مساس بمبدإ الانسجام والتعاون والتكامل المؤسساتي
تستضيف مدينة أكادير، يومي 20 و21 دجنبر الجاري، المناظرة الوطنية الأولى للجهوية المتقدمة، التي تنظمها، تحت الرعاية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس، وزارة الداخلية بشراكة مع “جمعية جهات المغرب”. وتتوزع ورشات المناظرة على ست محاور تهم الفوارق المجالية ورهان التنافسية وجاذبية الاستثمار، بجانب الحكامة المالية وإشكالية التعاقد في ظل اللاتمركز الإداري، إضافة إلى اختصاصات الجهة والديمقراطية التشاركية والإدارة الجهوية.
ومن الأهداف المنتظرة من هذه المناظرة تقاسم عناصر التشخيص المتعلق بالحصيلة الإجمالية لتنزيل الجهوية المتقدمة، وتحديد المداخل الأساسية لتحقيق نقلة نوعية في مسلسل تنزيل الجهوية المتقدمة، والتنزيل الأمثل للميثاق الوطني للاتمركز الإداري من أجل تفعيل أنجع للجهوية المتقدمة. كما أنه من المنتظر أن تستقبل المناظرة حوالي 1400 مشارك، من بينهم منتخبون وممثلو القطاعات الوزارية والمؤسسات الدستورية، بجانب ممثلي مؤسسات عمومية وجامعيين وخبراء وطنيين ودوليين ، إضافة إلى فعاليات المجتمع المدني.
لكن المثير للانتباه هو غياب المؤسسة التشريعية، ولو حتى رمزيا من خلال الكلمات الافتتاحية للمناظرة، وتنظيم المناظرة الوطنية الأولى للجهوية المتقدمة دون إشراك البرلمان رسميا في التنظيم، وتحديدا مجلس المستشارين، الذي يجسد الامتداد الترابي للجماعات الترابية.
فمجلس المستشارين أضحى الشريك الطبيعي للمسؤولين والمنتخبين المحليين الذين يديرون هذه الجماعات. فلمجلس المستشارين إذن دور في الحفاظ على التماسك العام لهذه المبادرات الترابية. ويوفر هذا الدور من خلال النقاش العام والأفكار الرائجة داخل قبة المجلس ومن خلال العمل البرلماني، سواء التشريعي منه أو في إطار الأنشطة المرتبطة بمراقبة العمل الحكومي، تفعيلا لدوره المركزي باعتباره الامتداد المؤسساتي للجهات، مجاليا، مهنيا، اجتماعيا، واقتصاديا. وباعتباره الحاضن الأساسي للأسئلة المستجدة في الساحة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية على مستوى الجماعات الترابية والتنمية الجهوية، يلعب مجلس المستشارين دورا محوريا في تمثيلية الجماعات الترابية.
فهذه البنية لديها ترجمتها الدستورية بحكم أن مجلس المستشارين، الذي يستمد أعضاؤه نيابتهم من الأمة، وفقا لمقتضيات الفصل 60 وكذلك الفصل 63 الذي يحيل على القانون التنظيمي رقم 28.11، ومن الفصل الأول من الدستور الذي ينص على أن التنظيم الترابي للمملكة تنظيم لا مركزي، يقوم على الجهوية المتقدمة، بجانب التركيز أساسا على وظيفة ضمان تمثيل الجماعات الترابية، وبنسبة أقل الغرف المهنية والمنظمات المهنية للمشغلين وممثلي المأجورين، حيث يتكون ثلاثة أخماس (3/5) مجلس المستشارين من أعضاء يمثلون الجماعات الترابية، (الفصل 63 من الدستور)، فهذا التمثيل يستند في المقام الأول إلى النظام الانتخابي لأعضاء مجلس المستشارين المنتخبين من قبل الهيئة الناخبة التي تتكون أساسا من ممثلي الجماعات الترابية على صعيد جهات المملكة: فأعضاء مجلس المستشارين هم أساسا منتخبو المنتخبين، collège des grands électeurs وخاصة منهم القائمين على إدارة الشأن المحلي.
كما أن مجلس المستشارين يحظى بأولوية إحالة مشاريع القوانين المتعلقة بالجماعات الترابية والتنمية المحلية، حيث ينص الفصل 78 من الدستور على أن مشاريع القوانين المتعلقة أساسا بالجماعات الترابية وبالتنمية الجهوية، وبالقضايا الاجتماعية، تودع بالأسبقية لدى مكتب مجلس المستشارين، وهي بذلك تدرج مبدأ التفريع principe de subsidiarité كمبدإ دستوري من شأنه أن يلعب دورا أساسيا في تنظيم العلاقة بين الدولة والجهات، ويعتمد أساسا على مفاهيم التضامن والوحدة والتناسب، وهو كذلك مبدأ قانوني جديد على الثقافة القانونية، يحيل على الملاءمة، أي توزيع الاختصاصات على قاعدة المسؤولية، ويفتح في ذات الوقت المجال للجماعات الترابية لكي تحظى بصلاحية اتخاذ القرارات بخصوص جميع الصلاحيات التي يتعين ممارستها على مستواها، ومن المتوقع في نهاية المطاف أن يزيد من الاستقلال المالي للجماعات الترابية.
ومن هذا المنطلق، نعتبر أن هذا النوع من التصرف، المتمثل في عدم إشراك مجلس المستشارين كطرف رسمي في التنظيم، يدخل في إطار إفراغ كل هذه المبادئ الدستورية المرتبطة أساسا بمبدإ الحكامة من محتواها، وتبعدنا عن الانسجام المؤسساتي الضروري لضمان التكامل بين المؤسسات، وهو عنصر أساسي يفضي إلى إشراك كل الفاعلين المحوريين، وضمنهم مجلس المستشارين، الذي يعتبر بحق رفيق الجماعات الترابية بامتياز.
ومن هذا المنطلق، يعتبر مجلس المستشارين هيئة كاملة، ويؤدي دوره التشريعي في جميع مجالات الحياة السياسية، من خلال مناقشة القوانين المحالة على المجلس، أو من خلال إحالة بعض منها في مناسبات عدة على المجلس الدستوري للبت في مبادئ أساسية كالتدبير الحر للجماعات الترابية وتنظيم التعاضد والتعاون، ويحق له اقتراح أفكار للدراسة والفحص في مجال الحكامة الترابية الرشيدة: التدبيرية منها والتنموية والتشاركية بجانب البحث عن سبل لتحسين الموارد البشرية والمالية للجماعات الترابية، أو البت في التقسيم الترابي، أو النظر في نظام المجالس التداولية المنتخبة وطبيعة ونطاق إدارة وتدبير المجال، واستقلالية قرار الإدارة الترابية المحلية، ودراسة مستوى الموارد الضريبية والتي يؤدي خفضها إلى تقويض الاستقلال المالي المحلي، ومساءلة السلطة التنفيذية حول أداء السياسات العمومية الموجهة للجماعات الترابية.
ومن أدوار مجلس المستشارين الرئيسية كذلك اقتراح مشاريع قوانين تهم التنظيم اللامركزي للدولة وتحسين الحكامة المحلية… إلخ. وأن عدم إشراك هذه المؤسسة التشريعية في تنظيم هذه المناظرة الوطنية للجهوية المتقدمة، انتقاص من هذه المهام.
ومن المفروض أن تتمحور المناظرة الوطنية حول كل هذه المواضيع والإشكاليات بالدراسة والتقييم واستنتاج الخلاصات والتوصيات، وكانت ستجد في أعمال مجلس المستشارين المادة الأولية لتنشيط أشغالها. وليس من المنطقي تجاهل ذلك، والعمل بشكل انفرادي وبعقلية إقصائية، تم تجاوزها اليوم.
وتفعيلا لدوره، سعى مجلس المستشارين إلى تنظيم عدة لقاءات وندوات مع عدد من الفاعلين المؤسساتيين، وفي مقدمتهم رؤساء المجالس الجهوية، وجمعيتهم، بجانب كل الفاعلين المنظمين في إطار جمعيات المجتمع المدني بقصد تعزيز ثقافة الحوار عبر الاتصال المباشر مع الفاعلين الترابيين والوطنيين من خلال تدعيم اللقاءات المختلفة التي ينظمها أو يشارك في تنظيمها بطريقة مباشرة، حيث نظم لقاءات حول الديمقراطية الترابية بهدف الحصول على مواقف المسؤولين المحليين وسبر أغوار انتظاراتهم واقتراحاتهم بشأن مستقبل التراب الوطني، ومن ضمنها ثلاث ملتقيات برلمانية للجهات، تمخضت عنها توصيات هامة، بجانب أيام دراسية، وندوات سياسية عديدة، إضافة إلى خلق مجموعات موضوعاتية مكلفة بالتحضير للجلسات السنوية لتقييم السياسات العمومية حول موضوع: الحكامة الترابية ومتطلبات التنمية الجهوية..
وبالرجوع إلى التقارير التركيبية لأشغال الملتقيات البرلمانية الثلاثة للجهات ولوثائق أرضية العمل من أجل جهات ضامنة لالتقائية السياسات العمومية الصادرة عن الندوة التأسيسية للملتقى المذكور، سيتأكد مدى جدية وفعالية تنظيم مثل هاته اللقاءات التواصلية وضمان الانسجام المؤسساتي بين مجلس المستشارين ومختلف المؤسسات العاملة في مجال الحكامة الترابية.
وبالتالي فإن ربط موضوع الحكامة الترابية بالشأن الجهوي لم يأت من فراغ، بل يحمل في طياته حمولات دلالية قوية تجعل من الحكامة الترابية كمفهوم جديد لتدبير الشأن العام المحلي أحد المحاور ذات الأولوية، بما يوفره من أدوات ومعايير حديثة للتدبير السليم والترشيد الجيد للموارد. ونخشى أن يساهم هذا الإغفال في إفراغ مبدإ الحكامة والتشارك… من محتواه.
وإن الإخلال بالنهج التشاركي الذي كان من المفروض أن يرتكز على تعبئة الموارد وتثمينها، وأن يولي اهتماما كبيرا للمواطنين والمنتخبين والفاعلين الاقتصاديين والسياسيين على المستوى الترابي، والتقصير بعدم إشراك مجلس المستشارين رسميا كمؤسسة برلمانية توجد في قمة هرم البنيان الترابي للمملكة، داخل الدولة الموحدة، في تنظيم هذا الحدث الهام، كل ذلك ينم عن قصور تواصلي حاد، وجب لفت الانتباه إليه.
عبد اللطيف أعمو / مستشار برلماني