لقاح كوفيد – 19 وسيرورة الشك

أثبت التاريخ الطبي بشكل لا يرقى إليه أي شك، جدارة اللقاحات في إنقاذ الأرواح والقضاء على بعض الأمراض الخطيرة والمعدية؛ كالحصبة، والجدري، والزهري والتهاب السحايا وشلل الأطفال.. إلا أنها لم تكن، رغم جدارتها، محط إجماع وقبول، بل ظلت دائما محط جدل ورفض اجتماعي واسع، نظرا لملازمة الشك لكل عملية تطعيم محتملة، تهم دواعيها وأضرارها المحتملة. وبالعودة إلى بعض الشهادات والوقائع، يلاحظ، وبشكل عام، توسع مستمر لتلك الانطباعات الشكوكية مع كل محاولة استئصال الأمراض الخطيرة والمعدية عن طريق التطعيم. فقد كان الجدري مرضا فتاكا وقاتلا، ورغم ذلك، رفض الكثيرون الحصول على التطعيم ضد هذا المرض. وتعتبر رابطة مناهضة التطعيم في لندن سنة 1853 واحدة من بين الحركات الاجتماعية الأولى المناهضة لفكرة اللقاحات كحل طبي آمن.
وفي العموم تشكك معظم هذه الحركات المناهضة لهذه اللقاحات، في دواعيها السياسية والاقتصادية والطبية، كونها غير آمنة ولا يمكن الوثوق بها في ظل غياب ضمانات حقيقية تؤكد فعاليتها الطبية ومأمونيتها الصحية.
ففي سنة 2003 دفع مجموعة من رجال السياسة وبعض رجال الدين في شمال نيجريا الأسر والمجتمع المدني إلى مقاطعة حملات التحصين ضد شلل الأطفال، وعدم السماح للهيئات الطبية الدولية بتطعيم أطفالهم، حيث ساد اعتقاد بين النيجيريين أن اللقاح ملوث بعقاقير مضادة للخصوبة، وحامل لفيروس نقص المناعة المكتسبة. وهو ما أدى إلى وقف عملية التطعيم، ودخول في مفاوضات دولية وإقليمية طويلة لإقناعهم بضرورة قبول التطعيم.
عاشت نيجيريا وضعا صحيا مقلقا وقتها، ورغم ذلك قرر الأهالي مقاطعة هذا اللقاح وعدم الامتثال إلى قرار الحكومة وتوصيات المنظمات الصحية الدولية، حيث سبق للمبادرة العالمية للقضاء على شلل الأطفال GPEI أن عبرت عن قلقها بشأن ارتفاع معدل انتشار شلل الأطفال في نيجريا، إذ بلغ 45 في المائة من مجموع حالات شلل الأطفال في جميع أنحاء العالم، و80 في المائة من الحالات المصرح بها أفريقيا سنة 2003.
يدفعنا هذا الوضع في الحقيقة إلى التساؤل عن ماهية هذه المقاطعة، في ظل وضع اجتماعي صحي ينذر بكارثة إنسانية حقيقية، وضع يشبه إلى حد ما الانتظار على بعد خطوات من الإبادة الجماعية. والحال أن الإجابة عن ماهية هذه المقاطعة في تقديري تكمن في البحث داخل الذاكرة الصحية للمقاطعين.
وتعود جدور هذه المقاطعة إلى اتساع دائرة الشك والارتياب؛ وهي في الحقيقة نتيجة لا تحتاج منا جهدا كبيرا للوصول إليها. فمن خلال الاطلاع على جملة من الدراسات ذات الصلة بموضوع اللقاحات في نيجيريا، تبين وبالخلاصة وجود ثلاثة عوامل رئيسة مفسرة لهذه المواقف الداعية إلى مناهضة ومقاطعة اللقاحات في شمال نيجيريا، وكلها عوامل توسعت في ظل غياب الثقة وتمدد دائرة الشك على حساب المصداقية السياسية والطبية.
العامل الأول: عامل ديني يعتبر اللقاحات مجرد وسيلة من وسائل الغرب للقضاء على مسلمي نيجيريا، وهي جزء من عمليات التطهير الديني والعرقي التي يتعرضون لها، كما يسود اعتقاد أن هذه اللقاحات تمثل الوجه الآخر للحرب ضد المسلمين الأفارقة، وهي صورة لما تفعله الولايات المتحدة الأمريكية في العراق وأفغانستان.
العامل الثاني: غياب الثقة في الفاعل السياسي، حيث أعرب الكثير من النيجيريين عن امتعاضهم من هذه اللقاحات، واعتبروها محاولة من الدولة للسيطرة عليهم من أجل تقليص التوسع الديمغرافي، لا سيما بعد تبني إدارة الرئيس إبراهيم بابانجيدا Babangida وقتها سياسة سكانية بموجبها يحدد سقف أربعة أطفال لكل امرأة.
العامل الثالث: طبي أخلاقي، حيث تم رصد مجموعة من التجارب الطبية غير القانونية، والتي أجريت على الأطفال مباشرة بعد انتشار وباء التهاب السحايا، حيث أقدمت الشركة الأمريكية الشهيرة في صناعة الأدوية ”فايزر Pfizer” سنة 1996 بالقيام بتجارب سريرية على الأطفال من دون علم عوائلهم، والتي أدت إلى وفاة 11 طفلا شمال نيجيريا.
وفي المحصل؛ لقد أوجدت المقاطعة سندها وشرعيتها في عوامل تفرضها وتبررها قوة الواقع، مما أدى إلى الاعتقاد بوجود نوايا ودوافع تطهيرية ضد سكان شمال نيجيريا، لا سيما في ظل الفروق الاجتماعية والاقتصادية الشاسعة بالمقارنة مع سكان الجنوب، كما أن الصراع الإسلامي المسيحي ظل حاضرا في جل الصراعات الدائرة بين أهالي الشمال والجنوب. إذ تجدر الإشارة إلى أن حضور الجانب الديني لا ينفصل في الحقيقة عن تاريخ التطعيم ضد الأمراض الخطيرة والمعدية، بل ملازم له.
فإذا كان إسلاميو شمال نيجيريا تزعموا التحريض ضد التطعيم، فإن الواقع لا يعني أن الإسلاميين ينصرفون وراء تأويلات دينية ربما غير منطقية أو تتعارض مع موقف العلم والتقدم الطبي، وإنما هي حالة تعرفها بعض المجتمعات الدينية ولو بدرجات متفاوتة، وعلى سبيل المثال، نجد كيف أن الكنيسة الكاثوليكية هي الأخرى تقلل من شأن اللقاحات، وتدعو الناس إلى الدعاء والتضرع طلبا للشفاء أو اللجوء إلى العلاج الطبيعي بدل الحصول على هذه التطعيمات. ففي الولايات المتحدة الأمريكية يتم إعفاء المواطنين من التطعيمات الإلزامية للأطفال والمراهقين بناء على معتقداتهم الدينية، من خلال حصولهم على وثيقة الإعفاء من الكنيسة.
وينضاف إلى هذا الواقع، الفساد السياسي والذي ينعكس سلبا على قانونية التجارب الطبية، وذلك ما أكدته تجربة فايزر غير الأخلاقية وغير الآمنة التي راح ضحيتها 11 طفلا. هذه الوقائع لم تدع أي مجال للشك أمام النيجيريين للاعتقاد بفساد هذه اللقاحات والإلحاح على مقاطعتها خوفا من التطهير العرقي.
فمهما كان هذا النموذج ”النيجيري” يمثل من حيث المحصلة نموذجا استثنائيا من حيث قوة الشهادات الداعمة للمقاطعة، فإننا نجد في المقابل أن معظم النماذج المناهضة للقاحات تستند على حجج غير واقعية أو على الأقل غير دقيقة طبيا، تتغذى على المغالطات والأخبار الزائفة والشائعات، والنتيجة هي اتساع نطاق التباعد بين الفاعلين السياسيين والمواطنين، فاتساع دائرة الشك ليست وليدة الأزمة الصحية العالمية الحالية، وإنما هي نتيجة تراكم أزمات سابقة، فشل فيها الفاعل السياسي في تبرير أخطائه. وباختصار؛ انعدام الثقة يولد الخوف والقلق وعدم الاطمئنان، ويؤدي إلى تأويلات اجتماعية غير موضوعية أو على الأقل غير دقيقة.
إن غياب الكفاءة في تقدير المواقف يؤدي إلى انخفاض توقعات المجتمع ومصداقية أجهزة الدولة، وهو ما يغدي هذا الشك المتزايد ورفض الناس لهذه اللقاحات. والحال أنه لا يجب فهم هذه المواقف خارج سيرورة الشك، وفي سياق اجتماعي وتاريخي طبي متصل بالمجتمعات أو الفئات الرافضة لهذه اللقاحات، وفي تقديري أعتقد أن ليس هناك مبرر لوصف موقف رفض الأفارقة أو الأسيويين لهذا التطعيم؛ بالمتخلف والرجعي، مادام تاريخ اللقاحات يحيل على تاريخ عنصري لم يكن رحيما بهذه الفئة، فإن هذا التاريخ وحده كفيل برفض أي نوع من التطعيمات.
وبما أن المغرب جزء من هذه الجغرافيا الأفريقية، فالأكيد أن ينعكس ذلك بلا شك على مسار التطعيم بالبلاد. ففي سياق النقاش والجدل الدائر بعد إعلان الحكومة تطعيم المغاربة باللقاح الصيني ضد فيورس كورونا، دوّن الكاتب الصحفي يونس دافقير على حسابه في الفايسبوك مستسهلا قيمة الثقة ودورها في الامتثال للتطعيم، ويقول: “لا يجب علينا الاهتمام كثيرا بالآراء التي تعتقد أن عدم امتثال المغاربة لقرار التطعيم نابع من أزمة ثقة، كون هذه الآراء مجرد أسطوانة مشروخة”. هذا الرأي، ربما لم يأخذ بعين الاعتبار فكرة عدم الامتثال بوصفها فعلا يجسد هروبا نحو دائرة الأمان المحتملة، فإذا كان عدم الثقة أسطوانة مشروخة، فلماذا يشكك المغاربة إذن في دواعي هذا اللقاح؟
وفي المقابل، لابد أن نتفق أيضا مع ما درج إليه الصحفي دافقير في كون موقف عدم الامتثال ورفض التطعيم يمثل عقبة حقيقية أمام القضاء النهائي على الفيروس والانتقال به إلى مرحلة الصفر. لكن رغم ذلك يحق لنا التساؤل بناء على ما تقدم، كيف سيقتنع المغاربة بهذا اللقاح الصيني؟ هل بنفس الاستراتيجية؟ أم هناك وعي مشترك بالمرحلة التي وصلنا إليها؟ والظاهر أنه مازال هناك خلط بين مرحلة تدبير الجائحة والحد من انتشارها وبين مرحلة استئصال الفيروس، والأصل أن لكل مرحلة ديناميتها. والسؤال الأهم، لماذا علينا الامتثال لهذا التطعيم؟ أو بتعبير آخر، لماذا علينا رفض هذا التطعيم أو على الأقل هذا اللقاح الصيني؟ إن الإجابة على هذا السؤال، كفيلة أن تنبأ بما سيحدث في المستقبل.
فلو عدنا إلى استعراض بعض أراء المواطنين بخصوص هذا اللقاح، فإننا لن ندخر أي جهد لملاحظة كيف أن طيفا من المغاربة لا يثقون في هذا اللقاح، يقول شاب مغربي:” أنا في الحقيقة في حيرة من أمري، لست أدري إن كنت سأخطو هذه الخطوة أم لا، أنا خائف أن يكون اللقاح حاملا لمواد ربما قد تؤثر على صحتي مستقبلا…” وتقول شابة أخرى:” أنا أرفض تقبل اللقاح، لأنني أجهل تفاصيل صنعه، ولا أدري ما إذا كان جسدي سيتقبل اللقاح بشكل إيجابي أم سلبي،… لذا لست مستعدة لهذا التطعيم”. ويقول رجل خمسيني: “لست متأكدا مائة في المائة بأن اللقاح سيكون حقا فعالا للقضاء على كورونا، ولهذا فإنني متخوف منه… ولست مستعدا لكي أكون مجرد ضحية استثمارية لدولة غرضها البيع والشراء في هموم الناس (يقصد الصين)”. ويقول شاب آخر: “إننا بحاجة إلى تلقيح ضد الفقر والبطالة أما كورونا لم تؤثر علينا…” وشابة آخرى تقول: “سمعت بوجود اللقاح بالمغرب، ولكنني لست مستعدة للتطعيم…” ويقول آخر: “لن أقوم بالتطعيم إطلاقا، فقد رفضت ذلك في السابق ضد الزكام الموسمي… أنا أرفض فكرة التلقيح من أساسها، لأني ببساطة لا أثق مطلقا باللقاحات الغربية، ولكن لو كان اللقاح من إنتاج مغربي يمكن الوثوق به أكثر”. (آراء مأخوذة من وسائل إعلام محلية على اليوتيوب؛ – ميكرو طروطوار- حول رأي المغاربة من اللقاح). وتجدر الإشارة أن هذه الآراء لا يمكن اعتبارها رغم ذلك بمثابة عينة تمثيلية يمكن الانطلاق منها لتحصيل خلاصات وتنبؤات دقيقة، ولكن في نفس الوقت لا يجب استسهالها في ظل غياب دراسات استطلاعية حول آراء المغاربة من اللقاح.
تلخص هذه الآراء؛ الكثير من الإجابات عن رفض محتمل لهذا التطعيم. الشك، التردد، الارتياب، الخوف، وعدم اليقين… كلها تعبيرات تعبر في الحقيقة عن شيء واحد؛ هو وجود أزمة ثقة لا يستهان بها، أزمة تعززها تمثلات المغاربة حول منظومة الصحة، حيث يعتقد الكثيرون مغاربة أو غيرهم أن شركات الأدوية لا تولي أي اهتمام للصحة العامة بقدر اهتمامها بالإيرادات والأرباح. إن ما يجب الانتباه إليه، أن المغرب ليس البلد الوحيد الذي يعيش هذا الوضع، بل العالم كله يعيش على وقع أزمة ثقة حقيقية، خاصة مع تدفق المعلومات وسهولة الوصول إليها، وهو ما يؤثر بلا شك على قرارات الأفراد واختياراتهم. فعندما تتآكل الثقة وتتراجع مستويات الوعي الصحي، فإننا نكون قد سلمنا أنفسنا إلى المجهول، لا سيما مع انتشار الأخبار الزائفة والمضللة أحيانا. إن ثقة الجمهور أساسية في تعزيز الصحة العامة، فبدون امتثال شامل للتطعيم، لن يكون لهذا اللقاح تأثير كبير. ويبقى أن نقول: إن الامتثال للتطعيم لا يعني على الإطلاق الاستسلام لوخز الإبرة فقط، وإنما أيضا، الامتثال الشامل لقواعد السلامة الصحية بدءا بتوفير لقاحات آمنة ومعلومات صحيحة.

> بقلم: ياسين بوشوار
باحث في التواصل السياسي

Related posts

Top