر بسبب ارتباطاته الحزبية والعائلية، وأيضا العملية، فامتحانات نهاية العام الدراسي الجامعي لم تبق أمامها سوى أسابيع قليلة. لكن اقتراح الملك كان أمرا وقرارا…
كانت الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكة والاتحاد السوفييتي لا زالت مشتعلة، وكانت السفارات الأمريكية لا تمنح بسهولة تأشيرات سفر لبلاد العم سام للشيوعيين ولمن يتعاطفون مع الشيوعية، كان ملف الحصول على التأشيرة يتضمن سؤالا حول صلة الراغب فيها، بالشيوعية. لكن تأشيرة عزيز بلال القائد الشيوعي كانت جاهزة تنتظره من غير طلب، وتنتظر جواز سفره الأخضر.
********
حظيت بالاستماع إلى الدكتور عزيز بلال مرات وهو يحاضر في الدار البيضاء، لوحده أو في ندوات، مثل التي جمعته بالاتحادي فتح الله ولعلو والاستقلالي عبد الحميد عواد في قاعة عبد الصمد الكنفاوي بحديقة الجامعة العربية بالدار البيضاء في السبعينيات.
ولأن عزيز بلال المفكر والمناضل السياسي الصلب والنقابي الفذ، آمن مع حزبه بما سمي بـ “المسلسل الديمقراطي”، فقد دعا إلى الانخراط في التجربة من أجل تعميقها، هكذا في الانتخابات البلدية لاقتراع 12 نوفمبر 1976، تقدم مرشحا عن حزب التقدم والاشتراكية لنيل مقعد ببلدية عين الدياب، ونزل مع الشبيبة للقيام بالحملة الانتخابية، ولما وصل إلى ساحة مرس السلطان، التي كانت جزءا من الدائرة التي ترشح بها، لم يتردد في دخول مقاهي وحانات الساحة، “لاكونكورد” و”مدام غيران” و”مون مارتر”، لمحاورة الزبائن، كنت بحانة “مرس السلطان” لما دخل عزيز بلال، فأشاع فرحة كبرى عبر عنها رواد المقهى، وتم تبادل الأنخاب بين الجميع. وفاز عزيز بلال بمقعد خوله منصب نيابة الرئاسة، إذ حصل اليسار على أغلبية لقيادة البلدية.
********
عندما بلغ الراحل عزيز بلال الثامنة عشرة من عمره وجد نفسه عضوا بالحزب الشيوعي المغربي، وبعد منع الحزب ظل ملتزما بالسرية، وتولى قيادة فرع الرباط لما اتخذ الحزب تسمية “حزب التحرر والاشتراكية” قبل أن يمنع، وبعد رفع الحظر كان ضمن قيادة “حزب التقدم والاشتراكية” عضوا فعالا بالمكتب السياسي. ورحل في عنفوان شبابه دون العقد الخمسين.
********
فقد المغرب وحزب التقدم والاشتراكية والنقابة الوطنية للتعليم العالي والجمعية المغربية للاقتصاديين، برحيل عزيز بلال، رمزا وطنيا، ومناضلا ثوريا، وقائدا عماليا، وباحثا مفكرا لا يضاهى، صعب تعويضه، لا زالت أصداء نضاله وفكره تتردد بين المناضلين ولدى الطلبة الذين عاشوا زمنه في الجامعة.
كان الأمل بأن يحظى عزيز بلال، وغيره من الشخصيات الكبيرة التي غادرتنا، بما يليق بمكانتهم، أن تصدر عنهم كتب وتعد أفلام وثائقية، تتناول سيرتهم النضالية، والجوانب المتعددة من شخصياتهم الاستثنائية ومزاياهم الإنسانية والعملية ومنهج تفكيرهم، وإسهاماتهم الوطنية والكفاحية والنقابية والفكرية، والآمال التي حملوها خلال حياتهم.
********
تحضرني الآن بالمناسبة أسماء أصدقاء وزملاء ورفاق أعزاء عاشرتهم ورافقتهم وجالستهم وحاورتهم من مناضلي حزب التقدم والاشتراكية، مثل عبد المجيد الدويب وعمر محيي الدين ومصطفى اليزناسني ومحمد أنيق وسيمون ليفي وميمون حبريش وشعيب الريفي وعبد الله العياشي ومحمد الغربي ومحمد فرحات، ولطيفة مكرامي.. السلام الأبدي لأرواحهم العالية.
> بقلم: عبد الرحيم التوراني