قراءة في مسرحية “صومعة حسان تحكي… مدينة الأدوار والأنوار” للكاتب عبد الجليل الهجراوي

ينفتح النص المسرحي “صومعة حسان تحكي… مدينة الأدوار والأنوار” للكاتب عبد الجليل الهجراوي، على جمالية الفضاء المكاني، ليس على مستوى السياق المكاني للأحداث فحسب، لكن على مستوى التشكيل الجمالي والدرامي أيضا. فهو نص تاريخي يستحضر مراحل بناء مدينة الرباط تاريخيا وحضاريا وفنيا، ويتجلى ذلك منذ العتبة الأولى (صومعة حسان تحكي… مدينة الأدوار والأنوار)، حيث يرتبط العنوان ارتباطا عضويا بالمدينة التي تتحول إلى متحف مخيالي صوري (Musée Imaginaire)، يستمد منه محمد عبد الجليل الهجراوي مادته الدرامية. عاين الكاتب المدينة من خلال ثلاثة مستويات إدراكية، وهي النظر والتذكر والتثمين، لتصوير الواقع التاريخي للمدينة وصوغه وفق آلية بصرية، تعمق البنية الدرامية وتعطيها أكثر من دلالة.

“صومعة حسان تحكي… مدينة الأدوار والأنوار” هو نص مسرحي تاريخي واجتماعي، يزاوج بين الدراما والتاريخ، المرجعي والمتخيل، الأمر الذي جعل الهجراوي يحمل صفتين لا تقل إحداهما عن الأخرى شأنا، فهو كاتب درامي ومؤرخ، لكن لم يطغ على نصه البعد التاريخي فحسب، وإنما طعمه بما هو جمالي ودرامي، بالاعتماد على تقنيات السرد والتذكر، وابتكار أحداث درامية تمزج بين الواقعي والمتخيل، الاجتماعي والرمزي، والجدي والهزلي، والإحالة على الواقع المرجعي بالعودة إلى الذاكرة الحية واستحضار الأحداث التاريخية التي مرت منها مدينة الرباط، وتوثيق التواريخ السابقة لقيامها، والإحالة على نكبة الاستعمار، ورصد تحولات المدينة بين الماضي والحاضر، «تحفل مدينة الرباط بتاريخ زاخر ذي أبعاد ونتائج محلية ووطنية وحتى عالمية، فمجالها الطبيعي المتميز دفع بالإنسان أن يستقر بها ما يزيد ثلاثمائة ألف سنة» (ص: 5).

عاد محمد عبد الجليل الهجراوي إلى تاريخ مدينة الرباط ليبين أن ما يعيشه المغرب الحديث ما هو إلا امتداد للماضي العريق في أبعاده الجغرافية والتاريخية والهوياتية.. فمدينة الرباط، في تكوينها الرمزي والأسطوري، هي مدينة الأنوار/الأضواء، وفضاء درامي شاسع وممتد، قائم على تعددية مدينية واضحة، فمن خلال هذه التعددية يثير النص أسئلته الوجودية، عبر مسارات سردية ودرامية متشعبة تشكل النسيج الجامع لهذه التعددية الجمالية. إن النص الدرامي على طوله يكشف تاريخية المدينة وواقعها الجغرافي عبر مخيلة درامية تستقدم المعلومات والأحداث من مكمنها، فتصبح الشخصيات جزءا من هذه المدينة، تستوعب وجودها، وتثير أسئلة اجتماعية مقلقة، في أجواء حكائية تستمد من الموروث عمقها وسرديتها وحيويتها الدرامية.

تتحرك الشخصية (المدينة) بتنوعاتها المختلفة التاريخية والجغرافية والهوياتية لتشكل نقطة جذب تتآلف معها الشخصيات تآلفا حميميا وحكائيا، وتصبح هذه العملية السردية/الدرامية المدار الأهم لرسم البؤرة الهندسية المحيطة بالمدينة، حيث يتداخل صوت المدينة بصوت الشخصيات في شبكة نسيجية تقوي آصرة هذه المدينة وعلاقة هؤلاء بها، فتصبح المدينة بمختلف أقطابها وتوجهاتها متداخلا ذاتيا (Représentation Intersubjective) تمتزج بأصوات الشخصيات الدرامية، وتفعل منطق الوجود الذاتي والجماعي، وتثير العديد من الأسئلة وتبحث عن روافد الإجابة عنها عبر المنظور التاريخي والواقعي. إن اجتماع المتخيل والواقعي في مسرحية (صومعة حسان تحكي… مدينة الأدوار والأنوار) ينتج كونا خياليا تتزاحم فيه الأصوات وتتداخل الأماكن، وتمتزج أحداث الماضي بالحاضر، وينصهر السرد بالحوار، مما ينتج بنية درامية حوارية متشظية وتشذيرية، تخترق قوانين اللعبة الدرامية وأنظمتها، وتجعل الفضاء المديني متشعبا ومتشظيا ومتداخلا.

يبدو أن النص الدرامي منذ بدايته خاضع للوعي المكاني، وتلعب الحواس دورا أساسيا في تشكيل المدينة وشحنها بالأبعاد الوجدانية والرمزية والإيديولوجية، وحضورها يتعدى الحدود الجغرافية الواقعية، ليكون مكانا ذا وجهين، الأول: هو الإطار الخارجي لظواهره المادية المعيشة، وأما الثاني: فهو الجانب الروحي العميق للمدينة، والذي يجعلها مكانا وزمانا يثير بساكنيه إحساسا عميقا بالمواطنة، فالمدينة بأماكنها المادية والرمزية المختلفة، تحضر في فكر ساكنها واقعا ورمزا، وتاريخا قديما وآخر معاصرا، وحقيقة وخيالا… جاء الفضاء واسعا وممتدا ساهم في بناء الحبكة الدرامية في تشذيرها، وكشف لنا عن أهمية الأحداث التاريخية للمدينة وعاداتها وتقاليدها، باستخدام تقنية السرد الزمني، والانتقال بين الأمكنة والأزمنة، واستعمال الذاكرة والحكي الاستعادي والتداعي الحر، واستخدام صيغ السرد المشهدي والبصري، والتجوال بين الماضي والحاضر لإعادة إحياء الذاكرة الفردية والجماعية التي غالبا ما يتم سحقها ونسيانها.

حرص الكاتب محمد عبد الجليل الهجراوي على استحضار مفردات المدينة وتاريخها وجغرافيتها، لتبقى في ذاكرة الأجيال حية ويقظة، ويمكن أن نقول بأنه غطى مختلف مراحلها التاريخية، لكن الكتابة النصية لم تكن وثيقة تاريخية خالصة، وإنما تخللتها أسئلة اجتماعية حارقة، اغترفها الهجراوي من الواقع الاجتماعي من خلال التركيز على جدلية العلاقة بين الرجل والمرأة، والمناقشة بعمق واقع المرأة في المجتمع المغربي، ويتجلى ذلك في حوار الشخصيتين الرئيسيتين (خالد وفتيحة)، حيث نجد صراعا دراميا حادا بينهما، من خلال عقد مقارنة بين وضعية المرأة في الماضي والحاضر، «إيوا أسيدي اليوم المرا راها ولات طبيبة أو مهندسة أو محامية أو أستاذة أو قاضية أو وزيرة أو شيفورا ديال التران والطوبيس والطاكسي والطيارة والبابور، أو ممثلة أو مخرجة… أو زيد أو زيد» (ص: 18).

يبدو جليا انحياز الكاتب عاطفيا وفنيا لقضية المرأة، وتفنن في رسم ملامحها وطريقة تفكيرها وتحركاتها داخل الفضاء الدرامي، يحذوها سعيه الدؤوب في إبراز دور المرأة، والمضي في مشروعها، وإضاءة ما خفي من عالمها، في مجتمع مليء بالأفكار الرجعية الهدامة التي تغيب الكيان الوجداني والفكري للمرأة، وتطمس رؤيتها للحياة في غناها وعمقها، «خالد: تبارك الله عليكم أللا ما خليتو حتى شي حاجة يضرها راسها… ولكن حنا أللا بغينا حتى لمرا اللي تكون فالدار وناكلو من صبيعات يديها، وتقابل راجلها وولادها» (ص: 18).

في أسلوب لا يخلو من المراوغة، والمشاغبة والسخرية اللاذعة، يلعب الكاتب بالكلمات والأنظمة اللغوية، ويكثف من اللغة العامية التي تنفتح على الواقع المعيش، وتعرض رؤى الشخصيات للعالم، وتحد من رؤية المؤلف وسلطته، وتفتح آفقا للقارئ النموذجي حسب تعبير أمبرتو إيكو، أي القارئ المتمرس الذي يدرك حقيقة أن النص الدرامي الذي بين يديه يمثل غيابا لا حضورا، لانطوائه على دلالات غائبة / مؤجلة /مرجأة في سلسلة لا متناهية من الإحالات التاريخية والاجتماعية والرمزية… فالبنية النصية في مسرحية “صومعة حسان تحكي… مدينة الأدوار والأنوار” تحكمها قاعدة التشتيت والانتشار (Dissémination) التي قال عنها دريدا «التحرك المفتوح والمنتج للسلسلة النصية» (جاك دريدا، مواقع وحوارات، ص: 46).

تتأسس الكتابة الدرامية في “صومعة حسان تحكي… مدينة الأدوار والأنوار” على المزج بين البعد الواقعي والتاريخي، والتداخل بين الحوار والسرد والاسترجاع، مما يجعل السرد شذريا ومفككا، ينتهك المفهوم التقليدي للحبكة الدرامية الذي يقتضي وجود حكاية نواة يتم تطويرها على امتداد المساحة النصية، وفق سرد ذي تسلسل كرونولوجي تحكمه بداية ووسط ونهاية، لكن نص محمد عبد الجليل الهجراوي يعمل على تفريع السرد وتكسير تعاقبه الزمني، وتوظيف الحكي التذكري، لإبراز المكان الجامع للمتعدد والمختلف والمؤتلف، بتداعياته الخارجية المفتوحة والمغلقة، وامتداداته الشاسعة وأبعاده التاريخية والطوبوغرافية، فالمدينة تمثل الوطن الكبير الجامع، وبه تتشكل كينونة النص الدرامي وبنياته الفنية والدلالية.

بقلم: دة. فاطمة أكنفر

Top