عن منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة صدر للباحث والناقد الدكتور خالد أمين كتاب جديد موسوم بـ “المسرح والهويات الهاربة.. رقص على حد السيف”؛ وهو إصدار هام يعد امتدادا لمشروع نقدي وفكري وتنظيري حاول من خلاله الباحث مداهمة مفهوم الفرجة ومساءلة بنياتها الأنتروبولوجية، وتفكيك تمظهراتها السوسيو – ثقافية، ومعاقرة رهاناتها التفاعلية والتواصلية وسيرورتها البيثقافية العابرة للحدود والهويات… شاهرا أسئلته المسننة التي تأبى إلا أن تستوطن خطوط التماس بين جمارك الثقافات والحضارات.. مصرا على الرقص على الخطوط الممغنطة والملتهبة.. والتسلل إلى مناطق الاتصال والانفصال.. والهجرة إلى تخوم المساحات البينية التي تتغذى من الاحتكاك والتلاقح الثقافي.. محاولا الإمساك بتلابيب الهويات الهاربة.. والكشف عن رهانات “الهجنة” الثقافية.. ومداهمة أعطاب “المثاقفة” في محك التفكير العابر للحدود.. وصولا إلى ما اصطلح عليه بـ “تناسج ثقافات الفرجة”.
الفرجة ورهانات الهجنة
الفرجة فعل حي وحيوي تقدح شرارته في نقطة ما وفضاء ما وزمان ما. ليشتعل وهجها من خلال هذا الفعل الخلاق ورد الفعل المتفاعل والمتواشج بين صانع الفرجة والمتفرج. هكذا تنبعث روح الفرجة المشعة من رحم هذا التلاقي والتلاحم والتفاعل البيني الذي ينسجه الطرفان معا. وهو ما تطلق عليه إيريكا فيشر ليشته “الحلقة المرتدة لتبادل الأثر”، هذا الأثر التفاعلي والتواصلي والتشاركي هو أيضا “طريقة يعي بها الناس ثقافتهم، وفي الوقت ذاته هي وسيلة الإثنوغرافي لإنتاج وعي معين حول الثقافة ذاتها.
إن مفعول الفرجة له قابلية وقدرة على احتواء قضايا متعددة وشائكة من قبيل السلطة والتاريخ والأصالة والتناص والذاكرة والمقدس والوجدان… كما يمكن عد الفرجة “نبعا لانبعاث الثقافة ووسيطا يعكس الثقافة”(1)، لهذا كان لابد للمباحث الأنتروبولوجية والدراسات النقدية الحداثية والمابعد حداثية أن تتجاوز المفهوم الأرسطي للفرجة كمحاكاة لشعرية النص الدرامي من خلال إعادة قراءتها كسيرورة شديدة الخصوبة والتعقيد والتركيب.. وحقل مثخن بالتداول التفاعلي والتلاقح البيثقافي ومجال عابر للحدود والهويات والثقافات.
من هذا المنطلق لا يكف د. خالد أمين عن مداهمة ومساءلة مفهوم الفرجة وتفكيك ثرائها الدلالي ورفع الحصانة عن أصالتها الملتبسة واختراق مساحاتها المبتورة واجتياح فضاءاتها المغتصبة وحدودها المسيجة.. لكون الفرجة تستوعب المسرح والتمسرح وفنون الأداء وكل التظاهرات الاحتفالية والاحتجاجية.. وتتأبى على الانكفاء داخل قمقم الأصالة الخالصة والنقية باعتبارها “تناسج مضمر لثقافات فرجوية مختلفة يصعب فرزها جراء انصهار مكوناتها لتعطينا في نهاية المطاف شكلا فرجويا هجينا سوق على أنه الأصل الخالص”(2). هذا الأصل الخالص هو ما سقط في حبائله بعض دعاة التغريب الذين يعتبرون المسرح فنا غربيا يمتلك صكوك الملكية الخاصة.. كما سقط في شركه بعض دعاة تأصيل الفرجة المسرحية في التربة الثقافية المحلية كرد فعل على الهيمنة والاستيلاب الغربي وفلكلرة الموروث الفرجوي المحلي ما زج بهم في “مأزق الجوهرانية المطلقة كإحدى المقاربات التي لجأ إليها المسرح المغربي في تعاطيه مع إشكالية التأصيل”(3). إلا أن سيرورة التعاطي الفرجوي مع موروثنا من منظور حداثي أصيل، كما يذهب إلى ذلك الدكتور حسن المنيعي، “قد دفعت بمجموعة من المسرحيين المغاربة إلى بنينة جديدة وشاملة للتراث الشعبي الأدبي الغني. ومن الأكيد أن فاعلية هذه البنينة قد أدت إلى خلخلة الممارسة التقليدية للمسرح وإعادة النظر في مفهوم الفرجة”(4) من خلال رؤية “ثالثة” تراهن على ممارسة حداثتها التجريبية داخل مساحات “البينية” التي تتأرجح بين الذات والآخر.. الهوية والغيرية.. كما هو الشأن بالنسبة لتجربة الطيب الصديقي والطيب لعلج وعبد الكريم برشيد وعز الدين المدني وعبد القادر علولة… وغيرهم من رواد المسرح المغاربي والعربي الذين استلهموا فنون الحلقة والحكواتي والراوي والقوال الشعبي وكل الأشكال الاحتفالية والفرجوية التراثية، مستفيدين من تقنيات المسرح الغربي ومستلهمين بعض تجاربه الحداثية اللاأرسطية (خصوصا ملحمية بريشت)، ما أدى إلى إفراز هجنة مسرحية خلخلت البنية الصلبة والسائدة للمسرح الغربي، كما هو الحال بالنسبة للحلقة التي اخترقت بكل حمولتها الفرجوية الأصيلة تقنيات الركح الغربي وعلبه المغلقة. وهو ما عمل الباحث على تفكيكه من خلال قراءته التطبيقية لأهم عروض الهجنة المسرحية التي وقعها بعض الرواد المغاربيين كالطيب الصديقي من خلال منجزيه “سيدي عبد الرحمان المجذوب” و”مقامات بديع الزمان الهمداني”، والمخرج الجزائري عبد القادر علولة الذي اتخذ من الحلقة حقلا خصبا لفرجاته دونما السقوط في الاستلابين الغربي والتراثي. إضافة إلى تجربة المخرج المسرحي عبد الإله النمروشي الذي حاول من خلال عمله المسرحي “حروف الزين” الجمع ما بين طقوس وإيقاعات “عبيدات الرمى” و”كوميديا ديلارطي”. غير أن الباحث ووفاء لمنظوره النقدي المسنن ولمنهجه التفكيكي الحاد الزوايا الذي لا يطمئن لليقيني والثابت والمغلف والمحنط، سيقوم بمراجعة سيرورة الهجنة المسرحية مؤكدا بأن “المطلوب الآن هو تجاوز وضعية الهجنة واستثمار تراكمات وخبرات الجسد الفرجوي المغربي من منظور التفكير العابر للحدود, وهو تفكير ينفلت من قبضة مركزية الغرب بنفس درجة انفلاته عن مركزية الشرق بداخلنا “(5) .
أعطاب المثاقفة
عند تناوله لإشكالية “مسرح المثاقفة” يفجر د. خالد أمين العديد من الأسئلة الجوهرية التي تستدعي الوقوف عندها بكثير من التأمل الإبستيمي. حيث يؤشر الباحث على أن التثاقف هو تفاعل وتلاقح وحوار ثقافي وحضاري بين الأنا والآخر دونما هيمنة أو ابتلاع هذا الآخر للذات المتفاعلة معه. غير أن تمركز البنية المسرحية الغربية المتشبعة بقيم ثقافية استعلائية مهيمنة مستمدة من مرجعيتها الاستعمارية (المادية واللامادية) فجر تدافعا هوياتيا لدى المبدعين والباحثين المنتمين لكلتا الضفتين (الغرب والشرق) وهو ما أدى إلى اندلاع “حرب مسرح المثاقفة” التي أثارت النقع وفجرت إشكالية حضور الآخر في المسرح المغربي والعربي.. ما دفع بالبعض إلى التدحرج شاقوليا والسقوط في شرك كهنوت الهوية المقدسة والاختلاف المتوحش، غير أن “الحقيقة التي لا مراء فيها والتي يجب أن يعيها التيار الحداثي والتيار المحافظ معا أثناء تدافعهما وتجاذبهما بصياغة خطاب مسرحي عربي / مغربي هي أن المسرح المغربي واحد ومتعدد، متأرجح بين الهوية والاختلاف، الأنا والآخر”(6) إلا أن هذا الآخر (الغرب) سيلجأ بدوره لآخره.. من خلال اغترافه من معين الثقافات الشرقية لإسعاف وتطعيم تجاربه المسرحية الحداثية بترياق يجدد جفاف الروح التجريبية المنغلقة للمسرح الغربي كما هو الحال بالنسبة لأرطو وبريشت وكروتوفسكي وماييرهولد ويوجينيو باربا وأريان منوشكين وروبرت ويلسون وبيتر بروك وتيم سابل… الذين نهلوا من الينبوع الروحي والرمزي للفلسفات والطقوس الفرجوية الشرق أسيوية. غير أن هذا الاستلهام الغربي لثقافة وفرجات الآخر غالبا ما كان يتحول إلى صراعات استعراضية مفرغة من محتواها الرمزي والروحي والدلالي ومجتثة من مرجعيتها الشديدة الثراء والخصوبة كما هو الشأن بالنسبة لمسرحية “مهابهاراتا” التي استمدها بيتر بروك من الملحمة الهندية الشهيرة. حيث استحالت المثاقفة الفرجوية هنا إلى نوع من المتحفة الشكلانية والفلكلرة التغريبية للفرجات الشرقية الموجهة بالأساس للمهرجانات الأوروبية التجريبية التي يحتفي نقادها وجمهورها بكل ما هو مختلف ومدهش وغرائبي لكي “يكرس بهذا الصنيع هيمنة النموذج المسرحي الغربي من خلال الاحتفاء بإنجازاته المبنية أساسا على تفاعله مع آخره. فالقليل منا من يبحث في الأصول الهندية لمهابهاراتا فيما يركز الكل على إنجاز بتر بروك”(7).
حضور فرجات وثقافات الآخر في ضفيرة المسرح الأوروبي الحديث غيبته أيضا أغلب الأبحاث والدراسات الأكاديمية الغربية ما يستدعي، حسب الباحث، إعادة كتابة تاريخ المسرح العالمي بحبر ديمقراطي يستحضر دور ثقافات الآخر وأثرها في إغناء وإثراء المسرح الغربي. بل ويستدعي الأمر أيضا إعادة كتابة تاريخ الفكر والفلسفة الأوروبية اللذين يحتاجان لنفس الخلخلة. وهنا أستحضر على سبيل المثال لا الحصر الفيلسوف مارتن هايدغر الذي نهل بدوره من الفلسفة الشرق أسيوية خصوصا الفلسفة الطاوية لشوانغ تسو لكنه انتهى بـ “الشك في شأن إمكان الانخراط في حوار بين الشرق والغرب ما دام نمط التفكير الأوروبي محتفظا بدوره في الهيمنة الكوكبية”(8). وهو الأمر الذي نخر البنية العميقة لمفهوم المثاقفة وقذف بها إلى أتون الآلة الجهنمية للثقافة الغربية التي لم تستطع التخلص أو الخلاص من مرجعيتها الكلونيالية المهيمنة.
التناسج الثقافي
مآزق المثاقفة ومنظوماتها المتمركزة دفعت بخالد أمين إلى الاتجاه نحو الحفر في مفهوم “التناسج الثقافي” معتبرا أن “مسرح المثاقفة يشكل عقبة إبستيمولوجية أمام التطور المتسارع الذي يقع في المشهد المسرحي على المستوى الكوني جراء سيرورات التلقي المنتج. هكذا يمكن اعتبار مشروع التناسج مشروعا مراجعاتيا منفتحا على أصوات العالم، إنه أفق مغاير يسعى إلى إعادة المعنى للهوامش المحايثة”(9) كما يسعى للقبض على الهويات الهاربة وتذويب الحدود والمسافات وصهر التبادلات الرمزية التي تكرسها سيرورات التناسج بين الثقافات دون إلغاء لفضيلة الاختلاف. من هذا المنطلق لم يكتف الباحث بتطعيم المفهوم الألماني الذي اقترحته الباحثة الألمانية إريكا لشتيه فيشر بل قام بتفكيكه وتوطينه وتبيئته وتفجير أسئلته.. ناحتا اصطلاحه ومفهومه ودلالاته التفاعلية وبنيته التواصلية وتمفصلاته الثقافية ورهاناته البينية حيث “يختلف مفهوم التناسج كما نتصوره من موقعنا نحن في الضفة الجنوبية للمتوسط عن تصور بعض زملائنا في الضفة الشمالية.. وهذا تحديدا ما يجعله أفقا رحبا للتأمل والبحث في مختلف التفاعلات بين ثقافات مسرحية مختلفة، حيث يصعب عزل عناصر من ثقافة ما عن أخرى”(10). هكذا سينحت خالد أمين مفهوم التناسج انطلاقا من الهنا والآن حيث سيستقي اصطلاحه من النسج والنسيج و”المنسوج” المغربي الأصيل الذي ينضفر ويتآلف ويتشكل من الضفيرة المتشابكة والمتداخلة.. بنفس الدرجة التي تتضافر بها مناهجه النقدية التي تتوسل بآليات النقد الثقافي والدراسات ما بعد الكولونيالية والأنتروبوجية الثقافية وتفكيكية دريدا والنقد المزدوج لعبد الكبير الخطيبي؛ هذا المفكر المغربي الذي تسلح بمعول نقدي مزدوج الضربات بحيث لا يتوانى عن زعزعة وخلخلة مركزية الفكر الغربي وتفكيك بنية الموروث العربي الإسلامي على حد سواء، باعتبارهما سلطتين نافذتين ومتجذرتين في وعينا ولا وعينا الجمعي. لهذا “يحدد خالد أمين استعماله للنقد المزدوج بوصفه آلية للمساءلة من شأنها تعطيل كل التعاريف الثنائية من قبيل الذات / الآخر، الشرق/الغرب ووسيلة لإعادة التفكير في الهوية والاختلاف من دون اللجوء إلى المطلقات الماهوية والمذاهب. وبالتالي يصف أمين نوعا من النظرية التي يمكن تطويرها داخل مركز البحث تناسج ثقافات الفرجة”(11) هذا ما صرحت به وما أكدته الباحثة الألمانية المرموقة إريكا فيشر ليتشه بشأن اختلاف / خصوصية المشروع النقدي الهام لخالد أمين.. لهذا فأية قراءة لهذا المشروع لا تستحضر هذا الاختلاف / الخصوصية قد تنزلق في اعتقادي نحو منحدر إيديولوجي مغرض.
إن كتاب “المسرح والهويات الهاربة.. رقص على حد السيف” هو تتويج للمشروع النقدي والفكري والتنظيري الهام الذي يموقع الدكتور خالد أمين كأبرز منظري الفرجة في العالم العربي وهو ما يؤشر عليه الباحث ستيفن باربر حين يؤكد “أن فهم خالد أمين العميق لمشروع التناسج وإمكانياته، بالإضافة إلى معرفته الواسعة بثقافات الفرجة في شمال إفريقيا والعديد من نظيراتها العالمية الأخرى، قد جعلت منه دون منازع الباحث الأول والأكثر جدارة لتطوير المشروع في قابل الأيام(12).
* كاتب ومخرج مسرحي
المراجع:
• د. خالد أمين: المسرح والهويات الهاربة.. رقص على حد السيف. منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة – سلسلة رقم 63. الطبعة الأولى 2019. ص27
• م . ن/ ص 40
• م . ن/ ص 49
• م . ن/ ص 51
• م . ن/ ص 64
• م . ن/ ص 84
•م . ن/ ص 91
• جي.جي. كلارك. ترجمة شوقي جلال: التنوير الآتي من الشرق. عالم المعرفة. العدد 346. ص 183.
• د. خالد أمين: المسرح والهويات الهاربة.. رقص على حد السيف. منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة – سلسلة رقم 63. الطبعة الأولى 2019. ص 105
•م . ن/ ص 105
•م . ن/ ص 104
•م . ن/ ص 248
بقلم: كريم الفحل الشرقاوي